القراءة فعل تأويلي خلاّق، لا نقصد به القراءة العاديَّة المشهورة، التي تقوم على قراءة سطور النص والمرور عليها بسرعة، هذه قراءة منفعلة بتعبير ألتوسير، لا تسهم في خلق دلالات متعدِّدة ومتباينة من النص، إنها قراءة ميِّتة غير منتجة بتعبير بارت. إنَّ القراءة لا تقوم على مخاطبة الانفعالات فقط، بل تتعدَّى ذلك إلى إنتاج أدب ونصوص متفرِّعة عن النصّ الأصلي، وتسمَّى بالقراءة الفعّالة، وهي التي سنركِّز عليها في هذه الورقة، الموسومة بـ “القراءة لعب تأويلي خلاق”، ونتساءل فنقول: أين يظهر اللعب التأويلي الخلّاق في القراءة؟
قبل الإجابة عن السؤال نودّ الإشارة إلى بعض الكتب التي انساقت مع هذا النوع من القراءة، وجدنا كتاب “مرايا القراءة لخالد بلقاسم” و”هكذا أقرأ لعلي حرب”، و”القراءة رافعة رأسها لعبد السلام بنعبد العالي”، ومن الذين مارسوا هذا الفعل القرائي في قراءتهم للأدب، ابن عربي، وعبد الفتاح كيليطو، ورولان بارت، ولويس خورخي بورخيس، هم القلة القليلة الذين وَجَدتْ فيهم القراءة سرّا من أسرارها. يقول خالد بلقاسم في “مرايا القراءة”: “القلَّة الهائلة الذين فيهم عثرت القراءة على بعض تجلّياتها، باعتبارهم روافد نهرها الكبير”، ص6.
والقراءة بهذا فعلٌ يقتضي من القارئ أن يكون حَذِرا، وأن يمتلك خلفيَّة معرفيَّة ينفذ بها إلى بطون النصوص، ليجعلها تتحاور مع نصوص أخرى، يكون فيها اللعب القرائي فعلا خلاّقا ومنتجا لأدب جديد، لكون أن “الفعل القرائي هو فعل ينبثق من التنبه إلى شذرة منسيَّة في كتاب، أو عبارة مهملة في حكاية، أو تشبيه عابر في دراية نقديَّة، أو اسم علم في نصٍّ أدبي…”، مرايا القراءة، ص71.
إجابة عن السؤال نقول: إنَّ اللعب القرائي أو التأويلي الخلّاق يظهر في القراءة الفعّالة، باعتبارها فعلا منتجا وكاشفا لكل ما خبا في النصوص، قراءة تتجوَّل في التفاصيل الجزئيَّة للنص، لتستطلع الجوانب الكليَّة له، وهي القادرة على جعل النصّ ينتسب إلى اللانهائي، والنص لا يقدِّم نفسه للقارئ تاركا له حريَّة فهم كل الأشياء، إنما يحجب نفسه مقدّما أشياء تؤثِّر في القارئ لحظة ثم يتناسى ذلك، لأنه ليس قارئا حذرا، ولم يعتمد على القراءة البطيئة التي يعتمدها نيتشه، ولذلك فكلما كان سريعا في القراءة كلما أضاع فُهُومًا متعدِّدة، وأضاعت ذاكرته كل ما فهمه، أما اعتماده البطءَ في القراءة، فيجعله يحصّل مداليل ودلالات متعدِّدة في الفضاء النصِّي، وعليه نستعير عبارة ميلان كونديرا في روايته البُطء، فنقول إنَّ التجربة القرائيَّة السريعة في الرياضيات الوجوديَّة، تقترب من حدَّة النسيان وضياع المدلولات، وأمَّا التجربة القرائيَّة البطيئة فتقترب من حدَّة الذاكرة المخوّلة لاكتشاف ما لا حصر له من المعاني الثاوية في النصّ المقروء.
إذًا، فالقراءة الفعّالة هي التي تبرز بأن القراءة لعب تأويلي خلاّق، ونستحضر في هذا نصَّ عبد السلام بنعبد العالي، في كتابه “القراءة رافعة رأسها”، معرِّفا القراءة الفعَّالة، فهي: “قراءة مشكّكة تتَّهم المباشر وترفض البداهات، وهي تسعى أن تكشف في بياض النصّ المسودة التي تختفي من ورائه، تحاول أن تنعش مسودّة النص، تحاول أن تنتج العمليَّة الفعليَّة للكتابة، تلك العمليَّة التي ليست عمليَّة إظهار وتملّك للمعنى الوحيد والحقيقة المطلقة، وإنما، كما قال نيتشه، عمليَّة توليد الاستعارات”، ص7.
فحوى النصّ أن القراءة مرادفة للإنتاج، ومتقاربة مع فعل الكتابة، معناه أن اللعب القرائي، يسهم في خلق معانٍ متجدِّدة، وخلق نص آخر من النصّ المقروء أو المؤول، وما إن تنافت القراءة مع هذا الأمر، فهي لا تسمَّى قراءة فعّالة، بل قراءة منفعلة ميِّتة، تقضي على النصّ وتلقيه في ذاكرة النسيان، لذلك، فالقراءة إقامة في النصّ والسهر معه، إقامة ليليَّة تتولَّد منها مداليل متشعّبة، هي لعب قرائي خلّاق يرتبط بدمغة القارئ بتعبير بلقاسم، الذي عثرت فيه القراءة على بعض أسرارها، وعليه إنَّ النصوص كما قال خالد بلقاسم تحتاج “إلى قراءات مذهلة كي تحيا … في سخاء الاحتمال الذي تتيحه لها هذه القراءات، خصوصا القراءات التي تتحقّق بوصفها ممارسة أدبيَّة”، ص9.
ويلعب القارئ دورا رئيسا وفعّالا في عمليَّة القراءة الفعّالة، بحيث ينبغي أن يكون قارئا عميقا، وذا خلفيَّة معرفيَّة متعدِّدة، لأن النصّ المقروء لا يقدِّم نفسه بريئا للقارئ، بل يحجب نفسه ويضمر عنه معارف وثقافات ينبغي أن ينفذ إليها، وقد يفلح أو يفشل في إظهارها، لكون أنَّ المسألة مرتبطة بطبيعة اللعب القرائي للقارئ، فَلَعِبهُ يقتضي مرحا ومتعة وعمقا، يسعى لإخراج المجهول في النص، وإدراك الغائب، وإيجاد أسرار لا متناهية، إنَّ الذين يقرأون قراءة ميّتة يقتلون النص ويعلنون موت المؤلف، والذين يقرأون قراءة فعّالة فيها لعب قرائي خلاق، يولّدون ويحصِّلون المعاني الباطنة ويفتحون النصّ على اللانهائي، ومن ثمة، جَعْلُ المؤلف حيا، ويكتسب القارئ صفة القارئ العميق الذي كشفت وعثرت فيه القراءة على بعض أسرارها.
وتكون القراءة بهذا الأساس، اللّعب القرائي المنتج والمولّد لأسرار حجبها النص ولم يظهرها، لأن النص، كما يقول بارت: “وليد كتابات متعدِّدة تنحدر من عدَّة ثقافات فتدخل في حوار وتقلِّد بعضها وتدخل معه في جدال، لكن هناك موقعا يتجمَّع عنده هذا التعدُّد، هذا الموقع ليس هو المؤلّف، كما قيل حتى الآن، وإنما هو القارئ”ص6.
النص مأخوذ من كتاب “القراءة رافعة رأسها” لعبد السلام بنعبد العالي، ومعناه أنَّ القارئ هو الكفيل بالبحث عن مضمرات النص ومجاهيله، ومبثوثاته الغريبة، باحثا عن الثقافات والمعارف التي ينطق بها النصّ المقروء، ويتسلَّل إليها القارئ بِلَعِبه التأويلي الخلّاق، يقول خالد بلقاسم: “اللعب القرائي محكوم لا بالخلفيَّة وحسب، بل بطريقة العبور بها إلى النصّ المقروء ومحاورته في ضوئها”ص173.
فحوى النص ومسكوته، أنَّ القارئ العميق لا ينبغي أن يمتاز بخلفيَّة معرفيَّة متشعِّبة فحسب، بل يحتاج أيضا إلى طريقة توظيف هذه الخلفيَّة في النفاذ إلى عمق النصوص، وهنا يأتي دور اللعب القرائي، باعتباره سرّا من أسرار القراءة، فإنَّ اللعب القرائي مثلا في منجز كيليطو التأويلي يقوم على الحكي، ونؤكِّد هذا بقول بلقاسم: “كيليطو يقرأ بالسرد، أي بالإمتاع الحكائي، ويسرد بآليَّات قرائيَّة”ص71.
إنَّ لعبة القراءة تفتح النصوص المقروءة على اللانهائي، وتجعلها تتحاور مع موضوعات أخرى، ويستند كيليطو مثلا إلى الحكي لتأويل قضيَّة فكريَّة من داخل لعبة الحكي، اعتقادا منه أنه يسهم في إقناع القارئ، إذن، “فإنَّ اللجوء إلى الحكي نابع من اعتقاد كيليطو أنَّ الآراء تصبح مقنعة وقاطعة بفضل الحكي، أي متى تمكَّن صاحبها من أن يهبها شكلا سرديّا”ص43.
والتأويل هو المحرِّك لعمليَّة اللعب القرائي الخلّاق، باعتباره مسعفا على توليد الدلالات في النص، ومتى انعدم التأويل انعدمت معه العمليَّة القرائيَّة الفعّالة، ونؤكِّد هذا بنصّ لخالد بلقاسم من “مرايا القراءة” قائلا: إنَّ “التأويل بما هو أساس القراءة، لا يتمّ بإنتاج المعنى وحسب، ولكن أساسا بإنتاج الأدب، أي إنتاج التأويل المُولّد للأدب ومتعته، سيرورة التأويل محكومة بآليَّات إنتاج الأدب. القراءة، بهذا المعنى، مسؤوليَّة مضاعفة، لأنَّها موجَّهَة لا إلى صوغ تأويل عميق وحسب، بل إلى جعل هذا التأويل أدبا في آن”ص119.
معناه أنَّ التأويل عنصر رئيس في العمليَّة القرائيَّة، فهو غير مختصّ بإنتاج المعنى وحسب، بل إنّه يسهم أيضا في إنتاج أدب جديد، وهنا تظهر شدَّة القراءة وتعقيدها، فمن خلال اللعب القرائي الخلّاق تتولَّد نصوص أخرى بفعل الخلفيَّة المعرفيَّة للمؤول، وبطبيعة اللعب القرائي للقارئ والمؤول.
إنّنا في التأويل نكون أمام احتمالات وتأويلات لا حصر لها، وعليه فالفعل القرائي يتحقَّق متى كان مرتبطا بالتأويل لأخذ مسؤوليَّة الحفر والبحث عن المعاني، والأجدر توليد أدب جديد، فبالتأويل كما قال علي حرب في كتابه “التأويل والحقيقة: “يسير المؤول بعدا مجهولا في النص، ويكشف دلالات ما اكتشفت من قبل، ويقرأ في الأصل ما لم يقرأه سلفه، فيعقل ما لم يعقل ويولد المعنى من حيث يُظن اللامعنى، ويستنبط المجهول من المعلوم(…)، ليس التأويل العلم بما هو معلوم سلفا ومسبقا، بل هو العلم بما لم يعلمه الإنسان(…)، وعلى هذا النحو ينبغي قراءة الأصول ومساءلتها”، ص14.
ونختم ورقتنا بعد الإجابة عن مظهر اللعب التأويلي الخلّاق في القراءة، وتحديدنا الأمر في أنه متجلٍّ في القراءة الفعَّالة، التي تقوم على لعب قرائي يرتبط أساسا بدمغة القارئ العميق، الذي ينفذ إلى بطون النصوص ومبثوثتاها، والذي وجَدتْ فيه القراءة بعضَ أسرارها، ومن ثمة نقول ما قاله علي حرب في كتابه: “هكذا أقرأ”: “فالقراءة المنتجة والفعّالة، ترى الواقع على خلاف ما هو عليه، لتقرأ فيه ما هو تحته أو فوقه أو خلفه أو أمامه”، ص34.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.