شهد المغرب نظاما حضريّا جديدا تميَّز بارتفاع عدد سكَّانه الحضريِّين بفعل عدَّة عوامل – قسّمها المالكي في كتابه الثقافة والمجال إلى أسباب عامَّة تتميَّز بالتشابه (ايكولوجيَّة، اقتصاديَّة، اجتماعيَّة…)، وأخرى خاصَّة تختلف من مبحوث لآخر، غير أن هذا النظام الجديد لم يصاحبه تطوّرا مقبولا في النسيج الاقتصادي والصناعي للمدن وعلى وجه الخصوص مدينة فاس. وبالتالي فانطلاقا من هاته المفارقة الحضريَّة التي تترجم بشكل واضح من خلال الانفجار الديموغرافي للمدن مقابل تدنِّي النسيج الاقتصادي الذي لم يستوعب هذا الارتفاع، فكان من نتائجه ظهور معضلة الفقر الحضري، نجد أنفسنا أمام طرح السؤال التالي:
كيف استوعبت مدينة فاس الظاهرة الحضريَّة الجديدة؟ وهل يمكن لهاته المدينة أن تنتج لنا مجتمعا موحّدا ومتماسكا رغما على ما أنشأته الظاهرة الحضريَّة من مشاكل وتعقيدات؟ أم أنها تسير بسياساتها نحو تعميق الهوَّة بين فئات الساكنة الحضريَّة وذلك بنهج سياسات تعمير تراعي نمط الإنتاج على غرار النمط الغربي، وبالتالي السقوط في مشكلة الفصل الحضري عن طريق توسيع المسافة بين الفئات الاجتماعيَّة تبعا لمنطق التراتب؟
إنَّ الحديث عن الظاهرة الحضريَّة الجديدة التي عرفها المغرب، وبالضبط مدينة فاس هو حديث عن تطوّر مهول للساكنة خلال فترة وجيزة، حيث تطوّر النمو الديموغرافي لمدينة فاس ما بين 1971م و2004م من 352371 نسمة إلى 1746815 نسمة، مقابل تدنِّي النمو الاقتصادي والصناعي للساكنة، ممَّا يدفعنا إلى القول على حدِّ تعبير “أولفيه مونجان “بأنَّ الوضع الحضري لمدينة فاس، وضع حضريّ مأزوم، وذلك بفعل ما عرفته المدينة من تطوّر سريع للنمو الديموغرافي، كما أشرنا أعلاه مقابل تدنِّي النمو الاقتصادي للمدينة؛ كما جاء في إحدى المقالات الصحفيَّة المعنونة بـ”عراقة فاس…بين الركود الاقتصادي وعطالة الشباب، وبالتالي وأمام هذا الوضع الحضري المأزوم، والذي من أشدّ ما وصل إليه تخبّط المدينة وسط مجموعة من الظواهر، ولعل أعقدها انتشار السكن الصفيحي بنسب مهولة ( حي الليدو)، بل وكل الأحياء الهامشيَّة وما تحمله من تمزّقات أخلاقيَّة وتنمويَّة تزيد من حدَّة معاناة المدينة، أي أن مدينة فاس أصبحت مسرحا للتعبير عن الظلم أي ظلم القدر الذي فرض عليها على حدّ تعبير ” جاك دون زيلو”. يمكننا طرح التساؤل التالي مسائلين فيه هذا الوضع الحضري الجديد الذي نعيشه عن إمكانيّته في أن يبني لنا مجتمعا متماسكا أم أنه سيزيد الوضع حدّة، وذلك من خلال إيجاد حلّ للمسألة الاجتماعيَّة عن طريق خلق مسافة فيزيقيَّة يصبح بفعلها المضمون الاجتماعي للمجال متجانسا داخل وحدة مجاليَّة وشديد التمايز بالنسبة للوحدات الخارجيَّة على حدِّ تعبير ماكينزي؛ أي تصبح المدينة مجالا للاتكافؤات الاجتماعيَّة بلغة “اريك موران “، أو بعبارة أخرى، يمكننا أن نتساءل عن تبعات هذا النظام الحضري الجديد المصحوب بفقر حضري على مسألة التعايش بين أفراد المجتمع الحضري الفاسي، أي هل سيعرف فصلا حضريّا مبنيّا على منطق التراتب الاجتماعي والانتماء للمجال بالمعنى الاجتماعي؟ أم أن المدينة ستحاول احتواء هذه المشاكل من أجل إنتاج مجتمع موحَّد في إطار التجميع وليس التجزيئي؟
إنَّ الحديث عن الظاهرة الحضريَّة الجديدة التي عرفها المغرب، وبالضبط مدينة فاس هو حديث عن تطوّر مهول للساكنة خلال فترة وجيزة، حيث تطوّر النمو الديموغرافي لمدينة فاس ما بين 1971م و2004م من 352371 نسمة إلى 1746815 نسمة، مقابل تدنِّي النمو الاقتصادي والصناعي للساكنة.
إنَّ الجواب على هذا السؤال يتطلَّب منا تحليلا سوسيولوجيا ولو لبرامج السكن التي جاءت كحلّ لما طرحه النظام الحضري الحديد من مشاكل، ولو بشكل سطحي ومختصر، لأن الأمر يحتاج إلى دراسة سوسيولوجيَّة ميدانيَّة أكثر منه إلى تحليل أبعاد هذه البرامج.
لقد حاولت الدولة نهج مجموعة من السياسات الحضريَّة التي تحاول أن تستوعب هذا النظام الجديد أو بالأحرى التخفيف من حدّته. لكن ما يثيرنا نحن هنا ويدفعنا إلى التساؤل هو هل ستتمكَّن هذه السياسات الحضريَّة من حلِّ المسألة الاجتماعيَّة الجديدة؟ أم أن الحلّ عبر برامج السكن الاقتصادي وبرامج السكن الاجتماعي سيزيد من تعميق المسألة؟
لقد حاولت الدولة نهج مجموعة من السياسات الحضريَّة التي تحاول أن تستوعب هذا النظام الجديد أو بالأحرى التخفيف من حدّته. لكن ما يثيرنا نحن هنا ويدفعنا إلى التساؤل هو هل ستتمكَّن هذه السياسات الحضريَّة من حلِّ المسألة الاجتماعيَّة الجديدة؟ أم أن الحلّ عبر برامج السكن الاقتصادي وبرامج السكن الاجتماعي سيزيد من تعميق المسألة؟
إنَّ الجواب عن السؤال أعلاه هو تأكيد للاحتمال الثاني أي أن هذه البرامج ستزيد من تعميق الهوَّة بين الفئات الاجتماعيَّة، لأنَّه بديهي كل البداهة أنَّ هذا النوع من السكن سيستقطب الفئات الفقيرة والهشَّة؛ لأنَّه إذا ما أردنا أن نحكم عليه بالنجاح الحتمي، ولكي يكون موجّها أيضا لحلّ مشكل المسألة الاجتماعيَّة عن طريق حلّ مشكل السكن لابد أن يكون سكنا ذا تكلفة أقل، وبالتالي ألا يمكننا أن نعتبر هذه البرامج بمثابة تشكيلات اجتماعيَّة ومجاليَّة تستقطب وتنتقي أفرادها التي تلائم كل مجال على حدة؟ نعم من البديهي أن نعتبرها بمثابة قوة مغناطيسيَّة تنتقي فئاتها الاجتماعيَّة الملائمة لهذا المجال، فإذا كان ماكينزي يتحدَّث عن التشكيلات الايكولوجيَّة كآليَّة لانتقاء الفئات الاجتماعيَّة فنحن الآخرين يمكننا هنا أن نتحدَّث عن التشكيلات التعميريَّة الطبقيَّة، التي تحاول أن تستوعب المسالة الحضريَّة ” مشكلة السكن”.
ومنه وأمام هذا التأسيس الأوَّلي للفصل الحضري بمدينة فاس، الذي لا يهمّنا إن كان تأسيسا مقصودا أو غير مقصودا سنتساءل في مقالنا هذا عن دور المدينة أمام هذا النظام الحضري الجديد أي هل ما زال بإمكانها إنتاج المجتمع الموحَّد أم لا؟
بالرجوع إلى كتاب “الثقافة والمجال” لرائد السوسيولوجيا الحضريَّة بالمغرب، عبد الرحمان المالكي فيما يخصّ قضيَّة سيرورة الهجرة والاندماج في التحضُّر، يمكننا القول انطلاقا من فهمنا للقضيَّة، بأن سيرورة الهجرة والتحضُّر هي سيرورة تفاعليَّة بين المدينة والمهاجر أي أن المدينة تؤثِّر في المهاجر انطلاقا ممّا سمّاه “ازرابارك” بالعدوى أو التنشئة الاجتماعيَّة، كما أن المهاجر يؤثِّر في المدينة انطلاقا من التحوّلات الديموغرافيَّة. لكن ما علاقة هذا التحليل بموضعنا هذا؟
سيرورة الهجرة والتحضُّر هي سيرورة تفاعليَّة بين المدينة والمهاجر أي أن المدينة تؤثِّر في المهاجر انطلاقا ممّا سمّاه “ازرابارك” بالعدوى أو التنشئة الاجتماعيَّة، كما أن المهاجر يؤثِّر في المدينة انطلاقا من التحوّلات الديموغرافيَّة.
إنَّ الإجابة عن هذا السؤال تستدعي منا استحضار المدينة التاريخيَّة ” فاس المحاطة بالأسوار ومقارنتها بالمدينة الحاليَّة وذلك من أجل الوقوف على ما كانت تعنيه المدينة التاريخيَّة وما تشير إليه اليوم، فالمدينة التاريخيَّة المحصَّنة بالأسوار كانت رمزا للرفاه والحرّيَّة والتماسك الاجتماعي، أما الان فلقد أصبح مفهوم المدينة يشير إلى كل أنواع التعقيد والانوميا باللغة الدوركايميَّة بفعل سيرورة الهجرة والتحضُّر التي عرفتها المدينة، وبالتالي فما يحدث داخل سيرورة الهجرة والتحضُّر من تثاقف وانفجار ديموغرافي سينتقل بالمدينة من مدينة الرفاه والحريَّة المتجانسة إلى مدينة التجزيئات السكنيَّة المشكَّلة وفق جدليَّة الجذب والطرد.
إذا كان لا بدّ من وضع خلاصة لموضوع متشعِّب كهذا. فيمكننا القول بأنَّ موضوع الهجرة والتحضُّر والمسألة الحضريَّة بمدينة فاس، من بين المواضيع المعقَّدة التي تحتاج إلى العديد من الدراسات الميدانيَّة من أجل مقاربتها بشكل أكثر ممّا قمنا به نحن في مقالنا هذا.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.