يتولَّد المرح القرائي من قارئ شَيَّد لنفسه مقاما في جنّة القراءة، ويتحقَّق المجد الكتابي في كاتبٍ فتح كتاباته على مجهولٍ تنبثق منه احتمالات لا متناهية، وأساس هذا المجد هو كون الكتابة تنتسب إلى اللانهائي، إننا نستهدي بسؤالين يقترنان ويتطابقان مع عنوان المقال، السؤال الأوَّل: ما تجلّيات المرح القرائي؟ والسؤال الثاني: متى يتحقَّق المجد الكتابي؟ سؤالان رئيسان ممهّدان إلى أفق الانفتاح على أسرار القراءة والكتابة، باعتبارهما فعلين مترابطين، لا يمكن الفصل بينهما. فعلان صعبا التحقُّق في قارئٍ ما، وشديدا التعقيد أيضا، فمتى كانا متحقّقين في شخصٍ ما، ضمن بالأساس مقاما في جنَّة القراءة، ليتمثَّل فيه المرح القرائي، ويتحقَّق له المجد الكتابي، الذي لا نقصد به الشهرة التي يذيعها التسوُّق الإعلامي، وأَدُلُّ القارئ بأنني اعتمدت في بناء هذا الموضوع على كتاب الباحث “خالد بلقاسم”: “مرح القراءة”، ومشروع الباحث في أساسه لا ينفصل عن تمجيد فعلي القراءة والكتابة، في سعيه إلى رسم حدودهما، ووضع أسسهما، وتقريب القارئ من أسرارهما.
تجلّيات المرح القرائي:
أن تَصِلَ إلى المرح القرائي، هو أن تكون القراءة قد وجدت فيك بعض أسرارها وخباياها، وأن تكون قد أدخلتك إلى ورطتها التي لا خارج لها، وأن تفتحك على آفاق لا متناهية من الاحتمالات أثناء العمليَّة القرائيَّة في حفرِ النصوص، وكشف ما خبا فيها من المداليل المخبوءة والمضمرة، تجلّيات المرح القرائي تتبدَّى في قارئٍ عميق يجعل النصوص المقروءة منفتحة على امتدادات تأويليَّة، تتحاور مع نصوصٍ أخرى تنوسيت، أو تمَّ جهلها، ولكنها تحيا عبر سيرورة قرائيَّة يمارسها القارئ العميق، الذي يصل إلى درجة المرح، معناه إحساسه باللَّذة والمتعة في آنٍ، ويصعب أن يصل الواحد منَّا إلى المرح في القراءة، فالأمر معقَّد وشديد، لأنَّ تحقُّق صفة المرح يستوجب إقامات نهاريَّة وليليَّة مع القراءة، فهي دائما ما ترفع عنَّا رأسها، وتتعالى عنَّا ولا تحايثنا، وتضايقنا وتستفزّنا، وتحتقرنا، وتجعلنا نشعر بالألم والشدَّة، وتعلّنا وتمرضنا، وما لم تكن قارئا عميقا يصعب عليك تجاوز هذه المحنة، هي بمثابة اختبار لا شعوري يمرُّ منه القرّاء، والقلَّة القليلة هي من تفلح فيه.
إنَّ القراءة كي تشعرك بالمرح لا بد أن تشعرك بالمحنة والألم، حتى تستطيع ملامسة بعض خيوطها، والقبض عليها، لتنسج بها لنفسك شبكة من الخطوط الممتدَّة التي تقرّبك من الإحساس بالمتعة أثناء العمليَّة التأويليَّة، ينبغي أن تحسَّ في يومك القرائي بالمرح، وتتأكَّد من هذه الصفة هل هي مجسَّدة فيك أم أنها فقط تَمثُلٌ يأتيك ويذهب، كأنَّهُ وَهْمٌ فيه مَساسُ مُتْعَةٍ فتنقضي، حينما يمرّ يومك دون قراءة فتشعر بالضجر والقلق، ههنا تصبح القراءة ضرورة يوميَّة للقارئ الذي تحقَّقت فيه صفة المرح، إنَّه يحيا ويعيش بالقراءة، ويخلق لنفسه حياة أخرى خاصَّة به.
القراءة بهذا الأساس ليست مداعبة لصفحات الكتاب، وملاطفة لها، أو المرور عليها مرورا عابرا، بل القراءة فعل ينفتح على مجهولات لا نهائيَّة، تخلق مرحا قرائيّا يتجلَّى في فتح النصّ المقروء على أبعاد متواردة من الاحتمالات، قراءة تتشابك وتتساند مع تمثُّلات معرفيَّة وفكريَّة وخياليَّة متباينة، ففي المرح القرائي يلتقي الفكري بالأدبي، والواقعي بالخيالي، ويصير الألم القرائي متعة ولذَّة لا يصل إليها إلا القارئ الذي توافرت فيه أسرار القراءة، أو عثرت فيه على بعض تجلّياتها المأخوذة من نهرها الكبير، واللامتناهي.
نهر القراءة منبعه لا متناه، يتدفَّق من مكان صعب التحديد، ومعقَّد الوجهة. تتعالى القراءة؛ لأنَّ أصلها مجهول، والقبض عليها بمثابة القبض على الماء، تمنحك ظاهرها السهل غير المعقَّد، الذي يصل إليه القارئ المبتدئ، وتخفي عنك أشياء صعبة الإدراك والتحقُّق، وشديدة التحصيل والامتلاك، هي مسائل تقترب منها وتُحَصّلها واحدة واحدة، حينما تعثر فيك القراءة على تجلٍّ من تجلّياتها، ففي هاته الحالة تجيز لك أن ترفع عنها رأسك، وتفتح لك باب مقام جنَّتها، وتناديك كلما صرت بعيدا عنها، وترويك من نهرها إذا ظمئتَ، وقد توصلك إلى التصدُّعات التي يتدفَّق منها نهرها، إنها تجذبك إلى مرحها ومتعتها ولذّتها، وأقول بهذا إنني لست قارئا، وأتمنَّى أن أكون قارئا مرحا، أعيشُ بالقراءة وأحيا بها.
القرَّاء الذين يقرأون كثيرون، ولكن لا يمتّون للقراءة بصلة، هم يَعْبُرون فوق سطحها لا غير، تقترن لديهم القراءة بالتباهي، وبما أنها رافعة رأسها بتعبير عبد السلام بنعبد العالي، فإنَّها تلقي بهم في متاهة النسيان، وتفزعهم وتضجرهم، لكونهم أرادوا التباهي عنها، والاقتراب من نهرها بسرعة؛ والسرعة _كما جاء في “البطء” لميلان كونديرا_، مقترنة بالنسيان، والبُطء مقترن بحدَّة الذاكرة، وعليه فالقراءة المرحة تحتاج إلى البطء، لكي تحتفظ بالقارئ في ذاكرتها الممتدَّة، وتجعله يشرب من نهرها الملآن، إذا أردت خوض حرب القراءة ينبغي أن تتسلَّح بآليَّات قرائيَّة تمنحها القراءة نفسها، إنَّها تنكشف في القارئ متى وجدت فيه مسارا من مساراتها الكبرى، وتتجلَّى _كما ذكرها بلقاسم _ في العمق والمرح والقطع والتمديد والتفتيت والجمع، آليّات منبثقها التجلِّي القرائي المرح، الظاهر في الأسرار التي وجدتها القراءة في القارئ العميق الذي يوظّفها، ويجعلها رئيسة في لعبه التأويلي الخلّاق، والمرح القرائي بهذا، يرتبط بالمجد الكتابي، إنّ تَولّدَ الأوَّل في القارئ يحقِّق له الثاني، مرحك القرائي يبسط لك ملمحا آخر من أسرار فعلي القراءة والكتابة، وهو تحقُّق المجد الكتابي بدل المجد الإعلامي، الذي يلجأ إليه الكاتب حينما يموت كتابيّا.
إنَّ تجلّيات المرح القرائي، متجلّية في القارئ الذي عثرت فيه القراءة على بعض أسرارها، بوصفها فعلا لا متناهيا، يمتدّ ويرتدّ في آنٍ، ويكشف عن المجاهيل والمضمرات، يقول بلقاسم في كتابه: “مرح القراءة”: “إنَّ حيويَّة الفعل القرائي وانتسابه إلى اللانهائي وكشفَهُ الدائم عن غموض الأشياء يؤكِّد أنَّ هذا الفعل ليس منشغلا برصد المجهول واستجلاء أسراره وحسب، بل هو ذاته لا ينكشف أبدا، لذلك لم يكن هذا الفعل، على امتداد مساره الطويل، منفصلا عمَّا يقوم به، ولم يسلم من تحوّله هو نفسه إلى موضوع للقراءة، كما لو أن هذا الفعل لا يستثني شيئا، بما في ذلك ذاته”، ص9.
يقرِّبنا الكاتب من تجلِّيات المرح المرتبطة بحيويَّة فعل القراءة، الظاهر أساسا في كشفه عن كل ما خبا في النصوص، والتطلّع إلى الاقتراب من أنساقها المضمرة، واستجلاء مخبواءتها، وتحقيق بواطنها، وجعلها متعيّنة للمتلقي، وبهذه الأمور ينتسب الفعل القرائي إلى اللانهائي، هو فعل ينقش في كل شيء، يبحث عن ما يسعفه على تحقّقه، ولا يكتفي باستطلاع خبايا النص فحسب، بل يتحوَّل هو أيضا إلى موضوع للقراءة، لا يترك شيئا إلا وتسلَّل إليه، حتى ذاته لم يتركها، فعل يرفع رأسه ليرى الأشياء الظاهرة والخفيَّة، فعل يتعالى ويترفَّع دائما، وقلّ ما تجده متجلّيا في قارئ ما. القراءة لا تسلمك مرحها إذا لم تكن قد عشت معها عليلا، وأقمت معها إقامات ليليَّة، لن تكون طائعة ما لم تكن قارئا عميقا ومرحا وممتلكا آليتي التمديد والقطع.
إنَّ القراءة كي تشعرك بالمرح لا بد أن تشعرك بالمحنة والألم، حتى تستطيع ملامسة بعض خيوطها، والقبض عليها، لتنسج بها لنفسك شبكة من الخطوط الممتدَّة التي تقرّبك من الإحساس بالمتعة أثناء العمليَّة التأويليَّة.
متى يتحقَّق المجد الكتابي؟
المجد الكتابي ليس هو تحقيق الشهرة كما قال بلقاسم، إنما هو جعل الكتابة خالدة مفتوحة على مجهولات لا نهائيَّة، واحتمالات امتداديَّة، فتحقيق الشهرة مجدٌ مصطنعٌ يحقِّقه التسويق الإعلامي لكاتب أتاه الموت الكتابي غفلة، وقد فَصّلْتُ وشرحت هذه الفكرة في مقال “القارئ عدوًّا أو الموت الكتابي للقارئ”، إنَّ تحقيق المجد الكتابي للكاتب يتطلَّب وعيا تاما بمطالب القارئ، وتسلّحا ضدّ تمرُّد القراءة القاتلة، فَمِنَ القراءات ما يحيي ويميت النصوص المقروءة، فالحياة متجلّية في أنَّ النصوص تحتاج إلى قارئ عميق يمارس عليها قراءات لا متناهية، والموت متجلٍّ في أنَّ القارئ يتملَّص من النصّ متى وجده مملّا وغير قادر على استمالته، وفي هاته اللحظة يحدث الموت الكتابي الذي يسبق الموت البيولوجي، ممَّا يجعل الكاتب يبحث عن مجدٍ آخر مصطنع تعود سلطته إلى التسويق الإعلامي، المجد الكتابي في تحقّقه مرتبط بمواصفات المرح القرائي، معناه أن المجد لا يتحقَّق إلا في كاتب وُجدت فيه أسرار فعل الكتابة. فعل يتدفَّق منبعه من نهر القراءة نفسه، هما فعلان لا فاصل بينهما، يتحقَّقان في قارئ تمثَّلت فيه أسرارهما وتجلّياتهما.
سأسوق في تحديد قضيَّة المجد الكتابي نصوصا من كتاب “مرح القراءة” لخالد بلقاسم، مُعَانَقَةً لسؤال متى يتحقَّق المجد الكتابي؟ لأنَّ الاستهداء بالسؤال يقرِّبنا أكثر من الموضوع، فالمجد الكتابي هو أن تنتسب كتابات الكاتب إلى اللانهائي، وأن تضمن حياة لا متناهية، هي كتابات تحيا حيوات متعدِّدة، بفعل أفق الاحتمالات التي تفتحها القراءات المرتبطة بفعل القراءة، التي تمنح للنصوص صفة الخلود، والخلود هنا بعيد عن المقصد الديني. الكاتب الممارس لفعل الكتابة يسعى وراء المجد لكتاباته لا لنفسه، لا يهمّه الذيوع والانتشار، همّه الأكبر أن يحصّل مجد الكتابة لكي يتجاوز موته الكتابي، إنَّه يتغيّا تأمين مكتوبه في منطقة لا نهائية المعنى، منطقة تتوارد منها الأسرار والمداليل، تتجدَّد في كل قراءة، كتابات المجد الكتابي تحصِّن نفسها لمواجهة القراءات القاتلة، التي يمارسها القراء العاديّون، وإذا ما أمَّن الكاتب لكتاباته مأمنا في منطقة اللانهائي، يكون وقتئذ قد تحقَّق له المجد الكتابي، مجد صعب التحقّق ومعقَّد التأمين، إنه لا يقلّ أهميَّة عن المرح القرائي.
المجد في الكتابة نوعان، مجد كتابي لا متناه، يتحقَّق ذاتيّا، ومجد كتابي مصطنع يتحقَّق إعلاميا، هَمّ الأول هو الانتساب إلى اللانهائي، وهمّ الثاني تحقيق الذيوع والانتشار. والاقتناع بفكرة اللانهائي، مُولِّدَةٌ لكتاب يصمد في وجه القراءة القاتلة، وحرقه يُخلدُ في الجو دخانا لا ينتهي. والسير وراء الذيوع يخلق شهرة تغطِّي زيف الكتابة الهشَّة، تتلاشى من شدَّة هشاشتها؛ لأن ما بني على الهشاشة السرعة ملازم للنسيان والانتهاء، وما بني على البُطء ملازم للخلود والذاكرة، يقول بلقاسم: “الطريق إلى الكتابة أو طريق الكتابة ليستا، في حقيقتهما البعيدة، انشغالا بالمجد ولا بالشهرة، طريقُ الكتابة توغّلٌ نحو القصي والبعيد، واستشراف لا حدّ له، استشراف صوب مناطق من اللانهائي. المجد الذي يمكن أن يتحقَّق للكتابة، أي كتابة، هي أن تنتسب إلى ما يدوم ويبقى، أي أن تنطوي على بذور تنادي دوما قراءات لا تتقيَّد بالزمن. المجد الكتابي هو قدوم من مستقبل يظلّ دوما مستقبلا. ذلك ما لا يتسنى إلا ببلوغ المنجز الكتابي درجة من درجات حقيقة الكتابة، دون أن تكون هذه الحقيقة منفصلة عن المجهول الذي يبقى دوما مجهولا…. المجد الكتابي هو إذاً منطقة في مسار الكتابة، منطقة غير منشغلة بما يترتَّب عليها اجتماعيّا من ذيوع وانتشار، ومن امتيازات يستتبعها هذا الذيوع والانتشار”، مرح القراءة، ص37.
إنصاتا إلى منطوق النصّ ومسكوته، يتبدَّى أنّ الكتابة ورطة تُلْقي بك في نهرها الكبير، تَمْنَحُكَ آليّات تحقيق المجد، ليس بالشهرة والذيوع، بل بجعل المكتوب متوغّلا نحو القصي، والانتساب إلى مناطق اللانهائي، وفتح حدودها اللامحدودة، المجد هو أن تكون الكتابة دائمة ومتجدِّدة، تدوم مع دوام القراءة، تنفتح على آفاق تأويليَّة غير مقيَّدة بزمن، كتابات تبقى دوما خالدة لكونها مليئة بالبياضات والفراغات والثقوب، تظل دائما صامدة؛ لأنها لا تؤمن بالزمن، إنها تحاكي المستقبل، على اعتبارها تسكن فيه، وقادمة منه، المجد الكتابي هو تأمين مقعد آمن في لا نهائيَّة المعنى، واقترابه من المجهول الذي يبقى دائما مجهولا.
أضحت بعض الكتابات اليوم مرتبطة بالشهرة، وتُبنى على أساس الحصول على جائزة، هي لا يهمّها المجد بقدر ما يهمّها ما يكون وراء الحصول على الجوائز من ذيوع وانتشار، منافٍ تماما للمجد المنتسب إلى اللانهائي، تأكيد هذا بنص من “مرح القراءة”، في قول صاحبه: “لقد أصبحت بعض الكتابات تُبنى بدافع الحصول على الجائزة لا بدافع الانتساب إلى مجد الكتابة، لقد غدت الكتابة الموجَّهة إلى الجوائز ذات بناء خاص، من ملامح هذا البناء أن تكون مثقلة بمراجع مصفوفة بأكثر من لغة في نهايتها، دون أن يكون لهذه المراجع أثرٌ في بناء الكتاب”، ص40.
السعي وراء الجائزة في الكتابة لا يحقِّق المجد الكتابي لفعل الكتابة، ولا يقترب منه، إنه سعي وراء الانتهاء والتلاشي، وذهاب نحو النسيان والموت الكتابي، قبل الموت البيولوجي؛ لأن البناء الكتابي فيها لم يكن مراعيا لشروط هذا المجد، المتجلّية في القبض على القبسين القرائي والكتابي لأسرار فعليهما المنتسبين إلى المجهول، باستشراف لا نهائيَّة القراءة، والصمود أمام القراءات القاتلة، التي تتمرَّد على النصوص وتضاجعها متى كانت نصوصا تفتقر إلى خصوصيَّات المجد.
أضحت بعض الكتابات اليوم مرتبطة بالشهرة، وتُبنى على أساس الحصول على جائزة، هي لا يهمّها المجد بقدر ما يهمّها ما يكون وراء الحصول على الجوائز من ذيوع وانتشار، منافٍ تماما للمجد المنتسب إلى اللانهائي.
اكتساب الكاتب للمجد المقيّد بالكتابي، يحمي شرف كتاباته من الاغتصاب القرائي القاتل، الذي يولِّد معانٍ باهتة، ويمنح للقراءة اللامتناهية أن تتناسب مع نصوصه المنفتحة، مجد الكتابة خَلقٌ لعلاقة شرعيَّة مع الكتابة والقراءة، المبنيتين على شروط لا نهائيَّة العمليَّة القرائيَّة، إنَّ “النصوص الكبرى كتبت في الأصل لتصمد أمام القراءات القاتلة، ولتصون لا نهائيَّة الفعل القرائي عبر تفاعلٍ قائم، من جهة، على تحمّل كل منهما، أي النصوص والقراءة، لمسؤوليَّة عظمى، مسؤوليَّة النصوص تجاه القراءة ومسؤوليَّة القراءة تجاه النصوص؛ وقائم، من جهة أخرى، على اقتسامهما مهمةَّ صون الحياة بصون المعنى المنفلت وبتأمين لا نهائيته،” مثلما وُجدت النصوص الكبرى لتصون حياة القراءة المنفتحة والفاتحة في آن، وُجدت القراءة لتصون، هي أيضا، النصوص الكبرى ولتؤمِّن دوام إنتاجها للمعنى”، مرح القراءة، ص12.
المجد الكتابي خَاِلقٌ لنصوص كبرى تصون حياة القراءة من الانتهاء، صون تصون به القراءة أيضا تلك النصوص من التلاشي والجمود والنسيان، لأنها تؤمِّن لها مقاما في جنّتها المسمَّاة بلا نهائيَّة القراءة، عمليَّة تبادليَّة أساسها الوصول إلى البقاء وتأمينه بالانتساب إلى اللانهائي، وتجاوز الانتهاء بالسعي وراء المجد الكتابي، اِسْعَ أيها القارئ إلى الاقتراب من المرح القرائي، وتحقيق المجد الكتابي الصامد أمام القراءات القاتلة، ولا تتَصارعْ من أجل تحقيق المجد الكتابي المصطنع الذي يسوقه الإعلام، إنّه يفنى ويزول سريعا، وأقول تصريفا في قول بلقاسم في “مرح القراءة”: “لقد حلَّت الهشاشة، في الحبّ، محلّ الديمومة”، ص45، بقولي: لقد حلَّت الهشاشة في الكتابة والقراءة، محلّ الديمومة.