إذا كانت وسائل الاِّتصال تشهد تطوّرا راديكاليّا، فإنَّها قادت المجتمعات والعالم إلى طفرة من التفاعل الاجتماعي. وإذا كان الإنسان “حيوان اجتماعي بطبعه” كما قال أرسطو ولا يعيش بشكل منفرد معزولا عن غيره، الأمر الذي جعله لا يقبل ببساطة حقيقة نفسه بل يخضع لسارورة من التربية والتنشئة والتعلُّم بهدف تحقيق التفاهم الاجتماعي كما يقول جون ديوي. وإذا كانت التربية هي عمليَّة قصديَّة يتمّ عن طريقها توجيه الفرد نحو اكتساب خبرات ومجموعة من الكفايات التي تمكّنه من الاندماج الاجتماعي والتعامل مع واقعه اليومي المحلِّي والعالمي، فان هذه العمليَّة اليوم تتمّ في اتِّصال الفرد بوسائل الاتِّصال الحديثة، التي أدَّت إلى تغيير في معنى المربي ومكان وزمان التربية وتثوير للطرق التقليديَّة، كما أنها وسائل باتت تلعب دورا رياديّا في التنشئة الاجتماعيَّة التي تضمن تماسك المجتمع وأمنه، وبالمقابل قد تكون عاملا في فشله وتهديد تماسكه.
هكذا، بينت الظرفيَّة التي يعيشها الإنسان اليوم. وهي وضعيَّة العودة إلى الكهف، والاختباء داخل الجدران في انتظار من يحرِّرنا مجددا من سطوة فيروس كورونا وهجومه القاتل. بعدما رفع الإنسان شعارا عالميّا “التعليم عن بعد”، وسيلته في ذلك مختلف وسائل التواصل الاجتماعيَّة التي تسمح بصنع مدارس وأقسام افتراضيَّة. وهو شعار يؤكِّد على أهمّيَّة التربية والتعليم، على اعتبار أنَّ العلم واستخدام العقل هو وسيلة الإنسان التاريخيَّة للتحرُّر والانتماء وضمان استمراريته على هذا الكون. خصوصا وأن هذا الأخير كان كل مرَّة يحاول أن يلفظ ويتقيَّأ الإنسان، وقد لخَّص الفيلسوف الألماني هيجل هذا الأمر عندما اعتبر أنَّ تقدُّم الإنسان في المعرفة، هو الذي يوجِّهه في صراعه مع الطبيعة. بحيث يقول هربرت ماركيوز على لسان هيغل “والحقّ أنّه ما لم ينجح الإنسان في إعادة توحيد الأجزاء المنفصلة لعالمه، وفي إدخال الطبيعة والمجتمع في حظيرة العقل، لظلَّ إلى الأبد مكتوبا عليه الإخفاق والإحباط.”[1]
هكذا، أصرَّت الدول على ضرورة مواصلة التعلُّم. وعدم التفريط ولو في اللحظات الصعبة في هذه المسألة، متوسِّلة بما صنعه الإنسان من آليَّات وأدوات معلوماتيَّة. لكن أغلب الدول ورغم توظيفها للتكنولوجيّات الحديثة في مختلف المجالات من بنوك واتِّصالات، إلا أنَّها ظلَّت متوجِّسة من استثمارها في مجال التربية والتعليم. لقد ظلَّت أغلب الدول خصوصا مجتمعاتنا العربيَّة الإسلاميَّة تنظر للآلة على أنَّها العفريت، الذي يلهي الأطفال ويصرفهم عن التربية والتحصيل العلمي، وبالأحرى يفسد أخلاقهم. خصوصا مع وسائل الاتِّصال التي جعلت العالم قرية والكل متاح بنقرة واحدة. لكن السؤال الذي صار يطرح ذاته ونحن في هذه الوضعيَّة هو: هل النظام التعليمي ببلداننا مؤهَّل فعلا، وراكم عبر تاريخه وعيا وكفايات تسمح للأطر والمتعلِّمين من إدارة المرحلة، والانتقال من المدرسة الواقعيَّة إلى الأقسام والمدارس الافتراضيَّة؟ كيف غيَّرت وسائل الاتِّصال منظومتنا التعليميَّة وبالتالي فرض جيل جديد من المدرِّسين والمتعلِّمين، أو بالأحرى كيف أنقذت المعلوميَّات التربية والتعليم؟
ظلَّت المعلوميات ببلداننا دائما موضع إقبال واندهاش ايجابي، لما تحقِّقه لنا من أشياء وتجعلها في متناول اليد. لكنّها في نفس الوقت كانت دائما محطّ خوف ونقد لما تحقّقه من ذعر للآباء ومختلف السلط التقليديَّة، لأنَّها تربِّي وتعلِّم الأجيال أشياء جديدة فقط لكونها آلات، دون أن ندخل في مجال ما تتيحه من معلومات. لكن اليوم وأمام الشعار الذي رفعته أغلب دول العالم وهو “التعليم عن بعد”، بعدما انتقلنا من فعل الأمر القطعي “اترك الهاتف واذهب للدراسة، إلى احمل الهاتف للدارسة”. وقفنا بحسرة أمام سوء النيَّة الذي كان الإنسان يكيلها لوسائل الاتِّصال الجديدة، مثلما استفقنا متأخِّرين على القصور والجهل أو بالأحرى الأمّيَّة التي نعانيها، وكيف أنَّنا فوّتنا علينا فرصة إدماج وسائل الاتِّصال والمعلوميَّات بشكلٍ فعلي في حياتنا. لا فقط إدماجها في المذكّرات والتقارير الدوليَّة لتلميع التعليم بالوطن، أمام الدول التي كانت فعلا قطعت أشواطا في ذلك. لقد استفقنا على مدارس في شكل جذران بدون روح معاصرة، لا حواسب لا لوحات إلكترونيَّة لا سبورات ذكيَّة …، هذا في الوقت الذي تعتبر فيه التقنيات الحديثة الصديق الحميمي للمتعلِّم. هذا الجيل الجديد أو بتعبير مشيل سار في عنونة أحد كتبه “جيل الإصبع الصغيرة” الذي كانت السلط التقليديَّة تعتبره جيلا فاشلا وتكيل له كل أنواع الاستخفاف والسخرية لكونه “جيل الفيسبوك” و”الواتساب”… دون أن ننتبه إلى أنه كان على الطريق الصحيح ربما ويعيش شروط عصره، والأمر يتطلَّب الانتقال بهذا الجيل ومعه المرحلة المعاصرة التي نعيشها بصفة عامَّة من: التعامل العفوي – المؤسَّس على الخوف تجاه وسائل الاتِّصال، إلى تربية معلوماتيَّة تمكينيَّة تبدأ بإعادة النظر في مضامين التربية والتعليم ووسائله وبدياغوجياته.
لقد بات من المفروض دراسة هذا التفاعل بين وسائل الاتِّصال الحديثة والتربية والتعليم، لفهم مختلف المؤثِّرات التي يخضع لها الفرد والمجتمع وتحديد وعيه وتوجيه سلوكاته وتحديد رغباته. بحيث إذا كان الواقع يثبت الدور الطلائعي لوسائل التواصل، فإنَّ المدرسة في البلدان العربيَّة وقطاع التربية بشكل عام مطالبة بمواكبة ثورة وسائل الاتِّصال والطفرة المعلوماتيَّة. وذلك بتمكين الناشئة من آليَّات للتعامل مع هذه الوسائل الجديدة وما تقدِّمه من أفكار ومضامين، بشكل يضمن تقدُّما متوازنا لهويّتها وتماسكها واندماجها الاجتماعي. خصوصا وأنَّ وسائل التواصل اليوم تنحو إلى أن تصير أكثر حميميَّة والتصاقا بكل فرد، في ظل العوالم الافتراضيَّة التي بات يعيشها الفرد في غرفته الخاصَّة، بعيدا عن سلطة المؤسَّسات الرسميَّة للتنشئة الاجتماعيَّة. وكما يقول عالم التربية الفرنسي سيلستين فريني فإنَّه سواء أردنا ذلك أو لا، فإن الآلة تقتحم بشكل يومي العالم الذي يعيش فيه أطفالنا. وبالتالي فمن الطبيعي أن تتأقلم المدرسة مع هذا العالم، وأن تدمج بشكل مستمرّ الآلة في الأنظمة التعليميَّة.[2]
لقد بات من اللازم نهج سياسات تعليميَّة وتربويَّة جديدة، تقوم على تمكين الناشئة، وحثّها على ضرورة الانتقال من التعامل البريء، والعفوي مع وسائل الاتِّصال إلى تبنِّي تعامل يقظ وحذر، تتسلَّح عبره الناشئة بعقليَّة نقديَّة وفاحصة بخصوص ما نتغذَّى أولا. خصوصا وأنَّ الآلات التكنولوجيَّة الحديثة ليست مجرَّد صفائح وعلب محايدة، إنَّها تتكلَّم قيم ومبادئ بالصوت والصورة، مع كثير من الإثارة والإغراء والحرب على نسب المشاهدة والإقناع. إنَّها اليوم رقم صعب في معادلة صناعة الرأي وتوجيه الأفراد، وبالتالي تربية الناشئة وتنمية مكتسباتهم بما يخدم مصالح فئة معيَّنة. ونظرا للواقع الاجتماعي التي تعيشه معظم المجتمعات العربيَّة والذي يجعل الأسرة غارقة في وحل متطلَّبات العيش والتفكير في الخبز، وتنصرف عن الاهتمام والعناية بالناشئة ومراقبة تصرّفاتها وما تتغذَّى عليه إعلاميّا خصوصا بعد التسليح الشامل لكافة الأطفال بوسائل الاتِّصال الحديثة وتجهيز بعض المنازل بآخر صيحات تكنولوجيا الاتِّصال. إلى درجة أنَّ وسائل الاتِّصال الحديثة باتت فاعلا أساسيّا في التربية، وباتت آليَّاته ووسائله ومضمون ما يتقدم عبرها يحاكم مؤسَّسات التنشئة التقليديَّة وجعلها في موقف حرج نظرا لطرقها ومناهجها، خصوصا وأنّها لم تعد المصدر الوحيد للمعرفة والقيم والمبادئ. مثلما أن الأمر يقتضي ثانيا، وضع هذه العلاقة الحميميَّة المعروفة عندنا بين وسائل الاتّصال والتربية أمام الاختبار لتحديد ورسم الحدود الشرعيَّة والمسموح بها في هذه العلاقة، وصولا عند نقطة تتعلَّق بوضع الأسس والمخرجات الممكنة التي ستمكِّننا مستقبلا من الحديث عن تربية معلوماتيَّة، بدل منطق الرفض الجذري والدفاعي الذي نجده عند البعض في التعامل مع هذه الوسائل الجديدة.
لقد فرضت التكنولوجيا جدارتها، والسؤال بات متعلِّقا بالكفايات والبداغوجيّات التي يجب أن يتسلَّح بها الجسم التربوي بمختلف أطرافه، لخلق تكنولوجيا تربويَّة بناء على تربية تكنولوجيَّة أولا. إذ الواقع يزوّدنا بمجموعة من المعطيات التي تفيد أنَّ وسائل الإعلام الحديثة باتت تشكِّل عالما آخر جديدا بالنسبة للأطفال، وبنقرة يهاجر الطفل إلى عوالم متعدِّدة من الصور، والأفلام، والمقالات، والأشرطة التي قد يكون فيها خطر على أفكاره، ومعتقداته، وصحّته البدنيَّة والعقليَّة …الأمر الذي يجعنا أمام ضرورة ملحَّة عنوانها التربية الإعلاميَّة. هذه الأخيرة لا تمثِّل آليَّة دفاع أو رفض لوسائل الاتِّصال الحديثة وإنما هي آليَّة تمكين. تجعل الفرد يستوعب معطيات عالمه المعاصر ويتعامل بوعي وبفكر نقدِّي مع معطيات العوالم الجديدة، إنها ببساطة مهارة التعامل مع هذه الوسائل بعدما أثبتت جدارتها واستحالة التخلُّص منها. هذا الأمر كما يقول الفيلسوف ميشال سار خلق فجوة كبيرة بين جيل الأمس وجيل الإصبع الصغيرة، والذي هو نقيض الإصبع الغليظة التي علاقتها بالآلات الذكيَّة مضطربة. و”من هذه الفجوة، وجد أناس شباب ادَّعينا أنَّنا نوفِّر لهم التعليم، ضمن أطر يرجع تاريخها إلى زمن لم تعد تتعرَّف إليه: فالمباني وساحات الفسحة، والفصول الدراسيَّة، والمقاعد، والطاولات، والمدرّجات، …ويمكن أن أقول أيضا حتى المعارف والأطر التي تنتمي إلى تاريخ معين، والتي صمّمت للتكيُّف مع عصر كان فيه الرجال والعالم على ما كانوا عليه، ولم يعودوا مثلما كانوا.”[3] لقد رأى ميشال سار هذا التغيُّر الذي أحدثته وسائل التواصل والآلة على الإنسان، لينخرط في مشروع يدعو إلى ضرورة عصرنة المدرسة والمناهج والطرق البيداغوجيَّة.
إنَّنا لم نعد في حاجة إلى المدرِّس التقليدي الذي يعدّ المتعلِّم وعاء فارغا وجب ملؤه، مثلما أنَّ المتعلِّم بات يرفض أن يجلس في الكرسي مستمعا ومستسلما بعدما كان في المنزل أمام حاسوبه هو القائد الذي يبحر أينما شاء. مثلما أنَّ المعرفة لم تعد مشكلة، لقد باتت معمَّمة. بحيث “رأس الإصبع الصغيرة المقطوعة تختلف عن الرؤوس القديمة، المصنوعة جيّدا والمملوءة جيدا. ولأنَّها لم تعد لها أن تشتغل بقوَّة أكثر، لكي تتعلَّم المعرفة، ذلك لأن المعرفة أصبحت مطروحة أمامها، مجسَّدة، مجموعة…وقد تمَّت مراجعتها ومراقبتها عشر مرات.”[4] أمام هذا الوضع الجديد الذي صارت فيه رؤوسنا أمامنا، في هذا الصندوق المعرفي المجسَّد كما يقول ميشال سار. وجب التفكير في مدرسة جديدة…خصوصا وأن ما نحن عليه اليوم لم يعد يلائم الجيل الجديد، ولا يجب أن نستمر في الادعاء أننا نقدِم لهم تربية وتعليما. لأننا لا يمكن أن ندرس إذا لم نعرف ما يجب تدريسه، وكيف يجب تدريسه، ولمن يجب تدريسه.
لكن الجواب على القول الأخير يتغيَّر من مرحلة لأخرى، فلا وجود لمضامين تعليميَّة خالدة، ولا لمناهج وبيداغوجيّات تعلو على التاريخ، مثلما أن لكل عصر جيله وعقليّته. بحيث يقول ميشال سار “قد خلق الرمز أنا جديدة.”[5] هذه الأنا التي ترتاح أكثر وهي تبتكر، وتقود وتبحث عن المعرفة بنفسها في علاقة ألفة من الآلة والصوت والصورة والأغنية …كأدوات للمعرفة ووسائط للتعلُّم بديلة عن الورق. هكذا بالتالي وجب إيقاظ جانب الابتكار هذا وتعزيزه، والاعتراف بالآلة ووسائل الاتِّصال الجديدة كوسائط للتعلُّم. ويقتضي هذا تجهيز المدارس وتسليح الجسم التربوي بتربية إعلاميَّة خصوصا، وأنَّ هذه الأخيرة وفقا لتوصيات منظّمة اليونسكو باتت تمثِّل حقّا من حقوق الإنسان، لأنَّه بدون وعي إعلامي – سينشأ كثير من أبنائنا وهم معصوبي الأعين في عالم تتجاذبه الصراعات والأهواء والمصالح، ولا يرحم الضعفاء.
[1] هربرت ماكيوز، العقل والثورة، ترجمة، فؤاد زكريا، المؤسسة العربيَّة للدراسات والنشر، ط. الاولى، بيروت 1979، ص. 46.
[2] Célestin FREINET, Bandes enseignantes et programmation, op. cit., et Célestin FREINET – Maurice BERTELOOT, Travail individualisé et programmation, Bibliothèque de l’ école moderne, Cannes, 1966. P. 9.
[3] ميشال سار، الإصبع الصغيرة، ترجمة، عبد الرحمن بوعلي، مجلة الدولة، العدد 80، ص. 17.
[4] ميشال سار، الإصبع الصغيرة، مرجع سابق، ص. 26.
[5] نفس المرجع، ص. 67.