بدأ الأمر في مصر بعاصفة ألزمتنا بيوتنا يوم 12 مارس/آذار؛ برق ورعد ومطر يهطل بلا انقطاع. في الصباح التالي، رأيت من نافذتي أرض الحديقة وقد تحوّلت إلى بِركة. أخفى الماء العشب فلم يعد هناك منه سوى صورته في الذاكرة. انقطعت الكهرباء لأكثر من يوم كامل، فبدا الأمر أقرب إلى مشهد افتتاحي منذر بما هو أخطر في فيلم أو رواية. التفكير في طرق شحن الهواتف والحواسيب المحمولة حتى عودة الكهرباء، ترافق مع الارتياح لرائحة الهواء النقية، ذلك النقاء الذي يمكن للمطر وحده أن يستدعيه. عاد للسماء إشراقها مع انتهاء العاصفة، لتبدأ عاصفة من نوع آخر هي الخاصة بفيروس كورونا المستجد. لا مدارس ولا خروج من البيت.
في البداية لم يتغير الكثير في روتيني اليومي، إذ كان عليّ الانتهاء من نص سيرة ذاتية من المفترض أن يُنشر بالألمانية، آخر العام، ضمن كتاب جماعي عن الفوتوغرافيا. استغرقت هذه المهمة، التي ترافقت مع ألم لا يطاق في الأسنان، وقتًا أطول مما قدّرت.
وضعني الألم المستمر في مواجهة شاقة مع جسدي، أصبح حضوره واضحًا ومحسوسًا أكثر من ذي قبل؛ باتت علاقتي به، مع كثرة القراءة عن كوفيد-19، قائمة على التوجس والارتياب: ممنوع لمس الوجه، التعامل مع اليد كمتواطئ محتمل مع العدو غير المرئي، تخيل مسار مفترض للفيروس داخل أعضاء الجسم المختلفة.
قبل فترة الحجر الذاتي مباشرة، كنت قد انتهيت من قراءة مراسلات كاواباتا وميشيما، واندهشت من تركيز ميشيما وثباته الانفعالي، وهو يكتب لكاواباتا خطابات مشغولة بالهموم الجمالية والفنية، فيما تُقصَف طوكيو وغيرها من المدن اليابانية قرب نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويومًا بعد آخر، عاودت اكتشاف أن المسألة ليست صعبة؛ فكل شيء يخفت وقعه الصادِم بالاعتياد، نتكيّف على وجوده ونتمسك بتفاصيلنا الصغيرة في مواجهته، فبعد أسبوعين من الكتابة خطفًا والقراءة خطفًا ومتابعة مجريات زحف الوباء من بلد لآخر بلا توقف، مع ما يترتب على هذا من توتر وألم نفسي يُترجم نفسه فورًا إلى ألم جسدي، صرتُ أضبط يومي على إيقاع طقوس جديدة تمنحني بعض السكينة وتفصلني نسبيًا عمّا يحدث في الخارج، غير أن ملجئي الفعلي والدائم يتمثل في القراءة، لكنني لا أسير فيها حاليًا على جدول محدّد، بل أترك نفسي لإرادة الكتب كي تقودني وفق أهوائها، مستمتعةً بلذة التسكع بينها.
أنتهي من رسائل السنوات الأخيرة لوجيه غالي، فأجد نفسي مدفوعة لإكمال الصورة بقراءة “بعد جنازة”؛ كتاب ديانا أتهيل عنه. يثير صاحب “بيرة في نادي البلياردو” في نفسي تساؤلات عن الكتابة بلغة أخرى، بخلاف اللغة الأم، فأقرّر قراءة مؤلفات فلاديمير نابوكوف المكتوبة بالإنكليزية مباشرة. تدفعني شعرية لغة نابوكوف للعودة إلى دانيلو كيش لأقرأ “العود والندوب” كمن يكمل حديثًا مع صديق قديم.
أكانت مصادفة أن معظم من قرأت لهم، خلال الفترة الأخيرة، اختبروا المنفى والضياع وصقلتهم تجارب أليمة؟
*روائيَّة من مصر.
** المصدر: العربي الجديد.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.