على سبيل التقديم:
منذ أن وجد الإنسان على وجه البسيطة وهو يبحث عن نفسه وعن علاقتها بالمحيط الذي يوجد فيه، ولكونه يتفاعل من أجل البقاء وإثبات الذات مع فرض الوجود فإن الثنائيَّة التي تربط الحياة بالموت جعلت من الكائن البشري يصارع الزمن ويحاول أن يعمل على توقيفه وإيقافه ليتحكَّم فيه وذلك انطلاقا من أنانيته الكبيرة، فالكائن البشري (أفضِّل استعمال الكائن البشري لوصف الإنسان لكونه يخالف مفهوم الإنسانيَّة في غالب المحطَّات التاريخيَّة وخاصَّة عندما يعاني من مرض العظمة وداء الأنانيَّة) وبحكم قواه العقليَّة وتطوّر نموّه الجسدي والعقلي والحركي فهو يحاول دائما أن يتمكَّن من فهم ما يقع في حياته اليوميَّة وكذا الماضي والمستقبل. ولضمان ذلك كله حاول عبر تكتلاته وأنظمته الاجتماعيَّة بدءا بتعاقده الاجتماعي الأوَّل، أن يفسّر أنه هو الذي يستطيع أن يتحكَّم في كل شيء وبالتالي إمكانيَّة فرض أفكاره وأهوائه وميولاته ورغباته واجتهاداته في صراع مع مختلف التغيّرات بما فيها الزمن؛ فاكتشف بذلك الكتابة والتوثيق ليوقف الزمن رغما عن أنفه ويؤرِّخ لأحداثه. كما أحدث مفهوم العلم وأسَّس لمبادئه ومفاهيمه. ومع كثرة وتزايد هذا الكائن البشري وانتشاره عبر المجال الجغرافي فوق الأرض تولَّد لديه نوع من التهافت حول من يسبق الآخر (في إطار ما يسمَّى بفلسفة الوجود) وفي تعليق اسمه على لوحة تاريخ البشريَّة ليحصل على شهادة السبق وبالتالي تغذية الأنانيَّة أو اكتساب الفخر والاعتزاز. وبالتالي تبقى هذه النزعة الإنسانيَّة الساعية إلى توقيف الزمن والتحكُّم فيه عبر تأكيد الذات الفرديَّة أو الجماعيَّة ومحاولة الانتقال من الشفوي (غير المقنّن وغير المراقب) إلى الكتابة والتوثيق ومحاولة جعل التاريخ يشهد على هذا السبق في كل شيء انطلاقا منأدلَّة ملموسة ومكتوبة ( ولو بشكل مزوّر ومنحرف ومغاير للحقائق) فكم من أفكار كانت عند حضارات سابقة في التاريخ، لكن بحكم هذه الأنانيَّة تمّ انتسابها إلى حضارات أخرى تمكَّنت بفعل السبق الاقتصادي والسلطة من تعليقها باسمها في لوحات التاريخ وبالتالي تصبح ملكا لها وتسند إليها.
فكيف إذن يمكن لنا أن نثق في التاريخ القديم أو الحديث ونحن اليوم نرى كيف يتمّ تزوير الحقائق أمامنا؟[1] وانطلاقا من هذه الفلسفة والتي يمكن أيضا أن تصنَّف ضمن الأنانيَّة الفكريَّة يتبادر إلى ذهني مجموعة من الأسئلة هي التي دفعتني إلى كتابة هذه الأسطر، منها ما موقع الحضارة الأمازيغيَّة ضمن هذا التهافت؟ وهل من حقّنا الحديث عن السوسيولوجيا الأمازيغيَّة في ظل هذه الأنانيَّة الفكريَّة وضمن التاريخ المفبرك وراء هدف تغذيتها والسبق نحو نشر اللوحات؟ وماذا عن إشكاليَّة الثنائيَّة المرجعيَّة ما بين الشفوي والكتابي في تدوين الحقائق والاعتراف بها؟ ماذا عن الأخطاء التي يرتكبها الكائن البشري في بناء تاريخ العلم؟ وهل فعلا تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم كم أكد غاستون باشلار؟ أم أن تاريخ العلم هو تاريخ أنانيَّة الشعوب القويَّة والمهيمنة والمسيطرة حسب كل عصر؟
أوّلا: تاريخ العلوم البشريَّة بين الشفوي والكتابة.
من بين المسلّمات التي وضعتها الأنانيَّة البشريَّة عبر ما يسمى بالمدارس التاريخيَّة للعلوم الإنسانيَّة، أنّ المصادر والمراجع التي يتمّ الاعتماد عليها في البحث العلمي بالدرجة الأولى هي تلك المصادر والأفكار والشهادات المكتوبة أما الشهادة الشفويَّة فهي غير دقيقة وتحتمل التأويل والتغيير وكذا الأخطاء وقد تكون متنافية للصواب. لكن ماذا عن الأنانيَّة الذاتيَّة أو الجماعيَّة التي قد تكون وراء تلك الشهادة المكتوبة؟ وما هو أصل هذه الشهادة؟ أليست شفويَّة؟ وماذا عن سلطة اللغة إلى جانب سلطة الذات؟
وأنا أحرِّر هذه الفقرة، تذكّرت نقاشا دار بيني وبين دكتور خلال ندوة علميَّة حول معركة بوكافر بتاريخ 28 مارس2015، ساهمت إلى جانبه بموضوع حول هذه الملحمة التاريخيَّة. حيث من بين الإشكاليّات التي تمَّت إثارتها من قبل الدكتور الجامعي والمختصّ في التاريخ هو أولويَّة الشهادة الكتابيَّة عن الشهادة الشفويَّة، وذلك ردا على بعض تدخلاتي بإدراج أشعار وشهادات شفويَّة لنساء ورجال عايشوا هذه المعركة.
إننا إذن أمام منافسة شرسة بين أفراد البشريَّة وجماعاتهم من أجل فرض سلطة تحرّكها الأنانيَّة الفرديَّة أو الجماعيَّة، قصد فرض الوجود وكتابة التاريخ والسطو على كل الأفكار البشريَّة التي كانت شفهيَّة في بدايتها، ليتمّ تدوينها قصد نقلها إلى الأجيال المستقبليَّة… لكن كيف يتمّ توقيف الزمن وكتابة الفكر البشري؟ هذا في استحضار الأنانيَّة السابقة وكذا إشكاليَّة الوجود ومفهوم السلطة؟ وفي غياب الحسّ المشترك للكائن البشري وفي غياب فلسفة التاريخ التي تؤمن بالدرجة الأولى بأن الحقيقة الإنسانيَّة نسبيَّة وقابلة للتأويل وللتطوير لكنها لا تقبل الأنانيَّة مطلقا لأنها تجعل الفرد يحل محل الجماعة وبالتالي نصبح أمام تاريخ فردي لا تاريخ جماعي أو هما معا ولأن الحياة أصلا أسّست وبنيت للجماعة وبالتالي مجابهة سياسة السبق والتهافت نحو تأكيد الذات في غياب الجماعة؟
ولنعد إلى بناء العلم البشري ولماذا هذا العلم؟ أليس فقط كأداة لتقنين المنافسة الشرسة بين الذوات التي تؤمن بضرورة نحت اسمها في سبورة التاريخ أليس من أجل هدف واحد وهو الفوز في السباق والمنافسة والتحدِّي من خلال المارطون البشري؟ ولأنّ الكائن البشري يسعى إلى تحقيق هدفين أساسيين هما الوجود والبقاء في نفس الوقت رغم قوَّة الموت والفناء، فإنّ فلسفته في الحياة جعلته يصارع الزمن من أجل ذلك، فتجده يبدع ويفكِّر في كيفيَّة تحقيق ذلك انطلاقا من استغلال كل الإمكانات المتاحة وغير المتاحة عن طريق البحث والسفر واقعيّا عبر المجال الجغرافي والامتداد والتوسُّع أو فكريّا عبر مخياله أو مخيال غيره؛ فتولد بذلك ما يسمَّى بالاستعمار بنوعيه: الترابي والسياسي ثم الاستعمار الفكري والحضاري والثقافي. فتجد الكائن البشري عبر الأزمنة يسعى إلى استعمار مناطق وأقطار مما ولد حروبا أساسها السيطرة والهيمنة على الآخر، لينتقل كذلك إلى الاستعمار الفكري والثقافي والحضاري وبالتالي ظهور حروب إبادة أفكار وحضارات ومنع ثقافات عن الظهور في سبورة التاريخ، فكم من حضارة إنسانيَّة لها وقع ولها أثر على الحياة البشريَّة لكنها دمّرت بفعل المنافسة والأنانيَّة الإنسانيَّة.
من كل ما سبق وكمحاولة لتعليق منشورا لنا في سبَّورة التاريخ البشري، ربما بفعل أنانيتنا الصغرى والتي انبثقت من أنانيَّة كبرى عنوانها “الحضارة الأمازيغيَّة” نريد إعادة طرح السؤال من جديد: ما هو العلم؟ وماذا عن مصداقيَّة كل ما كتب في التاريخ البشري؟ وكمثال على ذلك سننطلق من علم الاجتماع أو السوسيولوجيا كحقل وكلوحة فكريَّة صمّمت من طرف البشر وعلّقت عبر التاريخ لتوقفه انطلاقا من دراسة الظواهر والنظم الاجتماعيَّة. فإلى أي حدّ صادقة في ذلك؟ وهل لنا الحق في إعادة قراءة أو إعادة تلوين أو رسم أو صباغة هذه اللوحة وإعطائها صورة جديدة بألوان جديدة منطلقين من موضوعيَّة الأنانيَّة الفكريَّة وعقلنة التدوين التاريخي. ثم إلى أي حدّ يمكن الاستغناء أو التغاضي عن هذه الأنانيَّة الإنسانيَّة الضيِّقة ومحاولة استحضار البعد الكوني والإنساني للعلم وللفكر البشري وبالتالي إمكانيَّة نبذ الحدود الضيِّقة الفرديَّة أو الجماعيَّة والمرتبطة بالحدود المصطنعة بشتَّى أنواعها جغرافيَّة كانت أو سياسيَّة أو لغويَّة أو حتى زمنيَّة وفق حقبة معينة؟
ولكي لا نقع في الدوامة نفسها، ونعيد إنتاج نفس الأنانيَّة لا بد من الإشارة إلى أن الأصل في مفهوم العلم بشكل عام وعلم الاجتماع بشكل خاصّ فهو محدّد ماهيته من حيث المنهج والأدوات وكذا الأساليب والمفاهيم التي يقدِّمها للباحث من أجل الاشتغال ضمن مجال معيَّن وبغض النظر عن أنه أمازيغي أو عربي أو فرنسي أو أوربي أو أمريكي بمعنى لفهم ماهيَّة العلوم ودورها بالأساس لا بد من الرجوع إلى بداية تأسيسها وليس إلى ما تريد بعض القوى الاقتصاديَّة والسياسيَّة عبر حقب زمنيَّة معينة ( الاديولوجيّات الفكريَّة بشتى أنواعها سواء في أروبا أو في شبه الجزيرة العربيَّة…) ولهذا فإذا اردنا الحقيقة التاريخيَّة التي انزلقت وخرجت عن سكَّة قطار التاريخ فهي تلك القناعة التي تنظر إلى أي علم كيف ما كان نوعه على أنه قوانين وضوابط ومبادئ ومناهج حدّدت وجمعت ضمن سياق معين، تساعدنا كبشريَّة لفهم حقل من الحقول أو مجال من المجالات الإنسانيَّة أو الطبيعيَّة أو كيف ما كان نوعها. فعبر التاريخ البشري نجد فعلا هناك فلاسفة وعلماء قد نبَّهوا إلى مثل هذا الانزلاق وحاولوا التشبث بماهيَّة العلوم منهم على سبيل الذكر فلاسفة الإغريق واليونان فهم يتحدَثون عن المفاهيم بغض النظر عن الثقافة التي تنتمي إليها فتحدَثوا عن القيم وعن الحريَّة وعن الحب وعن الفرد والجماعة وعن السلطة وعن الدولة وكل المفاهيم بغض النظر عن نوعيتها أو انتمائها، ومنهم كذلك بعض فلاسفة الأنوار وفي القرنين التاسع عشر والعشرين كماكس فيبر وارون وعبد الكبير الخطيب.
ثانيا: بحثا عن السوسيولوجيا الأمازيغيَّة بين الأنانيَّة الفكريَّة وواقع التاريخ البشري.
لقد كان لنا في مقال سابق حول “نحو سوسيولوجيا امازيغيَّة كمقاربة أوليَّة “[2] فرصة لإثارة موضوع تطرّقنا من خلاله إلى اشكاليَّة قابلة للنقاش ومثيرة للجدل الفكري وهي أساسا مرتبطة بمدى صحَّة الحديث عن هذا العلم ومقارنته بما يسمى بالسوسيولوجيا الغربيَّة أو العربيَّة، في الوقت الذي تجد فيه أهم مظاهر وأفكار هذه العلوم القائمة هي أصلا دراسات وأبحاث على المجتمعات الأمازيغيَّة بشمال افريقيا. حيث أنّ أوَّل سؤال يتبادر إلى الذهن والذي طرحناه انطلاقا من هذا المقال(نحو سوسيولجيا أمازيغيَّة) هو بالذات هل يمكننا الحديث عن سوسيولوجيا أمازيغيَّة؟ وماذا يقصد بذلك؟ ولكون هذه الأسئلة بذاتها تطرح وتفرض بدورها الإقرار بوجود سوسيولوجيا خاصة بالأمازيغ وبالتالي بالمجتمع الأمازيغي. وماذا عن كل ما يوجد الآن من دراسات حول المجتمعات الأمازيغيَّة في دول تمازغا (شمال إفريقيا) والتي أنجزت من لدن باحثين سواء من الأمازيغ أنفسهم أو غيرهم؟ ألا يمكن لها أن تكون نواة أولى لبناء سوسيولوجيا أمازيغيَّة قائمة بذاتها؟ وماذا عن كل ما أنتجه الأمازيغ عن حضارتهم وعن المجتمع والإنسان ثم حول الآخر؟ ولماذا يتمّ انتساب كل هذه الأعمال إلى حقول معرفيَّة وفكريَّة غربيَّة أو عربيَّة أو اسلاميَّة أو أوربية في غياب المجتمع الأصلي وخاصَّة أنّنا بصدد الحديث عن العلوم الإنسانيَّة؛ فأين الكائن البشري الذي يشكِّل العيِّنة والنواة؟ في الوقت الذي يتمّ إبراز هويَّة الباحث أكثر من المبحوث؟ أم أن العلاقة تبقى بلغة السلطة فالفاعل دائما أقوى من المفعول؟ وهل كل الحقائق العلميَّة يتم انتسابها إلى مكتشفها والى الباحث فيها وضمنيا إلى حقله المعرفي وانتمائه الإيديولوجي؟ أم هناك فرق بين هذه الحقائق والاكتشافات؟ وماذا عن الفرق بين العلوم الحقَّة والعلوم الإنسانيَّة؟ وهل المقاربات بينهما تقتضي منا الانزياح والسقوط في تلك الأنانيَّة الفكريَّة؟
وأنا بصدد البحث في هذا الموضوع اطّلعت على كتاب شيق ومهم للدكتور عبد السلام بن ميس عنونه بـ ” مظاهر الفكر العقلاني في الثقافة الأمازيغيَّة القديمة “[3] وهو مرجع جدير بالقراءة وبالدراسة لأنه يجيب عن تساؤلات عدَّة طرحتها حول تلك الأنانيَّة التي شابت حقائق التاريخ البشري. وسوف أشير هنا كدليل لبعض الأسباب التي ذكرها الدكتور في مقدّمة كتابه حيث أشار إلى ذلك الحيف الذي لحق تاريخ الأفكار بأفريقيا بشكل عام وبشمالها بشكل خاصّ، سواء تعلَّق الأمر بالأفكار العلميَّة أو غير العلميَّة، وحاول تقديم بعض مظاهر هذا الحيف والتي سوف أعيد نشرها هنا لأنها تصبّ في الإشكاليَّة نفسها التي انطلقت منها، هذه الأفكار المسبقة والخاطئة لأغلب المؤرّخين(صنّفها هو كحيف وأنا أسميتها الأنانيَّة) :
- الفكر المغاربي القديم عملي أكثر من كونه نظريّا، فهو يهتمّ، على سبيل المثال بطرق زراعة الحقول وكيفيَّة تخمير العنب وتربية الحيوانات وكيفيَّة توزيع مياه السقي العمومي، وما يشبه ذلك، في الوقت الذي توجد هناك أعمال مغاربيَّة قديمة غارقة في التجريد في ميادين مثل الرياضيات والمنطق الصوري.
- الفكر المغاربي فكر شفوي. وهذا أيضا غير صحيح لأن المغاربيّين كتبوا في لغات غير لغتهم الأم. هذا دليل على كونهم عبروا عن أفكارهم كتابة. فمنهم من كتب باليونانيَّة ومنهم من كتب باللاتينيَّة ومنهم من كتب بالعربيَّة ومنهم من كتب بالفرنسيَّة وغيرها. ومن هنا جاء خطأ آخر يتمثَّل في تجريد المغاربيِّين من أعمالهم وإلحاقهم بالشعوب التي كتبوا في لغاتها. وهكذا، فالقدّيس أوغيسطينوس(Augustinus)، مثلا يعتبر كاتبا لاتينيا، وايراطوستينيس(Eratosthenes) يعتبر كاتبا يونانيّا، وابن رشد وابن خلدون والجابري يعتبرون كتابا عربا.
- يعتقد أغلب مؤرِّخي الأفكار العرب بأنّ شمال أفريقيا كان منطقة جرداء قبل غزو العرب والمسلمين لها، فلم يكن، في نظرهم، عند الأمازيغ قبل مجيء الإسلام أي شكل من أشكال الإنتاج الأدبي أو العلمي أو الفني. وهذا طبعا خطأ، أو على الاصح تكتيك اديولوجي يهدف إلى محو هويَّة السكّان المحليّين والتنقيص من قدرتهم العقليَّة على الإنتاج الفكري مع الإعلاء من شأن العرب الوافدين.
ويضيف الكاتب إلى أن الذي يريد التنبيه اليه هو أن كثرة من الأفكار العلميَّة التي كانت في الأصل من إنتاج مغاربي تمّ اختلاسها ونسبتها إلى شعوب غير مغاربيَّة، وللتدليل على ذلك قدَّم أمثلة منها:
- في العصور الوسطى أخذ الأوربيّون عن المغاربيّين ما يسمَّى اليوم بالأرقام العربيَّة (1،2،3…)، التي هي في الواقع ليست عربيَّة، بل مغاربيَّة، ظهرت لأوَّل مرة بشمال افريقيا، ولم يسبق للمشارقة أن تداولوها حتى الآن.
- أخذ أيضا الأوربيّون عن المغاربيِّين فكرة ” العلمانيَّة” التي دشَّنها وطورها ابن رشد قبل انتقالها إلى دوائر الرشديين المسيحيين القروسطويين ثم إلى عصر الأنوار.
- أخذ أيضا الغربيُّون عن المغاربيّين مجموعة من الأفكار ومن أهمَّها: فكرة وحدة العقل البشري التي طوّرها ابن رشد وتبنّاها ديكارت وفكرة الحتمانيَّة الكونيَّة التي تبنّاها سبينوزا وفكرة الطبيعانيَّة وغيرها. والغريب أنَّ كثيرا من المغاربة اليوم يعتبرون هذه الأفكار دخيلة على أنظمتهم الثقافيَّة. وفي هذا جهل بحقائق التاريخ واحتقار للذات.
كما انبهرت بفقرة ختم بها الدكتور بن ميس[4] كتابه هذا في ص 244 عندما قال: ” ولكن، مع الأسف الشديد، ضاع أغلب ما كتبه المغاربة القدامى، إما بفعل أعمال التخريب التي صاحبت فترة الاضطرابات مع نهاية الفترة القديمة بشمال إفريقيا، خاصَّة خلال القرنين السادس والسابع الميلاديين. ولم يصلنا ممَّا خلَّفه أسلافنا إلا ما احتوته كتب أعدائهم عنهم أو فضلات من كتبهم الأصل، لهذا نحن في حاجة إلى مجهودات إضافيَّة لنفض الغبار على ماضينا واسترجاع ممتلكاتنا الثقافيَّة وإعادة الاعتبار لأبرز ما ميَّزها.”
وفعلا لا بدّ من مساءلة التاريخ وإعادة الزمن إلى الوراء والنبش في الذاكرة الإنسانيَّة سواء بقوَّة الأنانيَّة أو بقوَّة الواقعيَّة والنزعة الهوياتيَّة، قصد الكشف عن الحقيقة لمواصلة الرحلة الحضاريَّة والثقافيَّة عبر مختلف الميادين بما فيها السوسيولوجيا، لكونها أهم علم يمكن به وعبر أدواته فهم المجتمعات وقياس مدى أحقيَّة أو بطلان كل الأفكار التي نستهلكها اليوم ونعيد إنتاجها دون قصد أو عن جهل واستغلال. ولهذا فإشكالية الأنانيَّة الفكريَّة والواقع التاريخي لمختلف الظواهر البشريَّة بشمال افريقيا ستبقى هي البوصلة الأساسيَّة التي ستوجّهنا إلى حقيقة تنطلق من الذات أوّلا ومن الأرض ثانيا وعبر الممارسة والسلوكات والتصرّفات التي ينتجها الإنسان الأمازيغي. كل هذا يجب وضعه موضع تساؤل وتحقيق ومقارنة مع ما نستقبله من أفكار ومعتقدات ونظريَّات ومعلومات.
ولندافع ولو مرَّة واحدة عن حقيقة تاريخيَّة وبشكل موضوعي، فالإنسان الأمازيغي له وجود وله حضارة قديمة جدا كما تؤكِّد بذلك مختلف الدراسات والأبحاث الأنثربولوجيَّة والآركيولوجيَّة، وبالتالي بديهي أن تكون حياته الاجتماعيَّة ذات خصوصيّات وثقافته وكذا أنماط عيشه وفكره واستغلاله للمجال الجغرافي الذي يتواجد فيه ثم تفاعله مع مختلف الجماعات التي تتوافد على شمال افريقيا كموطن جغرافي للأمازيغ. بحيث يشير التاريخ إلى أنَّ سكّان شمال إفريقيا القديم قد سيطروا على واحات النيل وذلك حوالي 3300 ق م. بل كانت هناك مملكة ليبيَّة التي انحدرت من شيشونغ (القرن العاشر ق م). كما عرف أيضا شمال إفريقيا أثر الشعب الفينيقي ابتداء من القرن 12 ق م ووصل هذا الأثر أوجه مع تأسيس قرطاج سنة 814 ق م واستمرَّ لمدة ألف عام تقريبا. كما سيطر اليونان على بعض مناطق شمال افريقيا وخاصَّة منطقة قورينا (ليبيا الحاليَّة) على الأقل منذ 631 ق م، واختلط اليونان بالسكّان المحليِّين بتبادل النساء والرجال والديانات والعادات والتقاليد واللغة والثقافة، كما تأثَّر المغاربيّون أيضا بالرومان وبالوندال والبيزنطيين وبالعرب وأخيرا بالأوربيّين المحدثين. وإلى جانب هذه التأثيرات الخارجيَّة، خضع أيضا شمال افريقيا لتأثيرات مؤسّسات سياسيَّة وسوسيوثقافيَّة محليَّة تمثَّلت في الأنظمة الملكيَّة التي أسَّسها زعماء أمازيغيّون أمثال ماسينيسا وسوفاكس ويوبا وغيرهم.[5]
وأمام هذا الوضع الحضاري والثقافي والاجتماعي الذي عاشه سكَّان شمال إفريقيا الأمازيغ وعبر التاريخ، أليس من حقّنا أن نتساءل عن مصيرهم ودورهم في بناء وتأسيس العلوم البشريَّة بما فيها علم الاجتماع؟
على سبيل الختم:
وهكذا، نكون قد علقنا منشورنا الثاني عبر سبورة التاريخ السوسيولوجي للبشريَّة بعد المنشور الأوَّل الذي تحدَّثنا عنه. ليس بالدرجة الأولى لتغذيَّة تلك الأنانيَّة الفرديَّة التي تحرّكنا لكن بالدرجة الكبرى من أجل خلق شكّ معرفي وإثارة إشكاليَّة أساسيَّة مرتبطة بماهيَّة العلوم البشريَّة بشكل عام وبماهيَّة علم الاجتماع بشكل خاص. معتمدين على لوحة فنيَّة قديمة رسمها الإنسان الأمازيغي بمختلف ألوانه الحضاريَّة والثقافيَّة والفنيَّة، لكنها اختفت وتراكمت عليها أوساخ وغبار التاريخ ممَّا جعلها غير واضحة أو أنّها أتلفت ضمن تراكمات العلوم عبر الأزمنة، أجد نفسي بأنّني قد أغامر في طرح هذه الإشكاليَّة الفكريَّة والعلميَّة رغم بساطة تكويني الأكاديمي، لكن من حقّي أن أغامر وأضع هذا الموضوع موضع تساؤل ومصدر إزعاج لعلّه يكون بداية لنزعة فكريَّة إنسانيَّة جديدة تخدم هذا الفضول العلمي الجديد من أجل وضع الأسس الصحيحة للعلوم الإنسانيَّة والعلوم الحقّة مع إنصاف كل الحضارات البشريَّة بغضّ النظر عن قوّتها أو ضعفها.
[1] جائحة ما يسمى بفيروس كرونا اليوم قد أظهرت مدى تزييف الاخبار والحقائق وكشف عن اكاذيب تسوق كحقائق من طرف الدول العظمى عن نفسها وعن الدول المتخلفة وكذا قوة البحث العلمي فيما يسمى بالحرب البيولوجية…
[2] المقال منشور بمجلة التنويري العدد المزدوج 5 و6 نونبر 2018
[3] د. عبد السلام بن ميس، ” مظاهر الفكر العقلاني في الثقافة الامازيغية القديمة” ( دراسة في تاريخ العلوم الصورية وتطبيقاتها) الطبعة الاولى 2005 منشورات ايدكل (( EDITIONS IDGL
[4] عبد السلام بن ميس دكتور دولة من جامعة السوربون بباريس منذ 1990، يشتغل استاذا باحثا بجامعة محمد الخامس اكدال منذ 1982 كما اشتغل استاذا زائرا بجامعة بوردو وبجامعات امريكية مختلفة.
[5] الدكتور عبد السلام بن ميس المرجع السابق ص 15 و16.