القارئ عدوًا، عنوان صُغته بناءً على ما قرأته في “الأدب والارتياب” لكيليطو، و”مرايا القراءة” لخالد بلقاسم، مَحْمَلُ العنوان أنَّ القارئ عدو يُشْعِرُ الكاتبَ بالاكتئاب، ويُحدِثُ له قلقا في الدماغ، ويفزعه أثناء الكتابة، وهذا معنى القارئ عدوّا، وبخصوص الموت الكتابي للكاتب، فهو عنوان اقتبسته بلفظه دون تغيير من نص في “مرايا القراءة”، والمقصود به أنَّ الموت الذي يشتدّ على الكاتب، هو موت كتاباته وتلاشيها وفنائها، والموت ههنا راجع لسببين، أوّلهما غياب قارئ عميق يجعلها حيَّة ومتواردة، ومن ثمَّة فموتها إعلان لهزيمة وموت صاحبها في آنٍ؛ كون أن النصوص تحتاج إلى قراءات عميقة نفَّاذة إلى أعماق معانيها المضمرة فيها، وتوليد ما لا حصر له من الاحتمالات والتطلُّع إلى إظهار بواطنها، والسبب الثاني راجع بالأساس إلى الكاتب؛ في عدم قدرته على إشراك القارئ في كتاباته، وعجزه عن الظفر به وعليه، استمالةً وامتاعًا واقناعًا، باعتباره العدو الأوّل والأخير له، ومتى لم يستطع الكاتب احتواء القارئ والانتصار عليه، والظفر به، يتمّ إعلان موته الكتابي قبل موته البيولوجي، إنَّ هناك موتين للكاتب، الموت الكتابي والموت البيولوجي، وإن شئنا بنوع من الطرافة واللطافة، نقول: موت أدبي وموت علمي، فسكرات الموت الأدبي أشدّ قسوة من سكرات الموت البيولوجي، إنَّ الكاتب يخشى الاستسلام والانهزام أمام القارئ.
قال عبد الفتاح كيليطو في: “الأدب والارتياب”: “إذا سلَّمنا بأن القارئ عدو، فالنتيجة الحتميَّة أنَّ كل كاتب في وضعيَّة شهرزاد، وكل قارئ في وضعيَّة شهريار”، ص10.
ننصت إلى النص ونتمعَّن فيه النظر، لنؤكِّد به فكرةَ مُفتتحِ الورقة، في أنَّ القارئ عدوّ مرعب للكاتب، وعدم حضوره في كتاباته موت حتمي له ولا رِجعةَ فيه، والجميل في النص، هو مقاربة فكرة القارئ عدوًّا بقصَّة شهرزاد بوصفها كاتبا، وشهريار بوصفه قارئا، فالمشترك واحد، إمَّا الاستهواء والانتصار أو الموت، يموت الكاتب إذا لم يَسْتَمِلْ قارئه، وستموت شهرزاد إذا لم تستطع استمالة واستهواء شهريار، وجُعِلت طريقة الحكي هنا، سبيلا مُنقذا ومُنجيا لشهرزاد من نهاية حتميَّة، وهي الموت السردي، المؤدِّي إلى موت بيولوجي، نجت شهرزاد وانتصرت على شهريار، بفعل تقنية المرح والتشويق والعمق المتعمّدة في استهوائها الحكائي، وكَذلكم الكاتب ينبغي أن يعرف كيف يتعامل مع القارئ، ليتمكَّن من هزمه والظفر عليه، باعتماد آليات كتابيَّة تستهويه، وتجعله يشعر بالمرح أثناء القراءة، وستظلّ ثنائيَّة العداوة بين شهريار القارئ وشهرزاد الكاتب مستمرَّة إلى الأبد، متجاوزة ألفَ ليلةٍ وما يزيد، ففي كل عمليَّة كتابيَّة يخوضها الكاتب يحضر القارئ كعدوّ له، يوسوس له ويهدّده ويحذّره ويؤزم حالته، ويشعره بالاكتئاب، إنه الشيطان الذي لا تحقّ عليه الصداقة، ولا تصدق معه، ويستحيل الحديث عن الصداقة بين القارئ والكاتب، وأَسُوقُ ههنا آيَّة قرآنيَّة ينبغي إمعان النظر فيها، وهي وقوله: “إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمُ عَدُوٌّ فَاتخِذُوهُ عَدُوًّا”، سورة فاطر الآيَّة 6.
الكاتب ينبغي أن يعرف كيف يتعامل مع القارئ، ليتمكَّن من هزمه والظفر عليه، باعتماد آليات كتابيَّة تستهويه، وتجعله يشعر بالمرح أثناء القراءة
وإن كنا سنخرج عن سياق الآية في حديثها عن الشيطان كشيطان، بأن الله تعالى يحذِّرنا من مكره، وينبغي أن نُقِرَّ بالفكرة وأن نؤمن بها، فهو عَدُوّ لا يطاق، يتبرَّأ من الكفَّار والمشركين والمسلمين خوفا من رب العالمين، ولكن لا مانع من جعل الآية مساقا ندلِّل به مسألةَ تحذير الكُتّاب من شدّة القُرّاء وبغضائهم، وفي كونهم من أوائل الأعداء الذين يعترضون كتاباتهم، ويتعرَّضون لأخطائهم، ويُنَقشُونَ بمنقش الأظافر عن زلَّة من زلاَّتهم، وعن أساس يتخلَّصون فيه منهم. أيَّها الكُتّاب إنَّ القُرّاء لكم أعداء فاتَّخذوهم أعداء، ولا تَعقدوا معهم وثاق مودَّة وصداقة، تكونون الخاسرين والمنهزمين والضائعين، بل والميتين، فسرعان ما سَتُنْسَون وتتلاشون في ذاكرة نسيانهم الحادّ، والنسيان فضيحة فظيعة قد تعترض الكاتب، فهي ثقب كبير لا مُضَمِد له إلا عَقْدُ عزمٍ على هزم القارئ، باستهوائه وجعله مرحا، أثناء القراءة. وثاقة الصداقة ممنوعة في الكتابة، يستحسن الحذر الشديد، حتى يتجنَّب الكاتب الموت الكتابي قبل موته البيولوجي، فالأوَّل سكراته أشدّ قساوة من الثاني، يقول كيليطو في “الأدب والارتياب”: “وينبغي لمن كتب كتابا أن لا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء، وويل لمن ينسى هذه القاعدة ولا يكون دوما في حالة استنفار قصوى”، ص10.
مسألة اعتبار الله الشيطان عدوا للجميع، متشابهة أو مرتبطة أساسا بقضيَّة اعتبار الكاتب جميعَ الناسِ (القُرّاء) أعداء له؛ لأن عدم الانتصار عليهم يؤدِّي إلى مصير واحد، هو الانتهاء. فعقد الوثاق مع الشيطان مآله جهنَّم وبئس المآل والمصير، وثقة الكاتب بالقارئ وعدم أخذ الحذر منه يقوده إلى الموت والانهزام، وخاصَّة ما لم يقدر على استمالته.
القارئ عدو حقيقي للكاتب، عدو مرعب ومفزع يمارس سلطة شديدة وخفيَّة، والكُتّاب الذين لم يأمنوا شرّ القارئ سرعان ما أُعلن موتهم وانهزامهم، والذين أمنوا شرَّه واهتمُّوا به، استمرَّت كتاباتهم خالدةً ومتواردةً ومتجدِّدةً، يؤوب إليها القارئ كلّما أحسّ بنقص، أو وجد مشتركا يضمّد جرحه ويكمل نقصه، هي كتابات لا تنفد ولا تبلى، تَنَبّهَ فيها كاتبها إلى القوَّة التي يمتاز بها القارئ والحظوة التي ينبغي أن يحظى بها. ولربما إن أشدّ هزيمة يشهدها الكاتب في حياته، هو كون كتاباته مألوفة ومعروفة لدى القارئ، يسأم منها، ويهرب ويفزع منها إلى كتابات أخرى، يجد فيها اهتمامًا لَبِقًا، ومكانةً لطيفةً، وحظوة لائقة، وأَجْمَل انتصار ينتصره الكاتب هو ظفره بعدوّه القارئ، وإحكام القبضة عليه باستمالته وتدليله واشعاره بأهميَّة بالغة، وههنا نتذكَّر كتابات القدماء، في أنهم دائما ما يشعرون القارئ بأنّه جزء منهم، وهذا ما أكَّده عبد الفتاح كيليطو في كتابه “الأدب والارتياب”، في إشارته إلى أنَّ الجاحظ مثلا،ـ كان الوحيد الذي استطاع أن يهزم قرّاءه، وأن يجذبهم إليه، وأن يذكّرهم كلَّ مرَّة بالموضوع الذي يتحدَّث عنه، وأن يعتذر منهم في الاستطرادات التي يكثر منها، ويشدِّد على مخاطبتهم، ليكملوا معه رحلة القراءة، وأن يكسب ودّهم، وأساس هذا توظيفه لعبارات من قبيل: أمتع الله بك، جعلك ممن عرف الحقّ، حفظك الله، اعلم رحمك الله، أسعدك الله، أبقاك الله….”، توظيفاتٌ استهوائيَّة نجدها حاضرة في كتابات القدماء، لوعيهم التام بخطورة القارئ وشراسته، فكانوا حذرين منه أشدّ الحذر، وحضور ضمير القارئ أو المتكلِّم حاجة ضروريَّة ومهمَّة.
القارئ عدو حقيقي للكاتب، عدو مرعب ومفزع يمارس سلطة شديدة وخفيَّة، والكُتّاب الذين لم يأمنوا شرّ القارئ سرعان ما أُعلن موتهم وانهزامهم، والذين أمنوا شرَّه واهتمُّوا به، استمرَّت كتاباتهم خالدةً ومتواردةً ومتجدِّدةً، يؤوب إليها القارئ كلّما أحسّ بنقص، أو وجد مشتركا يضمّد جرحه ويكمل نقصه.
جاء في “الأدب والارتياب” ما يلي: “ملاحظة مفاجئة نجدها في كتاب الحيوان، مفادها أنّ القارئ عدوّ الكاتب، قد لا يكون القارئ عدوّا صريحا، إلا أنه في الخفاء يبحث عن الثغرات وعن نقط الضعف بهدف التهجّم على الكتاب والنيل من مؤلّفه، ليست الصداقة أساس العلاقة بين القارئ والكاتب، وإنما، على العكس، الضغينة والكراهية والحرب”، ص10.
أخشى أن أعلِّق على النص فأقع في التكرار أو المسخ، ولكن لا ضير فالنص ليس في ملك أحد، ونقول بأنه تأكيد لما أشرنا إليه فحسب، فالعلاقة بين القارئ والكاتب مبنيَّة على الضغينة، والكراهية والحرب، ولا مجال للصداقة في الكتابات بتاتا، صداقة الكاتب تكون خارج ما يكتب، ولكن داخل الكتابة لا حديث عنها، ونحن الطلبة مثلا، نتذكَّر في الجامعة لحظة أحاديثنا عن الكُتّاب وطبيعة كتاباتهم، فمنَّا المعجب الذي أصابته الصبابة ببعضهم، ومنا المتنفر غير المعجب بهم، ويصل بنا الأمرُ إلى حدِّ الشعور بالسأم والملل في قراءات بعض الكتب، وننشر بيننا أجود الكتابات وأرذلها، لم نكن نعي طبعا في تلك المرحلة أننا أعداء حقيقيّون للكاتب، وأنه يعيش معركة مستمرّة مع قرائه، والقلَّة هم من استطاعوا النجاة من هذه المعركة فالغلبة دائما للقارئ، حتى وإن كان ضعيفا. أصبحنا اليوم ننتقي نوعيَّة الكتب المقروءة بعناية تامَّة، التي نجد فيها حضورا بارزا لذاتنا، والتي نحسّ فيها أنَّ كاتبها استطاع أن يهزمنا، نخشى أن نترك كُتَّابا يعتنون بالقرّاء فنبيتُ مصدومين بضياع لحن المشترك الجامع بيننا وبينه.
الكثير من الكتابات اليوم، تَقرأُ سطرها الأول وتعلم ما في وسطها وخاتمتها، تألفها بسرعة وتتنفر منها ومن صاحبها، صياغة وأسلوبا، هي كتابات ننعتها بـــ”السندويتشيَّة”، وجه الشبه فيها أنها وجبة سريعة تنتهي منها بسرعة، دون أن تشعرك بالشبع والقناعة، فتضطر إلى طهي شيء آخر تسدّ به عنف المعدة، الشيء نفسه بالنسبة لبعض الكتابات التي نصادفها اليوم، لا تستحقّ درجة الصفر في الكتابة، ويسهل على القارئ التخلُّص منها والقضاء على كاتبها، وطرحه في ذاكرة النسيان، بسبب غياب الاستمالة، والمرح والعمق الكتابي، ومن ثمّة ينهزم الكاتب بسرعة، فيعلن موته الكتابي قبل موته البيولوجي، ولو أصدر مئات الكتابات، فإنه يصعب أن يعيد إرضاء ودّ القارئ، والظفر به مرَّة أخرى، الحسرة على من يظن نفسه كاتبا لنفسه، فستغدو حاضرا غير كائن، ما لم تهتمّ بقارئك، فَأحْرِص على الاهتمام به فهو العدو فأحذره، قد يتَّفق معي صديقي القارئ أو بالأحرى عدوِّي، في هذه المسائل؛ لأنه يعيش حتما هذه القضيَّة ولن ينكرها، وسأكون حذرا منك حتى لا تهزمني بسرعة.
ونصل إلى ختام الورقة، بعد تفصيل واستطراد قد يكون مملا، ونعتذر فيه من القارئ، ونقول: إنَّ الكتابة معركة دائمة بين شخصين، القارئ الذي يشبه شهريار، العدو الأبدي، والكاتب الذي يشبه شهرزاد، ويكون دائما في صراع لا متناه، ويشعر بالقلق في فترة الكتابة، خوفا من أي زلّة تؤدِّي به إلى موت كتابي، في عجزه عن النفاذ إلى مخيلة العدو والظفر عليه، ومن ثم يعلنون موته وتأبينه، ومعناه الهزيمة والانتهاء والتلاشي، يقول خالد بلقاسم في “مرايا القراءة”: “إنَّ موت الكاتب، لا بالمعنى البارتي بل بمعنى تخلّي القارئ عنه، أمرٌ مرعب، عندما يغدو الكاتب مألوفا وتُصبح آليّاته في الكتابة وفي إنتاج المعنى مكشوفة، فذلك يعني انهزامه أمام قرّائه، أي موته الكتابي، في هذه الحالة، تكون الكتابة قد أخرجته من مجهولها نحو معلوم لا تستسيغه القراءة. موت الكاتب قبل موته البيولوجي مولدٌ للاكتئاب الذي يقود إمّا إلى الصمت أو إلى الاحتماء بالتسويق الإعلامي. بهذا المعنى”، ص100.
يتخلَّى القارئ، بوصفه عدوا، عن الكاتب حينما تغدو آليّاته الكتابيَّة مألوفة ومعهودة ومكشوفة عنده.
يتخلَّى القارئ، بوصفه عدوا، عن الكاتب حينما تغدو آليّاته الكتابيَّة مألوفة ومعهودة ومكشوفة عنده، فهذا الإِلفُ يعلن انهزام الكاتب أمام قرّائه، لأنه لم يكن حذرا، ومن ثمّة يموت كتابيا، بسبب فشله في الظفر على قرّائه الأعداء. إنه انهزام مُولدٌ للكآبة والتهويل والخرق. الكلمة حرب لا متناهية بين شخصين، يكونان في صراع دائم، يكون فيها الكاتب الخاسر الأكبر إذا أهمل عدوّه القارئ، وعليه إعلان نهايته، وحينما يعجز الكاتب عن الظفر على الأعداء يحتمي بالتسويق الإعلامي لكي يعود إلى الواجهة، واكتساب قرّاء جدد، ونعلم كثيرا من الكُتّاب الذين جعلهم الإعلام في مكانة لا يستحقّونها، ويذكّرني الأمر أساسا بكتب إعتاب الكُتّاب، التي يؤلِّفها أصحابها قديما في الأندلس والمشرق من أجل نيل حظوة الأمراء، بالإعلاء من شأنهم أمام الناس، والرفع من قدرهم في المجالس والأثبات، وجملة القول، فليحذر الكاتب الموت الكتابي، وليعدد له بالظفر على القارئ وهزمه، فهو موت أشدّ تهويلا من الموت البيولوجي.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.