مقدِّمة
لقد حظيت إشكاليات الحداثة وتناقضاتها باهتمام الكثير من الدارسين والباحثين في العالم العربي، وقد يمكن القول إنَّ كثرة هذه الدراسات وتنوّعها تعود إلى تنوُّع توجّهات هؤلاء الباحثين والدارسين كما أن جزءا كبيرا من هذا التنوّع قد يَرجع إلى تنوّع وتعدُّد جوانب الحداثة[1]. حيث يمكن مقاربة الحداثة كمجوعة من الظواهر والتحوّلات وكمفهوم من منطلقات عديدة ومتنوّعة، فمثلا يمكن أن تكون نقطة التركيز في مقاربة الحداثة للباحث في العلوم السياسيَّة “الدولة” وما تَطْرَأُهُ الحداثة من تحوّلات وتناقضات على الدولة كمؤسَّسة سياسيَّة، كما يمكن أن تكون الوحدة التحليليَّة في مقاربة الحداثة للباحث السوسيولوجي “الأسرة” بالتركيز على أهمّ التحوّلات التي طرِأت وتطرأ عليها كبناء اجتماعي. إلى غير ذلك من الأمثلة والتوجّهات التي يمكن لأي باحث أن يتبنَّاها وذلك بفعل تعدُّد وتنوّع الجوانب التي يمكن التركيز عليها في دراسته للحداثة. ومن جهة أخرى فإنَّ هذا الاهتمام المتزايد بالحداثة من طرف الباحثين والدارسين في العالم العربي تَميّز حينا بالرفض والنظر إليها أي الحداثة كتهديد لكياناتها السياسيَّة وبنياتها الاجتماعيَّة بدعاوى “الأمن السياسي والاجتماعي والثقافي” بتعبير باقر النجار، كما أنَّ هناك اتِّجاهات أخرى تميَّزت بالتأييد والدعوة إلى تبنِّي البراديغم الغربي في مسألة التحديث على أساس أنه لا بد منه لأي مجتمع يرغب في تجاوز أشكال حياتها التقليديَّة وأنماط حكمها الكلاسيكيَّة. هكذا نجد النعوت والأوصاف التي تُعْطى للحداثة من خلال هذه الدراسات تحمل دلالات تحيل إلى المدخل التحليلي لصاحب الدراسة أحيانا، وإلى موقفه الفكري وتوجّهه النظري أحيانا أخرى، فليس من باب الصدفة مثلا أن نجد بعضا من هذه الدراسات تنعت الحداثة بـ”الحداثة المعطوبة”[2] بتعبير الكاتب الجزائري عمار بلحسن، والحداثة المشوّهة والحداثة الفاشلة وغيرها من النعوت التي يمكن أن يعطي بعضُها دلالاتٍ أخلاقيَّة قيميَّة أو مواقفَ أصحابه أو على الأقل المداخل التحليليَّة للكاتب.
وذات الشيء يمكن ملاحظتها في النعت الذي يعطيه سلمان باقر النجار للحداثة في عنوان كتابه “الحداثة الممتنعة” يمكن أن يحيل هذا المفهوم “الحداثة الممتنعة” إمّا إلى موقف صاحب الدراسة من الحداثة أو إلى استنتاجاته في دراسته ومقاربته لموضوع الحداثة في دول الخليج، وأيا ما يكون من الاحتمالين فإن ما لا يمكن تجاهله أو رفضه في اعتقادي هو دقّة تحليل باقر النجار وتعدُّد الجوانب التي غطَّاها في مقاربته للموضوع. ولعل شموليَّة تحليله تعود إلى أن الكاتب ينظر إلى الحداثة كمشروع كلي لا يتحقَّق من خلال الأخذ ببعض جوانبها وترك بعض الجوانب الأخرى. يقول باقر النجار: إنَّه أي مشروع الحداثة نهوض لا يمكن تحقيقه بمسك جانب منه دون الآخر”[3] وسنعود إلى ذلك في اشتباكنا النقدي مع بعض أفكار الكاتب في هذه الورقة.
فما هي أهم الأسس النظريَّة والمنطلقات التحليليَّة التي بنى عليها سلمان باقر النجار مقاربته للحداثة؟ وما أهمّ ممانعات هذه الحداثة في الخليج العربي بالنسبة لباقر النجار من خلال كتاب الحداثة الممتنعة في الخليج العربي؟
إن كتابا بحجم كتاب ” الحداثة الممتنعة في الخليج العربي تحولات المجتمع والدولة” لصاحبه سلمان باقر النجار وما جاء فيه من التحليل التفصيلي يصعب عرضه في ورقة بهذا الحجم، غير أننا في هذه الورقة للإجابة عن الإشكاليَّة المطروحة سنركِّز على بابه الأول المعنون بــــ ” بعض معضلات تحولات الدولة والمجتمع” وعلى بابه الخامس المموضع بـ ” الخليج وإرباك العولمة: تحولات الناس والمكان”، وعلى الباب السادس “الهويَّة والجماعة”. وذلك لاعتبارين أساسيين:
1-كون الدولة ككيان سياسي شديدة التأثير والتأثُّر في إشكالات وتناقضات الحداثة، وكونها كوحدة تحليليَّة تحتلّ مكانة مهمَّة في مقاربة الكاتب للموضوع.
2- ويتمثَّل هذا الاعتبار في الأهميَّة التي تحتلّها الأسرة والهويّات الجماعيَّة في مقاربة الكاتب كبناء اجتماعي وكوحدة تحليليَّة لمظاهر الحداثة، كما يتمثَّل هذا الاعتبار في تركيز الكاتب على الأسرة والهويَّة والجماعة في الباب الخامس والسادس، وعلى المسائل الأسريَّة وما تطرَأُ على الأسرة من تحوّلات وأنماط سلوك وعلاقات اجتماعيَّة جديدة بفعل العولمة.
أولا: محاولة في مَفْهَمَةِ الحداثة
قد يكون من الملفت للنظر حينما نقرأ كتابَ “الحداثة الممتنعة في الخليج العربي تحوّلات المجتمع والدولة” أن نجد الكاتب لا يُخَصِّصُ ولو محورا لمفهمة الحداثة، غير أن القراءة الدقيقة لأبواب وفصول هذا الكتاب في مجموعها تساعدنا على ملامسة مَفْهَمَةٍ من نوع آخر غير مفهمة الحداثة بشكل قاموسي، حيث اختار الكاتبُ محاولةَ حصرِ جوانبِ المفهومِ بشكلٍ تحليليٍ ويمكن ملاحظة ذلك في أكثر من موقف. فمثلا نجد الكاتب يدَّعي بأن التغيّرات والتحوّلات التي طَرَأُتْ على جميع جوانب الحياة السياسيَّة منها والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الثقافيَّة في المجتمعات الخليجيَّة تتطلَّب قدرا مهمّا من التكيُّف بعيدا عن منظور وآليَّات الأمن الثقافي أو الاجتماعي والسياسي وغيرها[4]، بل أكثر من ذلك يذهب الكاتب إلى أن هذه التحوّلات تُمَثِّلُ تحدّيًا ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا لا يمكن تجاوزها إلا عن طريق الأخذ بأسبابها، ويرى الكاتب بأن الأخذ بأسباب هذه التحوّلات تبدأ بالاستجابة لها في تبنِّي الخطوات التكيفيَّة التي تَفْرض على هذه المجتمعات قدرا من التغيير المؤسّساتي وكذلك تغييرا على مستوى الرؤى والآليات. إنَّ شموليَّة نظرة الكاتب في المستويات التكيفيَّة مع هذه التغيّرات والتحوّلات تحيل إلى أن الحداثة عند الكاتب هي مجموعة من التغيّرات والتحوّلات التي تطرأ على النظم القديمة والتقليديَّة وتفرض علينا في الوقت نفسه قدرا من التكيُّف بآليَّات ورؤى مرنة تقلِّل من تناقضات وإشكالات هذه التغيّرات. وغني عن البيان هنا أنَّ هذه التحوّلات في نظر الكاتب حتميَّة لأسباب منها اقتصاديَّة وتتمثَّل في اكتشاف النفط في المنطقة وما ترتَّب على هذا الاكتشاف من مظاهر حداثيَّة على مستوى البنى التحتيَّة وانفتاح المنطقة على الآخر بفعل موجات الهجرة وما عرفته هذه الهجرة من تدخل خارجي على مستوى حقوق العمالة الأجنبيَّة، كما أنَّ تدخّلات منظّمات حقوق الإنسان شملت جوانب أخرى مثل البحث عن حلول لإدماج الأقليّات الدينيَّة واللغويَّة والعرقيَّة في المنطقة وتحقيق القيم الديموقراطيَّة. إنَّ هذه التغيّرات ليست هي الحداثة في حدِّ ذاتها عند الكاتب بل إنما تستوجبه وتقتضيه هذه التحوّلات والتغيّرات من الاستجابات التكيفيَّة على مستوى البنى الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة أو بالأحرى على المستوى المؤسَّساتي هي عمليَّة التحديث والحداثة في نظر الكاتب. وهذه النظرة الشموليَّة للحداثة في اعتقادي لا تتقاطع مع تعريف “جون بوردريار” للحداثة حيث يقول: ” الحداثة ليست مفهوما سوسيولوجيا أو سياسيا أو تاريخيا بحصر المعنى، وإنما هي صبغة مميَّزة للحضارة، تعارض صبغة التقليد أي أنها تعارض جميع الثقافات السابقة والتقليديَّة فأمام التنوّع الجيوغرافي والرمزي لهذه الثقافات تفرض الحداثة نفسها وكأنها وحدة متجانسة عالميا انطلاقا من الغرب، ويتضمَّن هذا التصوّر الشمولي للحداثة إشارة إلى تصوّر تاريخي بأكمله وإلى تبدّل في الذهنيات.”[5] إنَّ السبب في اختياري لهذا التعريف لا يعود إلى الاتِّفاق مع صاحب التعريف كليا، بل يمكن أن لا نتَّفق معه في بعض جزئيّات التعريف وخاصَّة المتعلّقة بنسبة الحداثة إلى مكان محدَّد أي الغرب، وإنما يعود السبب في اختيار هذا التعريف إلى التجانس الذي يمكن ملاحظته في كل من تصوّر جون وباقر النجار للحداثة إذ إنه وكما سبق ذكره بأنَّ باقر النجار وإن لم يخصّص في كتابه حيّزا لمفهمة الحداثة بشكل مباشر فإنَّ تحليله الشمولي لا يتقاطع مع مثل هذا التعريف من تعريفات الحداثة التي تحيل إلى استجابات ضروريَّة تشمل كل ما تعرفه المجتمعات من تغيّرات وتحوّلات على المستوى المؤسَّساتي. هذا بالإضافة إلى أن أصعب ما يمكن للباحث القيام به هو تحديد مفهوم الحداثة بشكل قاموسي يحصر فيه جميع جوانب الحداثة، ويمكن القول بأن الكاتب نجح إلى حدٍّ بعيد في مفهمته التحليليَّة للحداثة وذلك لشموليَّة تصوّره دون الاكتفاء بجانب دون الآخر وتبويبه للكتاب يعكس لنا بشكل كبير هذه الشموليَّة في تصوّره للحداثة.
قد يكون من الملفت للنظر حينما نقرأ كتابَ “الحداثة الممتنعة في الخليج العربي تحوّلات المجتمع والدولة” أن نجد الكاتب لا يُخَصِّصُ ولو محورا لمفهمة الحداثة، غير أن القراءة الدقيقة لأبواب وفصول هذا الكتاب في مجموعها تساعدنا على ملامسة مَفْهَمَةٍ من نوع آخر غير مفهمة الحداثة بشكل قاموسي، حيث اختار الكاتبُ محاولةَ حصرِ جوانبِ المفهومِ بشكلٍ تحليليٍ ويمكن ملاحظة ذلك في أكثر من موقف.
ثانيا: من تناقضات الرفض إلى حتميَّة التكيُّف
يصف كارن روس النظام العالمي الحديث بأنَّه نظام موجود بين الانضباط والفوضى[6]، ولقد حاول باقر النجار في كتابه مناقشة كيف أن الموقف الرفضي لهذه التحوّلات وما تقتضيها من التكيّف يَطْرَحُ تناقضات على مؤسَّسات المجتمع، كما يؤدِّي هذا الرفض إلى حالة من الصراع الداخلي وإلى الفوضى أحيانا. ويدَّعي الكاتب بأن الاستجابات التكيفيَّة باتت ضروريَّة إلى درجة أن رفض هذا التكيُّف يمثِّل حالة من الفوضى واللانظام، إذ أنها أي التحوّلات والتغيّرات ليست لأن المنطقة مستهدَفة بل لأنّها بسبب الأوضاع الاقتصاديَّة والديموغرافيَّة التي هي عليها وبفعل مرحلتها الاقتصاديَّة المفصليَّة والأمنيَّة العالميَّة، فإنها تستوجب وتقتضي تحوّلات تتشكَّل في كل نواحي حياتها المجتمعيَّة وأطرافها. ويذهب السوسيولوجي الفرنسي إدغار مورين إلى نفس طرح باقر النجار حيث يرى مورين” بأنَّ رفض الحاجة إلى التكيُّف مع معطيات النظام العالمي الحديث يخلق حالة من التفكُّك واللانظام”[7]. يعيد الكاتب باقر النجار الأسباب في هذه التحوّلات إلى مجموعة من المحدّدات بعضها اقتصاديَّة وبعضها سياسيَّة وأخرى اجتماعيَّة ومن أبرز هذه الأسباب ما يلي:
1.2-اقتصاد النفط وموقع الخليج في السوق العالميَّة:
استهلَّ الكاتب “النجار” حديثَه عن الترابيّات الاقتصاديَّة في المنطقة الخليجيَّة باقتباس من تيري كارل يقول فيه” الثورة النفطيَّة قادرة على صبّ المؤسّسات في قوالب معيّنة صبّا محكما فاق مخيلات ومدارك أفضل الاختصاصيّين.”[8] فيبني تحليله في هذا الباب على هذه المقولة ليذهب إلى أنَّ موقف دول الخليج في انتاج النفط بات يفرض على هذه الدول مجموعة من التغيّرات بعضها تحكمها متطلّبات سوق النفط العالميَّة وبعضها الآخر من إملاءات حاجة هذه الدول إلى الأمن.
2.2-المحدّدات السياسيَّة:
في تحليله لمظاهر هذه التحوّلات والحاجة إلى التكيُّف معها يشير الكاتب “النجار” إلى أن المنطقة بفعل مخرجات اقتصاديات النفط باتت في حاجة إلى يد عاملة خارجيَّة بشكل متزايد وذلك استجابةً لحاجاتها على مستوى البنى التحتيَّة، الأمر الذي لا يتحقَّق إلا بالاستعانة بالعمالة الأجنبيَّة بمستوياتها المتنوِّعة. ومع تواجد هذه العمالة أصبحت المنطقة موضع التوجيه لمقولات حقوق الإنسان والمواطنة وإعادة النظر إلى نظام الكفالة. كل هذه كانت تدخّلات سياسيَّة حقوقيَّة يدَّعي الكاتب بأنها سبَّبت في إحداث جوانب مهمَّة من التحوّلات والتغيّرات التي تعرفها المنطقة على مستوى مؤسَّساتها السياسيَّة.
3.2-المحدّدات الاجتماعيَّة:
ويُرجع باقر النجار جانبا مهمّا من هذه التحوّلات إلى الموجة الرقميَّة وانفجار المعلومات بفعل التطوّر التكنولوجي وآثارها على أنماط السلوك الاجتماعيَّة وعلى الأنماط العلاقيَّة بين الأفراد داخل المجتمع ومكَّنت من إسقاط بعض التابوهات سواء على مستوى العلاقة بين الأفراد فيما بينهم أو على مستوى علاقة الأفراد بقوى الحكم ومؤسَّسات المجتمع. كما يرى بأنَّ تواجد الوافدين في المنطقة جعل هذه المجتمعات تعيش تنوّعا وتعدّدا ثقافيا واجتماعيا باتت تفرض على مجتمعات المنطقة قدرا من التغيير المؤسَّساتي قصد إدماج هذه الفئات الاجتماعيَّة والأقليّات.
كما ذكر الكاتب جوانب أخرى من محدّدات ساهمت في وضع المنطقة على ضرورة الاستجابات التكيفيَّة خاصَّة في مستوياتها السياسيَّة والأمنيَّة، ومنها الحروب في المنطقة التي أسفرت عن ضرورة إعادة النظر في سير أنظمة الحكم في الخليج العربي وإعادة النظر في استراتيجياتها الأمنيَّة. وكذلك قيام دولة الخلافة في العراق وفي الشام، يعتقد باقر النجار أنَّ قيام هذه الدولة شكَّلت تحوّلات على البنى الفكريَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، ويرى بأنها أي هذه التحوّلات وإن نجحت المنطقة في السيطرة على الكثير من جوانبها فإنَّ الفكرة بقيت راسخة في الذهنيَّة السياسيَّة لبعض جماعات المنقطة وأصبحت بعض رموزها الدينيَّة تضفي على خطاباتها طابع هذا التوجه السياسي الذي يشكِّل خطرا حسب أنظمة المنطقة بتعبير النجار.
إلى كل هذه المحدّدات يُرجع باقر النجار هذه التحوّلات والتغيُّرات ويرى بأنها تحوّلات بقطع النظر عمّا يمكن أن يعرقل التكيُّف معها من قوى الممانعة، فإنّها يمكن أن تزداد حدَّة في مراحل لاحقة في مستقبل هذه الدول. فما هي أهم القوى الممانعة لهذا التكيُّف الحتمي عند باقر النجار؟
ثالثا: قوى الممانعة لعمليَّة التحديث في الخليج العربي
يدَّعي الكاتب ضرورة وضع سياسات تكيفيَّة مع كل هذه التحوّلات التي باتت المجتمعات الخليجيَّة تعيش فيها، سياسات تساعد على تجاوز كل أنماط السيطرة والحكم التقليدي لتفادي الصراع والفوضى اللذان ينتجان عن رفض هذه التحولات بدعاوى الخصوصيات المحليَّة والثقافيَّة، وإلى جانب هذا الاقتناع يرى بأن هناك ممانعات تحول دون نجاح هذه العمليات التحديثيَّة التكيفيَّة؛ ويمكن جمع هذه الممانعات في: القبيلة والأسرة في علاقتهما بالدولة وهي ما أطلق عليه الكاتب ” الدولة التضامنيَّة في الخليج العربي”. وثانيا: الدين في علاقته بالأعراف والتقاليد الاجتماعيَّة وهي ما أطلق عليه الكاتب اسم ” الممانعات الاجتماعيَّة والثقافيَّة. ثالثا وأخيرا: الإثنيَّة والهويّات الجماعيَّة في علاقتها بالإقصاء الاجتماعي وهي ما أطلق عليه باقر النجار بــ ” غياب سياسات للإدماج” في حديثه عن البحث في سياسات للإدماج.
1.3–الدولة التضامنيَّة وإشكالات التحديث
إنَّ السياق الزمني والمكاني يجعلان الدولة تتأثَّر وتؤثِّر على وَمِن القوى العلائقيَّة في المجتمع حيث يتمّ تبنّي سياسات تخضع لتوجّهات هذه القوى الاجتماعيَّة والثقافيَّة.[9] يشير الكاتب هنا إلى الخصوصيَّة القبليَّة للمجتمعات الخليجيَّة ومدى ارتباط هذه الخصوصيَّة بقيام وسير الدولة في هذه المنطقة، والكاتب في هذا الادّعاء لم يفعل أكثر من ضمّ صوته إلى أصوات كثيرين من الباحثين والمهتمّين بالدراسات القبليَّة وخاصَّة في ارتباطها بالدولة. ففي مقال له نشر في مجلة العمران في عددها الخامس عشرة يدعي الكاتب الكويتي يعقوب يوسف الكندري نفسَ الشيء حيث، يقول بأن النظام القبلي شهد تحوّلا فانتقلت القبيلة إلى نظام الدولة وتحدّد لها دورا جديدا بعد إذ دخلت مرحلة التحضُّر بجميع أشكاله نتيجة التغيّرات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة السريعة التي تمرُّ بها المنطقة الخليجيَّة.[10] يتوصَّل يعقوب يوسف إلى هذا الاستنتاج بعدما انطلق في دراسته من تساؤل مفاده؛ هل يمكن قراءة بعض الظواهر السياسيَّة في المجتمع الخليجي من دون الحاجة إلى النظر إلى القبيلة والمفاهيم القبليَّة التي تعتبر جزء من ثقافة هذه المجتمعات؟ بالطبع، كان جواب يعقوب في مقاله بالنفي. أي أن القبيلة رغم التغيّرات التي طرأتْ على البنى الاقتصاديَّة والسياسيَّة للمنطقة فإنها لا تزال متمسِّكةً بأهمّ خصوصياتها الثقافيَّة وخاصَّة تلك التي تتعلَّق بمنطقها الداخلي في تدبير أمورها السياسيَّة. وهذا يعني أنَّ التغيرات التي حدثت في الهيكل الديموغرافي والاقتصادي والسياسي لم تقترن بعمليَّة تغيّر بالحدَّة نفسها في القيم والعادات لمصلحة الشروط المدنيَّة الجديدة.[11] ويرى يعقوب يوسف في مقاله السابق الذكر بأن المفاهيم السياسيَّة للقبيلة مثل ” الشيخ” الأمير” لها تأثير كبير في تَشَكُّل وتَسْيِير الدول في المجتمعات الخليجيَّة، وهذه العلاقات بين القبائل والعائلات والدولة في المنطقة هي ما أطلق عليه باقر النجار مفهوم “الدولة التضامنيَّة”. يرى باقر النجار بأنَّ العائلات الحاكمة في الخليج لم تأت خارج الإطار الجغرافي والإقليمي للمنطقة، ويريد أن يعبر من خلال ذلك عن مدى تداخل شبكة العلاقات التعاضديَّة للدولة والأطر العائليَّة والدينيَّة والمذهبيَّة، بمعنى آخر إنَّ علاقات الدولة في الخليج تتجاوز ” التضامنيَّة الأحاديَّة” أي لا تتحرَّك في إطار تضامني واحد، بل تجمع بينما هو قبلي وما هو إثني وما هو مذهبي ديني. ويبني باقر النجار أطروحته في اعتبار هذا الشكل من الحكم إحدى أهم ممانعات عمليَّة التحديث والحداثة على أن الدولة الحديثة أي الدولة بالبراديغم الحداثوي تتجاوز كل هذه الأشكال التمييزيَّة لتجمع جميع الأفراد في “مبدأ المواطنة” وتكافؤ الفرص بعيدا عن بناء تضامنيات لا تلبِّي أكثر من حاجات ومصالح العائلات الحاكمة وجوانب أخرى محدَّدة من مصالح محالفيها من عائلات وأفراد وقبائل ذات نفوذ اجتماعي وثقافي.
2.3-الممانعات الاجتماعيَّة والثقافيَّة
غالبا ما يتمّ النظر إلى الحداثة والعولمة في المنظور السوسيولوجي كظواهر وتحوّلات اجتماعيَّة عابرة للحدود،[12]وعلى هذا الأساس فإنَّ من أبرز الأسئلة التي طرحت في الواجهة؛ عمَّا إذا كانت تبني ثقافة هذه الظواهر والتحوّلات يسفر عن طمس هويّات وخصوصيّات المجتمعات المحليَّة؟ وما هي آليّات وطرق التفاعل مع مظاهر الحداثة التي تمحو المسافات الجغرافيَّة ولا تعترف بخصوصيّات الأمم؟ يمكن القول بأن تحليل باقر النجار للممانعات الاجتماعيَّة والثقافيَّة بني على قدر كبير منها في النظر إلى هذه التحوّلات كظواهر عابرة للحدود وإلى محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، حيث يرى باقر النجار بأنَّ هذه التحوّلات والتغيّرات لا تغَيِِّر فحسب حصص الجماعات بل تصل قدرة تغييرها إلى تهديد الأسس المؤسّساتيَّة والمعياريَّة.[13] وهذا في نظر الكاتب خلق حالة من الصراع والفوضى واللاتوازن في بعض أوساط هذه المؤسَّسات. إن قوة هذه التحوّلات وصلت إلى طرح تناقضات وإشكالات على مستوى علاقات القوَّة في هذه المجتمعات حيث يبدأ الأقوى بفقد أجزاء مهمَّة من قوّته. ورغم التغييرات التكيفيَّة التي أُحْدِثَتْ على المستوى المؤسَّساتي فإنَّ الأفراد داخل هذه المؤسَّسات يرفضون كليّا أحيانا وجزئيّا أحيانا أخرى تطبيق هذه التغييرات التكيفيَّة بالنظر إليها كتهديدات لبنائهم العلائقي والمصلحي. ويذهب الكاتب إلى تفسير هذا الرفض باستعانته بــ ” نظريَّة السيطرة الاجتماعيَّة” التي مفادها أنَّ الأفراد والجماعات يميلون بشكل طبيعي نحو تفضيل التراتبيَّات القائمة على العرق والدين واللون والقبليَّة على حساب البنى والقيم الديموقراطيَّة القائمة على العدالة والمساواة وسيادة القانون، فعَبْرَ هذا التفضيل يعيد الأفراد إنتاج تَراتُبِيَاتِ هذه البنى القائمة على الشخصانيَّة والجماعاتيَّة.
وبنفس الدرجة أو أكثر حدَّة تَبَنَّت هذه المجتمعات خطابات اجتماعيَّة تتعلَّق بقناعاتها الدينيَّة في رفضها لقوى التحوّلات، ومن هذه الناحية شكَّل الموروث الديني في هذه المجتمعات جوانب مهمَّة في ممانعة التحديث والحداثة حسب الكاتب. فمثلا وجود الدولة الحديثة في المنطقة لم يمنع هذه الأخيرة عن الاعتماد على الأعراف والتقاليد والإرث الديني في عمليّات الضبط والسيطرة بشكل غير رسمي، بعيدا عن آليّات الضبط الرسمي في الدولة الحديثة. كما أن مكانة الأسرة وارتباطها الوثيق بأعرافها وتقاليدها الثقافيَّة والدينيَّة رغم ما طرأ على علاقاتها الداخليَّة من تغيّرات وتحوّلات فلا زالت تمثِّل قوَّة اجتماعيَّة لممانعة عمليَّة التحديث وخاصَّة في ارتباط بعض الأسر والعائلات بتضامنيات مع الدولة لمصالح عائليَّة قبليَّة كما أسلفنا.
وبنفس الدرجة أو أكثر حدَّة تَبَنَّت هذه المجتمعات خطابات اجتماعيَّة تتعلَّق بقناعاتها الدينيَّة في رفضها لقوى التحوّلات، ومن هذه الناحية شكَّل الموروث الديني في هذه المجتمعات جوانب مهمَّة في ممانعة التحديث والحداثة حسب الكاتب. فمثلا وجود الدولة الحديثة في المنطقة لم يمنع هذه الأخيرة عن الاعتماد على الأعراف والتقاليد والإرث الديني في عمليّات الضبط والسيطرة بشكل غير رسمي، بعيدا عن آليّات الضبط الرسمي في الدولة الحديثة.
3.3-الهويّات المتصارعة ومسألة الأقليّات في المنطقة
” إنَّ انتماءات الأفراد لا تكتسب بديهيّا الأهميَّة الأعلى عند الفرد بصورة مطلقة، إلا أنها في لحظة الحدث / الأحداث تبرز على السطح معبِّرة عن ذاتها مقابل الآخر المختلف، وهي في هذا لا تبرز بالقوَّة نفسها عند كل الأفراد لكن التعبير عنها جماعيّا يعطيها قدرا من القوَّة، بل إنَّ التعبير عنها بهذا الشكل قد قصد من هذه القوَّة مقابل قوَّة الآخر.”[14] في مناقشته لإشكاليَّات الهويَّة يتساءل باقر النجار عما إذا كان جميع الأفراد متساوين أمام القانون في المجتمعات الخليجيَّة؟ وإلى أي حدّ استطاعت المجتمعات الخليجيَّة أن توفِّر لأفراد هذه الجماعات والهويّات حقوقا متساوية؟ للإجابة عن هذه الأسئلة يرى الكاتب بأن ما يُحدِّد مكانة الأفراد في المجتمع الخليجي هو انتسابهم إلى جماعة أو فئة معيَّنة أكثر من المساواة أمام القانون، ويضيف قائلا بأن ما تفكِّر فيه الجماعات وتمارسه على أرض الواقع يمثِّل انعكاسات لمركب توزيع القوَّة في المجتمع. وهذا يجعل القوَّة على تحقيق المساواة والتكافؤ في الفرص تواجه معيقات قد يكون أبرزها حالة التشظِّي الذي تعيشه المجتمعات الخليجيَّة والذي أفرز حالة من الاستقطابات الإثنيَّة بمسمياتها المختلفة، والتوظيفات الإثنيَّة للدين.[15] إنَّ هذه الحالة من الصراع الهوياتي تجعل الدولة في نظر الكاتب غير قادرة على الاحتفاظ بحيادها أمام الاستقطابات القائمة في المجتمع، وهذا يتنافى مع قيم الدولة الحديثة التي تقوم على قدرة هذه الدولة من إدماج أقليّاتها القبليَّة والعرقيَّة واللغويَّة والدينيَّة. الشيء الذي يعتقد الكاتب بأن دول الخليج فشلت فيها إلى حدٍّ بعيد ويعتبر هذا الفشل من ممانعات عمليَّة التحديث في المنطقة. ويُرجع الكاتب فشل الدول في عمليَّة إدماج هذه الأقليّات بكون هذه القوى الهوياتيَّة والجماعاتيَّة، وبعض القيادات والرموز السياسيَّة تقوم عادة بدور التعزيز لحالة التشظي والاستقطابات الإثنيَّة في إطار نزوعها إلى المحافظة على مكاسب الجماعة والطائفة والقبليَّة.
تَخْلُقُ هذه الفجوات بين الجماعات والهويَّات على مستوى الحقوق والفرص والمصالح حالة من الصراع واللاتوازن واللامساواة، وهو أمر نجحت الدولة الحديثة إلى حدٍّ كبير في سدِّ ثغراته وتناقضاتها. ويرى إدغار مورين بأن ما يميِّز الزمن الحداثوي سياسيا هو قدرة الدول على إدماج الأقليَّات والجماعات بغض النظر عن الانتماءات الجزئيَّة على حساب الانتماء الكلِّي إلى الوطن، ويصف مورين هذه الحالة بوجود الاختلاف في الوحدة والوحدة في الاختلاف[16]. فلا تتحقَّق التحديث والمشروع الحداثوي بمجرد التعدّد والاختلاف وإنما يتحقَّق بقدرة الدول على تجاوز هذه الانتماءات وإمكانيَّة إدماجها تحت قيم ومعايير المواطنة.
رابعا: في مناقشة ونقد بعض أفكار الكاتب
واضح أن تصوّر باقر النجار للحداثة تصوّر شامل، ونعته للحداثة في الخليج العربي بـ ” الممتنعة” يعود إلى هذا التصوّر الشمولي للكاتب، حيث يرى بأنَّ المجتمعات الخليجيَّة بالرغم مما حقّقته من تقدّمٍ على مستوى البنى التحتيَّة وعلى مستوى اقتصادياتها فلا زالت مشروعها الحداثوي ممتنع، إذ إنها أي هذه المجتمعات لا زالت متمسِّكة ومتثبتّة ببعض نظمها التقليديَّة التي تحكم منطقها الداخلي وسيرها وتكرِّس لعلاقات القوَّة داخل المجتمع. ويرى الكاتب بأن ذلك معيق للمشروع الحداثوي في المنطقة، إذ أن الأخذ ببعض أسباب الحداثة وترك الأخرى أمر غير ممكن حسب باقر النجار. ومن خلال هذا الطرح يتَّضح لنا أن الكاتب بنى تحليله ومقاربته للحداثة على البراديغم الغربي للحداثة كنموذج ولعل ذلك يكون أوضح حينما يلاحظ القارئ الأمثلة التي يقدّمها الكاتب، فمثلا في حديثه عن إدماج الأقليّات في الباب السادس نجد الكاتب يقدِّم النموذج الأوروبي في ذلك مثل الأقليَّة الألمانيَّة في إيطاليا والأقليَّة الفرنسيَّة في سويسرا.
يبدو لنا من خلال ما تقدَّم، أنَّ الكاتب يبني تحليله على النموذج الغربي للحداثة، ومن هنا يحقّ لنا أن نتساءل عما إذا كان ممكن أن نتحدَّث عن الحداثة في ظلِّ التقليد والتبعيَّة؟ بلغة أخرى إذا كان المشروع الحداثوي يتعارض مع تقليد الفكر الماضوي وينفي كل نوع من أنواع التبعيَّة للتراث الماضوي فهل سيقبل هذا المشروع تبعيَّة وتقليد من نوع آخر؟ أي تقليد النموذج الغربي والتبعيَّة له؟ لا أعتقد أن الحداثة كمشروع الانتقال من التقليد والتبعيَّة إلى الإبداع والابتكار سيكون حكرا لمنطقة جيوغرافيَّة معيّنة، أكيد أن الانطلاقة الأولى للفكر الحداثوي كانت من أوروبا حسب أكثر المراجع التاريخيَّة لهذا المجال لكن ذلك في تقديري لا يدلّ على أنَّ التحديث بغير الطريقة الغربيَّة غير ممكن، كما أرى بأن محاولة التحديث وفق نموذج محدَّد مسبقا لا يخرج عن التقليد والتبعيَّة اللذين يتعارضان مع الفكر الحداثوي. يقول أودنيس: ” إنَّ جميع الأفكار التي نتداولها اليوم لا تنبع من الفكر العربي بقدر ما هي مأخوذة من البيئة الغربيَّة” وأرى بأن ما عبّر عنه أودنيس في هذه المقولة لا يبتعد عن فكرة التكيُّف التي يدَّعي باقر النجار حتميته، وإذا كان التكيُّف مع الشيء هو قبوله كما هو وتبنِّيه فإنَّ ما يدعو إليه الكاتب ليس حداثة بقدر ما هو تقليد للنموذج الغربي والتبعيَّة له. يقول محمد عابد الجابري: ” عندما تكون الثقافة السائدة ثقافة تراثيَّة فإنَّ خطاب الحداثة فيها يجب أن يتَّجه، أولا وقبل كل شيء إلى التراث بهدف إعادة قراءته وتقديم رؤية عصريَّة عنه.”[17] ومن هنا أرى بأن التكيُّف وتبنِّي النموذج الغربي ليس تحديثا وينتج من هذا التقليد تناقضات لا تقل حدَّة عن تلك التي تنتج عن حالة الجمود في ظلِّ تحوّلات العصر الحديث. حيث أعتقد بأن مسألة الخصوصيَّات لا بد من اعتبارها في عمليَّة بهذا بحجم التحديث. يقول ألان توران بأن الحداثة” نقد شامل لكل الأشياء والظواهر والمؤسَّسات والمفاهيم، بإخضاع هذه الموضوعات لمحكّ العقل.”[18] ويضيف محمد أركون قائلا: ” الحداثة هي بثّ الحيويَّة في التاريخ، إنها تعني الانفجار والانطلاق “.[19] وبهذا قد لا يمكن الحديث عن الحداثة بالتكيُّف مع أي نموذج كان وإنما تبدأ عمليَّة التحديث بالمراجعة الذاتيَّة تشمل الفكر الماضوي وتراث هذا الفكر وتعطي للعقل حرّيَّة التحكُّم في مسيره دون التقليد والتقيُّد على أي نموذج حداثويا كان أم ماضويا. ولا أرفض هنا بأن عمليَّة التحديث يجب أن تشمل الانفتاح على الآخر لأن هذا الانفتاح في اعتقادي أمر حتمي لما وصل إليه العالم من تداخل واتِّصال ثقافيين. لكن ذلك الانفتاح في اعتقادي لا يعني تبنِّي ما يأتي من هذا الآخر وفق ما هو عليه، ولا يعني أيضا تصوّر الحداثة كشيء يجب تبنّيه كما هو في الغرب، لأن ذلك سيؤدِّي بنا في نهاية الحلقة إلى تفسير التاريخ تفسيرا خطيّا حيث يقتضي أي تقدّم اتِّخاذ مسار التقدّم الغربي الحداثوي نفسه، الشيء الذي أعتبره طمسا لأي مساهمة تقدّميَّة لبقيَّة الشعوب غير الغرب.
بالإضافة إلى أن الكاتب ينظر إلى الحداثة في الخليج كمشروع ممتنع لفشل مؤسَّسات هذه المجتمعات في تحقيق مشروعها الكلِّي الشامل وإن نجحت في تحقيق بعض الجزئيات فإنها لم تنجح في تحقيق أهم جزئياتها، ومن هنا أرى بأنه إذا كان الفشل في بعض جوانب هذا المشروع يؤدِّي إلى امتناع تحقُّق الحداثة فلا أرى لماذا يبني الكاتب تحليله على النموذج الغربي تحليله وينطلق منه كنموذج مثالي، لأن هذا النموذج هو الآخر فشل في تحقيق بعض جزئيات المشروع الحداثي في الغرب خاصَّة فيما يتعلَّق بمسألة الأقليَّات في الغرب. فنجد مثلا في أمريكا وإن نجحت المؤسَّسات في تحقيق المساواة وتكافؤ الفرص، فإنَّ الممارسة الفرديَّة والمؤسَّساتيَّة في بعض جوانبها لا زالت قائمة على التمييز بين الأبيض والأسود وبذلك تكون هذه الحداثة قاصرة في بعض جوانبها فيستحقّ أن تنعت بالممتعة وفق منطق الكاتب حيث نجد الكاتب نفسه يستعين بـ “نظريَّة السيطرة الاجتماعيَّة لتفسير الحالة في الخليج فإذا كانت الحداثة في الخليج ممتنعة من أجل حالة كهذه، فلماذا لا تكون ممتنعة في الغرب الذي يعود إليه الكاتب في أمثلته. وذات الشيء يمكن ملاحظته في أوروبا حيث إن المؤسَّسات وإن قدمت للأقليات الدينيَّة والعرقيَّة فيها حقوقا ومساواة فإن بعض الممارسات الفرديَّة داخل هذه المؤسَّسات يمكن أن تأتي معارضة لهذه القوانين المؤسَّساتيَّة، والكاتب نفسه أعطى أمثلة من هذا النوع، أي كيف أن بعض الدول الأوروبيَّة وإن نجحت في إدماج أقلياتها قانونيا، فإنها لا زالت تطرح تناقضات على المستوى التطبيقي، مثل الأقليّات الفرنسيَّة في سويسرا والأقليّات الألمانيَّة في إيطاليا. بلغة أخرى، فهل تكون الحداثة في الخليج ممتنعة لغياب التكيُّف الشامل وتكون الحداثة في الغرب كاملة ومتكاملة رغم قصورها في الجوانب المذكورة؟
الكاتب ينظر إلى الحداثة في الخليج كمشروع ممتنع لفشل مؤسَّسات هذه المجتمعات في تحقيق مشروعها الكلِّي الشامل وإن نجحت في تحقيق بعض الجزئيات فإنها لم تنجح في تحقيق أهم جزئياتها، ومن هنا أرى بأنه إذا كان الفشل في بعض جوانب هذا المشروع يؤدِّي إلى امتناع تحقُّق الحداثة فلا أرى لماذا يبني الكاتب تحليله على النموذج الغربي تحليله وينطلق منه كنموذج مثالي، لأن هذا النموذج هو الآخر فشل في تحقيق بعض جزئيات المشروع الحداثي في الغرب خاصَّة فيما يتعلَّق بمسألة الأقليَّات في الغرب.
خاتمة
إنَّ الحداثة الممتنعة عند صاحبها ” سلمان باقر النجار” تمثِّل حالة من اللاتكيف في الخليج العربي مع التحوّلات والتغيّرات التي باتت المنطقة تعيش فيها بفعل اقتصادها المبني على النفط، وبفعل مجموعة من التحوّلات التي ترتبط بعضها بالموجة الرقميَّة وانفجار المعلومة وما تطرأ عليها من تحوّلات على أنماط العلاقات كما يرتبط جزء كبير من هذه التحوّلات بموقع المنطقة في السوق العالميَّة، وكذلك بالحروب التي عرفتها المنطقة. ويربط الكاتب هذا اللاتكيف واللاتوازن بتمسُّك دول المنطقة بخصوصياتها السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، الأمر الذي يعيق أخذها بأسباب الحداثة والتكيُّف معها في جميع جوانبها. وتتمثَّل هذه الخصوصيات المعيقة لتحقِّق عمليَّة التحديث في شكل الدولة التضامنيَّة وطبيعة الحكم فيها، كما تتمثَّل فيما هو اجتماعي ثقافي أي في الدور الذي يلعبه ارتباط الأفراد في هذه المجتمعات بالدين والاثنيَّة والقبيلة بشكل تقليدي. إن التصور الشمولي للكاتب في مقاربته للحداثة يجعل الحداثة في نظره ممتنعة في الخليج العربي، حيث يرى بأن المعيقات التي ذُكرتْ تَجْعل بعضَ جوانب الحداثة ممتنعة التحقُّق، والحداثة عنده مشروع كلي لا يمكن الأخذ ببعض أسبابها وترك بعضها الآخر. ولقد بنى الكاتب هذا التصوُّر على النموذج الغربي للحداثة الأمر الذي أعتبره متعارضا للحداثة كمشروع يشمل التحرُّر في الفكر الإبداعي والابتكاري دون التقليد والتبعيَّة. بل يجب أن تكون هذه الحداثة متجسِّدة في إعادة النظر في التراث من الداخل قبل الانفتاح على أي نموذج وإلا فلا أرى فرقا بين تقليد التراث الماضوي وتقليد الآخر فيما وصل إليه من تقدُّم وتحضُّر.
قائمة المصادر والمراجع:
الكتب
1-باقر سلمان النجار، الحداثة الممتنعة في الخليج العربي تحولات المجتمع والدولة، (بيروت، دار الساقي 2018).
2-ألان تورين، نقد الحداثة، ترجمة أنور مغيث، (بيروت، المجلس الأعلى للثقافة، 1997).
3-أمين معلوف، الهويات القاتلة، ترجمة نهلة بيضون، (بيروت، دار الفارابي، 2004).
4-إدغار مورين، إلى أين يسير العالم، ترجمة أحمد العلمي، (بيروت، الدار العربيَّة للعلوم ناشرون، 2009).
5-كارن روس، الثورة بلا قيادات: كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة، ترجمة فاضل جكتر، (كويت، سلسلة عالم المعرفة، مارس2017).
6-محمد أركون، الأنسنة والاسلام مدخل تاريخي نقدي، ترجمة محمود عزب، (بيروت، دار الطليعة، 2010).
7-محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 1991).
8-محمد سبيلا، مدارات الحداثة، (بيروت، الشبكة العربيَّة للأبحاث والنشر، 2009).
9-هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكاليَّة تخلف المجتمع العربي، ترجمة محمد شريح، (السويد، دار نلسن، 2000).
مقالات:
1-جانوي عبد العزيز، قراءة في سوسيولوجيا مخاطر الحداثة الانعكاسيَّة، (الجزائر، دراسات وأبحاث، العدد30 مارس2018).
2-إدغار مورين، فهم الشرط الانساني: رهان تربيَّة المستقبل، ترجمة عزيز مشواط، (رؤى124، العدد29).
3-عمار بلحسن، الحداثة المعطوبة، (التبيين، العدد7، الجزائر يوليوز1993).
4-يعقوب يوسف الكندري، القبيلة والمفاهيم السياسيَّة في المجتمع الخليجي المعاصر، المجتمع الكويتي مثالا، (عمران، العدد15-2016).
[1] محمد سبيلا، مدارات الحداثة، (بيروت، الشبكة العربيَّة للأبحاث والنشر، 2009) ص 129.
[2] عمار بلحسن، الحداثة المعطوبة، (التبيين، العدد7، الجزائر يوليوز1993).
[3] باقر سلمان النجار، الحداثة الممتنعة في الخليج العربي تحولات المجتمع والدولة، (بيروت، دار الساقي 2018) ص 30.
[4]باقر سلمان النجار، الحداثة الممتنعة في الخليج العربي تحولات المجتمع والدولة، (بيروت، دار الساقي 2018) ص 27-31.
[5] هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكاليَّة تخلف المجتمع العربي، ترجمة محمد شريح، (السويد، دار نلسن، 2000) ص43.
[6] كارن روس، الثورة بلا قيادات: كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة، ترجمة فاضل جكتر، (كويت، سلسلة عالم المعرفة، مارس2017) ص 71.
[7] إدغار مورين، فهم الشرط الانساني: رهان تربيَّة المستقبل، ترجمة عزيز مشواط، (رؤى124، العدد29).
[8] باقر سلمان النجار، الحداثة الممتنعة في الخليج العربي تحولات المجتمع والدولة، (بيروت، دار الساقي 2018) ص 62.
[9] باقر سلمان النجار، الحداثة الممتنعة في الخليج العربي تحولات المجتمع والدولة، (بيروت، دار الساقي 2018) ص 37.
[10] يعقوب يوسف الكندري، القبيلة والمفاهيم السياسيَّة في المجتمع الخليجي المعاصر، المجتمع الكويتي مثالا، (عمران، العدد15-2016) ص 52.
[11] شفيق ناظم الغبرا، الكويت: دراسة في آليات الدولة القطريَّة والسلطة والمجتمع، سلسلة دراسات مشروع المجتمع المدني والتحول الديموقراطي في الوطن العربي، (بيروت، مركز بن خلدون للدراسات الانمائيَّة،1995) ص 52-57.
[12] جانوي عبد العزيز، قراءة في سوسيولوجيا مخاطر الحداثة الانعكاسيَّة، (الجزائر، دراسات وأبحاث، العدد30 مارس2018).
[13] باقر سلمان النجار، الحداثة الممتنعة في الخليج العربي تحولات المجتمع والدولة، (بيروت، دار الساقي 2018) ص 6.
[14] أمين معلوف، الهويات القاتلة، ترجمة نهلة بيضون، (بيروت، دار الفارابي، 2004) ص 51.
[15] باقر سلمان النجار، الحداثة الممتنعة في الخليج العربي تحولات المجتمع والدولة، (بيروت، دار الساقي،2018) ص337-339.
[16] إدغار مورين، إلى أين يسير العالم، ترجمة أحمد العلمي، (بيروت، الدار العربيَّة للعلوم ناشرون، 2009) ص51-53.
[17] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 1991) ص 24.
[18] ألان تورين، نقد الحداثة، ترجمة أنور مغيث، (بيروت، المجلس الأعلى للثقافة، 1997) ص 267.
[19] محمد أركون، الأنسنة والاسلام مدخل تاريخي نقدي، ترجمة محمود عزب، (بيروت، دار الطليعة، 2010) ص 131.