من المؤكَّد أنَّ أي حديث عن الديمقراطيَّة في العالم العربي في ظلّ الثوري الراهن لن يكون له أي معنى، تماما مثل الحديث عنها في ظلّ حكم استبدادي تسلّطي لا يؤمن بفكرة الديمقراطيَّة لكونها خطرا عليه بالأساس، فما دامت قوى الأنظمة الفاسدة ضاربة بجذورها في أعماق الدول، لا يمكن أن نتحدَّث عن تحوّل ديمقراطي، لكن حين يتعلَّق الأمر بالاستشراف، فلا بأس ببدء التفكير، بل هو أمر يحتّمه الواجب الأخلاقي الذي يلزم المثقّفين بضرورة التفكير والتدبّر في البدائل والخيارات التي تصلح الشأن العام وعلى رأسه الشأن السياسي في المرحلة القادمة، إذ إنَّ المسار الثوري بطبيعته تحرّكه الخيارات السريعة الناتجة عن الغضب والاحتقان، ويبقى مصير الثورات تحدّده القوى الاجتماعيَّة المنظّمة التي لها رؤى واضحة تعمل في سبيلها، لأن الذي يحسم الخيارات في الأخير هو مجموع القناعات التي تتشكّل لدى جماهير الناس بحيث تجعلهم راضين على الوضع الذي هم فيه.
لا شكّ أنّ هناك قوى متعدّدة ومتشابكة في الداخل وفي الخارج يهمّها أن لا يحدث تحوّل ديمقراطي في العالم العربي، وقد اعتاد الناس أن يذكّروا الغرب والأنظمة الديكتاتوريَّة الموالية له على رأس تلك القوى، وهو أمر واضح لا شكّ فيه، لكن كثيرا ما ينسى المتحدّثون أنَّ الدول الناشئة التي تنافس الغرب مثل الصين وروسيا لا تريد بقوّة أن تكون هناك ديمقراطيَّة في العالم العربي والإسلامي لأنّها ليست بديلا أخلاقيّاً عن الغرب، بل منافساً شرساً على مائدة النهب الكبير، حيث تمثِّل الدول العربيَّة أفضل أصناف هذه المائدة بما تحويه من موارد وعلى رأسها الطاقة الرخيصة والأسواق، ولعل العداء للديمقراطيَّة في هذه المرحلة يكاد يساوي في حدّته العداء للإسلام كدين إذا أردنا أن ندقّق النظر بعيدا عن التضليل لأن جوهر الإسلام حين نختصر رسالته هو تحقيق العدل وإزالة الظلم من المجتمعات تماما كما لخّصته الآية الكريمة (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النحل 90. وحيث إنَّ هذه القيم التي جاء بها الإسلام وإن وجدت لها تجسيداً على المستوى الأخلاقي الفردي لم تتح لها فرصة التجسيد في الجانب السياسي حيث حال الزوال السريع للحكم الراشد بعد فترة النبوّة وسطو الأنظمة السلطانيَّة الوراثيَّة على الحكم إلى ضياع فرصة اختراع الديمقراطيَّة أو ما يقابلها في العالم الإسلامي.
فاقم من هذا الوضع انحطاط العقل الإسلامي نتيجة القهر الطويل، إذ تحوّل إلى عقل تبريري سلبي يفلسف الواقع لينسجم مع حالته النفسيَّة الاجتماعيَّة الجامدة ويقرأ النصوص بهذه النفسيَّة المتحيّزة. فلا عجب إذن أن نفتقد في تراثنا الإسلامي ما يلجم الاستبداد من فقه دستوري واضح، بل إنّنا لا نكاد نرى كبير أثر للحديث عن الحرّيّات في كتب الفقه في مجملها بالشكل الذي نراه عند الباحثين الإسلاميّين، وقد لاحظ هذا الأمر كبار المصلحين في العصر الحديث ومنهم محمد رشيد رضا منذ مائة عام، حيث قال في مجلّة المنار: ” لا تقل أيّها المسلم عن هذا الحكم الديمقراطي كما هو في الغرب أصلٌ من أصول الدين، ونحن قد استفدناه من الكتاب المُبين ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوروبيّين والوقوف على حال الغربيّين، فإنّه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرت أنت وأمثالك أن هذا الإسلام، ولكان أسبق الناس إلى الدعوة إلى إقامة هذا الركن من علماء الدين”/ المنار ج10، ص 283.
لكن الأمر الآن قد اتّضح من الجانب النظري لدى جمهور الإسلاميّين، فقد أصبحت القناعة بالتحوّل الديمقراطي تحوز أنصاراً كثيرين ولا تلقى معارضة إلا من بعض الشيوخ التقليديّين المرتبطين تاريخيّا ووظيفيّا بالعروش الحاكمة. لكن السؤال المطروح الآن هو أنّ التحوّل الديمقراطي في العالم العربي معناه أن تتحوّل الديمقراطيّة من إشكاليَّة غربيّة إلى إشكاليَّة عربيَّة إسلاميَّة، بمعنى أنَّ الأمر يمكن تشبيهه بنقل العلوم والتكنولوجيا أو الاستثمار الأجنبي المباشر، يبقى مرهوناً بمصلحة الطرف الذي يملك هذه الإرادة وهو حاليّا الغرب ومؤيّدوه، الذين يبدون مقاومة شديدة للديمقراطيَّة ذات النسخة العربيَّة الإسلاميَّة، مثلما يقاومون ويمنعون تحويل التكنولوجيا.
من هنا يصبح التحوّل الديمقراطي يعتمد فقط على جانب المثاقفة، وهو رافد نخبوي وبطيء، لكنّه في المقابل يصبّ في مصلحة الإسلاميّين على المدى الطويل إذا هم جعلوا من مطلب العدالة والحرّيّات- الذي هو لبّ الديمقراطيَّة- صميم دعوتهم في المرحلة القادمة، وأن يصبح الدين مرادفاً حقيقيّاً للحرّيَّة ويكشف الغطاء عن المؤسّسات الدينيَّة التي أثبت التاريخ الغربي والشرقي على السواء بأنّها في خدمة الحاكم، بل هو الذي يصنعها في غالب الأحيان، وأن يتمّ التمييز بوضوح في أذهان العامَّة وليس فقط المثقّفين، بين الدين والمذهبيَّة، وبين الدين والطوائف، وأن تحسم مسألة الدولة بمفهومها الحديث ومستلزماتها من مفهوم للمواطنة وسلطة القانون على المستوى الثقافي، بمعنى أن تحسم مسالة التعريف وإعادة التعريف للديمقراطيَّة وحول ما إذا كانت صالحة لنا أو صالحين لها، ثمّ يبدأ العمل على الأمد الطويل، الذي لا شكّ أن الغرب والدول التي تشاركه نظرة منع الديمقراطيَّة عن العرب والمسلمين لن يستطيعوا منع الديمقراطيَّة إذا أصبحت عقيدة سياسيَّة شرقيَّة إسلاميَّة لا سيما وأن الغرب ذاته بدأ يفقد ديمقراطيّته التي أصبحت تميل إلى الصوريَّة مع سيطرة رأس المال على العمليَّة السياسيَّة من جهة وانتشار المادّيَّة الاستهلاكيَّة التي تبعد الفرد بطبيعتها عن الشأن العام وتزيد من النزعة الفرديَّة التي تجعل المواطن يبتعد عن السياسة ما يعني تضرّر الديمقراطيّة التي تعتمد في حراستها بشكلٍ أساسي على الوعي الجماعي للجماهير.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.