التنويريرواد التنويرسلايدر

الشحرور ناقدًا للتفكير الديني المعاصر

على مدى نصف قرن من الزمن، أجرى مهندس ميكانيك التربة والأساسات، الدكتور محمد شحرور، درسه المتواصل في ميكانيك وتربة وأساس ما سمَّاه «العقل الجمعي العربي»، ليوضح لماذا يعجز هذا العقل عن إنتاج المعرفة والفهم الديني المعاصر.

ولد الشحرور في دمشق عام 1938، حصل فيها على تعليمه الابتدائي والثانوي، سافر إلى الاتِّحاد السوفياتي لدراسة الهندسة المدنيَّة، عيِّن معيداً في كليَّة الهندسة المدنيَّة – جامعة دمشق عام 1965، في هذه الأثناء عايش نكسة 1967 وردود الأفعال على الهزيمة، ليأخذ هذه الردود معه إلى جامعة دبلن بإيرلندا عام 1968 للحصول على شهادتي الماجستير عام 1969، والدكتوراه عام 1972 في الهندسة المدنيَّة، ومن هناك بدأت رحلة واحد من أكثر مفكِّري التراث الإسلامي جدلاً في القرن الحادي والعشرين لغاية الآن، سعى من خلالها للبحث والتنقيب في تراث المسلمين الديني ومصادر معرفتهم، بهدف إعادة مركزيَّة رسالة الإسلام التي وجدها حادت عن مسارها الطبيعي، محاولاً إعادتها إلى أصل المعرفة المتمثِّل بالنصّ المؤسِّس للدين الإسلامي.

من تجديد الفكر إلى تجديد التفكير الإسلامي

تبنَّى الدكتور محمد شحرور لمشروعه منهجيَّة مرنة يقوم من خلالها بتعديل النتائج التي توصَّل اليها، على سبيل المثال، غيّر كثيرا في كتابه فقه المرأة، تحديدًا فيما يتعلَّق بقراءة المواريث، باعثاً بذلك رسالة مفادها أنَّ النتائج الإنسانيَّة للتنزيل الحكيم متغيِّرة، والتنزيل ثابت، وتقوم منهجيّته التي أطلق عليها “القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم” على عقلنة النصّ المؤسِّس لدين الإسلام، انطلاقاً من الخاصّيتين التاليتين:

أ‌- الوحي لا يناقض العقل (Revelation doesn’t contradict reason).

ب‌- الوحي لا يناقض الواقع (Revelation doesn’t contradict reality).

يرى الشحرور بأنَّ القرآن يؤكِّد النظريَّة المادّيَّة في المعرفة الإنسانيَّة التي يعبّر عنها مبدأ أنّ: العلم يتبع المعلوم وأنّ المعلومات تأتي من خارج الإنسان عن طريق الحواسّ والوحي (الإلهام) وغيرها. أمّا عندما يتبع المعلوم العلم فذلك من صفات الله فقط ولا يدخل في نطاق المعرفة الإنسانيَّة. ويُعدّ التجريد الفكري لدى الإنسان هبة من الله وهبهُ إيّاها بنفخة الروح، ويُعبَّر عنها باللغة والرياضيّات المجرَّدة التي تأتي سابقة لعلم الفيزياء. وهذا يؤكِّد أنّ الله عزّ وجلّ خلق الوجود من العدم، والعدم هو وجود الدالّ بدون مدلول وهذا الأمر نجده في الرياضيّات المجرَّدة.

بالتالي، تقوم المعرفة الإنسانيَّة على مبدأ التقليم وهو تمييز الأشياء بعضها عن بعض (Identification)، ثمّ يتبعها التسطير وهو ضمّ الأشياء بعضها إلى بعض في نسق واحد وهو ما نسمّيه التصنيف (Classification). والفؤاد هو الإدراك المشخّص بالحواسّ وهو ردّ الفعل الغريزي لدى الإنسان وهو الذي يعطيه المادّة الأوليّة الخام للفكر والعقل.

وعليه، يعتقد الشحرور أنَّ الثقافة الإسلاميَّة تعيد إنتاج نفسها إلى اليوم حتى في وسائل الاتّصال المعاصرة، لأنّ أيّ تجديد لا يُسمّى تجديداً إلّا إذا تمَّ فيه اختراق الأصول، بالتالي بدأ عمله باختراق الكثير ممّا يسميه “الثوابت في المنظومة التراثيَّة”، وخاصّة المتعلِّقة بالفقه وأصوله التي وضعها أناس عاشوا في القرون الهجريَّة الأولى وهي – برأيه – “لا تحمل أي قدسيَّة لأنّها تمثِّل المنظومة القانونيَّة للدولة التي نشأت في ظلّها، وبذلك فهي متجاوزة زمانيّاً ومعرفيّاً. لهذا اقتنع الشحرور بأنّه لن يتمكّن من تجديد الفقه والفكر الديني عامّة إذا لم يخترق هذه الثوابت المتجاوزة معرفيّاً، متبنيًا مقولة آينشتاين الشهيرة: “إنّ لمن الحماقة أن تعتقد أنك ستحصل على نتائج جديدة وأنت تكرِّر الشيء نفسه”، معتمدًا بذلك على “اللسانيّات الحديثة” والأرضيَّة المعرفيَّة المعاصرة، والتي بدأ بتطويرها وتطبيقها في كتبه العشرة المنشورة، ابتداءً من عام 1990 بالكتاب الأكثر جدلاً والذي شكَّل البداية الأولى للدكتور شحرور وهو: “الكتاب والقرآن” الذي تلته مجموعة من الكتب هي: “الدولة والمجتمع”، “الإسلام والإيمان”، “فقه المرأة”، “تجفيف منابع الإرهاب”، “القصص القرآني” بجزأيه الأول والثاني، “السنّة الرسوليَّة والسنّة النبويَّة”، “الدين والسلطة”، وأخيراً “أمّ الكتاب وتفصيلها”. فهذه الكتب تقدّم فكراً جديداً مؤسَّساً على منهج معرفي معاصر، وبالتالي فإنّ فهم ما جاء فيها من أفكار فهماً معمّقاً يحتاج إلى الاطلاع على المنهج الذي اعتمده الشحرور في الوصول إلى قراءتهِ المعاصرة.

ينقسم التاريخ الإنساني حسب التنزيل الحكيم عند الشحرور إلى مرحلتين: المرحلة الأولى مرحلة الرسالات التي انتهت برسالة محمّد (ص)، وهي الرسالة التي نُسخِت فيها الرسالات السابقة لها، والمرحلة الثانية مرحلة ما بعد الرسالات التي نعيشها نحن. وقد ختمت الرسالة المحمّدية التشريع الإلهي والنسخ الإلهي وبدأت بالتشريع الإنساني والنسخ الإنساني، ويؤكِّد الشحرور بأن النبيّ (ص) مارس الحالتين معاً إذ كان عليه البلاغ في الرسالة، وفي الحالة الإنسانيَّة شرّع لمجتمعه في تفصيل المحكم وتنظيم الحلال.

يستنتج الشحرور بأن قراءتنا المعاصرة للرسالة المحمّدية التي وردت بين دفّتي المصحف جاءت من منطلق كونها خاتم الرسالات، فتمعنّا فيها بعيون وعقل عصر ما بعد الرسالات على أساس أنَّ الخطاب الإلهي الذي جاء فيها يستوعب كلّ المستويات الإنسانية، بحيث جاء مستوعباً لمستوى الأوّلين الذين قرأوه بعيونهم وبمستوى معارفهم، وجاء مستوعباً لمستوانا، وبالتالي علينا أن نقرأه بعيوننا وبمستوى معارفنا، كما جاء مستوعباً لمستويات مَن بعدنا من الأجيال الذين يجب عليهم أن يقرأوه بعيونهم وبمختلف مستوياتهم المعرفيَّة، وهذا يؤكّد مصداقية الرسالة المحمّدية على أنّها رسالة إلهيَّة وأنّها الخاتم وصالحة لكلّ زمان ومكان، إذ لا يمكن أن تكون صلاحيتها إلى يوم الدين إلّا بهذه الصورة.

الكتاب والقرآن

يقدِّم الدكتور محمد شحرور في كتابه هذا المثير للجدل “الكتاب والقرآن” قراءة معاصرة، ونظرة جديدة للإسلام، تنطلق من خصائص اللسان العربي، ووقوفاً على الأرضيَّة الفلسفيَّة والمعرفيَّة للقرن العشرين. وقد عرض وجهة نظر جديدة إلى الوجود والمعرفة والتشريع والأخلاق والجمال والاقتصاد والتاريخ، استنتجها حصراً من آيات الذكر الحكيم، آخذاً بعين الاعتبار شموليَّة الإسلام، التي جاءت من حنيفيّته بالتشابه والحدود. لقد تبيَّن أن العمود الفقري للعقيدة الإسلاميَّة، هو قانون تغيُّر الصيرورة (التطوّر)، حيث تكمن عقيدة التوحيد، وقانون تغيُّر الأشياء. وانطلاقاً من هذه النظرة، وضع الدكتور محمد شحرور تعريفاً للإسلام وفقاً للآية الكريمة (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَام)، وتوصَّل إلى وضع منهج جديد في أصول التشريع الإسلامي القائم على البيّنات المادِّيَّة، وإجماع أكثريَّة الناس، وأن حرّيَّة التعبير عن الرأي وحرّيَّة الاختيار، هما أساس الحياة الإنسانيَّة في الإسلام.

الدولة والمجتمع

بقراءة معاصرة للمجتمع والدولة، من وجهة نظر التنزيل الحكيم، يستعرض الدكتور محمد شحرور نشوء الأسرة والأمَّة والقوميَّة والشعب، من الناحية التاريخيَّة، والفروق بينها. وحدَّد مفهوماً معاصراً للحريَّة والشورى، وصل به إلى أن الحريَّة والعلم توأمان، وأن التقنية أس العلم وجوهره، تماماً كما أن الديمقراطيَّة أس الحرية وجوهرها. وأوضح، في قراءته لقوله تعالى (حتى يغيروا ما بأنفسهم)، أنّ داء العرب والمسلمين يكمن في الآبائيَّة والاستبداد. وشرح أنواع الاستبداد العقائديَّة والفكرية والاجتماعية والمعرفية والاقتصادية والسياسية، من خلال شرحه للظاهرة الفرعونيَّة والهامانيَّة والقارونيَّة، كما وردت في التنزيل الحكيم. وعرض في بيانه لآثار الاستبداد على علوم القرآن والفقه والحديث واللغة، إلى الجهاد (العنف واللا عنف)، إلى القصاص والعقوبات شكلاً ومضموناً، ووصل انطلاقاً من صدق قوله (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إلى أن النسخ والإنشاء لا يكون في الرسالة الواحدة، بل بين الرسالات المتتابعة. كل ذلك في قالب علمي متين، يركِّز على صدق الخبر القرآني من جهة، وعلى الدلالات اللغويَّة للألفاظ والمعاني في التنزيل من جهةٍ أخرى.

الإسلام والإيمان – منظومة القيم

يذكّر الشحرور في هذه المقارنة، بأن هناك دينا واحدا عند الله هو الإسلام، بدأ بنوح (ع)، وتنامى متطوّراً متراكماً على يد النذر والنبوّات والرسالات، إلى أن خُتم متكاملاً بالرسول الأعظم محمد (ص). والإسلام هو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو منظومة المثل العليا، وهو العروة الوثقى، وهو الصراط المستقيم. الإسلام فطرة.. والإيمان تكليف. الإسلام يتقدَّم على الإيمان، إذ لا إيمان دون إسلام يسبقه يأتي قبله. المسلمون هم معظم أهل الأرض، وأمَّا المؤمنون فهم أتباع محمد (ص). فإبراهيم (ع) أبو المسلمين، ومحمد (ص) أبو المؤمنين. من هذه الأسس ينطلق الدكتور محمد شحرور في هذا الكتاب، لفهم الفرق بين تعاليم الإسلام وتكاليف الإيمان، بدلالة الفرق بين الكتاب والفريضة والموعظة، وما يترتَّب عليه فهم جديد لقوانين الإرث وأنصبته. ومن هذه القواعد، وبدلالة الفرق بين العباد والعبيد، ينتهي الدكتور محمد شحرور إلى أنَّ التنزيل الحكيم لم يعترف بالرقّ إطلاقاً ولم يُجزه، وإن كان قد ذكره ذامّاً، كوضع قائم موجود. وإلى أن مُلك اليمين لا يعني الرقّ البتَّة، وإلى أن العلاقة بين الله والناس علاقة عبوديَّة حرة، وليست علاقة عبوديَّة استعباديَّة. ثم يخلص إلى أن العبادات تتجلَّى في كل حقول الحياة. ومن هذه المنطلقات يخلص الدكتور محمد شحرور إلى تعريف الكفر والشرك والإجرام والإلحاد. ويختم الدكتور محمد شحرور كتابه برأي في الإلام والسياسة، فيبيّن أن الإسلام، من حيث هو توحيد ومثل عليا إنسانيَّة، غير قابل للتسييس. وأنَّ محاولة البعض تسييس الإسلام، ومحاولة البعض الآخر أسلمة السياسة، أضاعت السياسة والإسلام معا.

نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي – فقه المرأة

يتحدَّث الشحرور في هذا الباب من القراءة، عن مصداقيَّة الرسالة المحمّديَّة وخاتميّتها، ولبيان هذه الخاتميَّة وعالميّتها، بحث الدكتور محمد شحرور في مفاهيم الكينونة والسيرورة والصيرورة عند الكون والإنسان (كان/سار/صار). وخلص إلى أن التنزيل الحكيم كينونة في ذاته، وسيرورة وصيرورة لغيره، تتحرَّك مضامينه ومحتوياته مع تحرك السيرورة التاريخيَّة والصيرورة المعرفية. على ضوء ذلك، حدَّد الشحرور مفهوم السنَّة النبويَّة، واقترح أصولاً جديدة للفقه الإسلامي ولأدلَّة الاستنتاج، انطلاقاً من أن النبي (ص) قام بالصيرورة الإنسانيَّة الأولى للتنزيل. طبَّق الدكتور محمد شحرور في هذا الكتاب ما وصل إليه من أصول، على فقه المرأة وآيات المواريث، فنتج لديه علم جديد للمواريث، يختلف عن السائد الآن في علم الفرائض. واتَّضح عنده أنَّ التنزيل الحكيم لم يسوّ في الإرث بين الذكر والأنثى كأفراد، بل سوّى بين الذكور والإناث كمجموعات. كذلك بحث الدكتور محمد شحرور في الوصيَّة والقوامة والتعدّديَّة ولباس المرأة.

تجفيف منابع الإرهاب

هناك مواضيع إضافيَّة تلعب دوراً أساسيّاً في صياغة قناعات العنف تحت عنوان الجهاد والقتال والشهادة. وهل هناك شيء اسمه عمليات استشهاديَّة؟ أم هي بدعة على الثقافة الإسلاميَّة؟ هذه المواضيع هي الولاء والبراء والرِّدّة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاصد الشريعة التي تضمَّنها هذا الكتاب الذي حاول فيها الدكتور محمد شحرور إلقاء الضوء على هذه المواضيع مجتمعة، لا كلٍّ على حدة.

من الاستنتاجات المثيرة للجدل للدكتور شحرور هو استعارة مصطلح (الشهيد) من المسيحيَّة، وكيف أصبح كل من يموت في الحرب شهيدًا، وفي القرآن (وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، فالشهيد اسم من أسماء الله الحسنى. (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ) هذه المصطلحات تم تفصيلها أيام كانت الدولة قويَّة وذات سلطة. في ذلك الوقت تمّ  قتل المرتد، وظهرت مصطلحات مثل:  زنديق، جهاد، الكفر، دار الكفر، دار الكفار، ودار الإسلام.. لكن الآن لا معنى لتلك المصطلحات.

القصص القرآني

يستهلّ الشحرور مراجعته للقصص القرآني، بمقدّمة أساسيَّة تطرح فلسفة للتاريخ من خلال قراءة القصص القرآني بمنهجيّة علميَّة توظّف المعارف المستجدّة في مجال العلوم الأنثروبولوجيَّة والآثارية. ويصل إلى نتائج تنفي التناقض بين القرآن والعلم، مخرجاً القصص من إطار السرد التاريخي إلى آفاق إنسانيَّة ومعرفيَّة. ويفكّك المؤلِّف العقليَّة التراثيَّة التي تعاملت مع القصص، وينتقد اعتمادها على الأساطير البابليَّة والتوراتيَّة وتغييبها لمبدأ البحث والسير في الأرض كمنطلق رئيس في فهم التاريخ.

يتابع الشحرور في القصص القرآني، السير على طريق النبوات ليرى كيف تراكمت علوم النبوَّة ومعارفها، وكيف اكتشف الإنسان النار ودفن الموتى، ثمّ كيف تعلّم على يد نوح اجتياز الحواجز المائيَّة، وعلى يد شعيب الوفاء بالكيل والميزان، وعلى يد يوسف ادّخار محاصيل مواسم الخير لأيام القحط. ويتابع السير على طريق الرسالات ليرى كيف تنوّعت الشرائع وتطوّرت من شرائع حدّيَّة إلى شرائع حدوديَّة، مع ميل واضح إلى التسهيل والتخفيف؛ وكيف اختلفت الشعائر، من حيث الشكل، في صورتها التعبّديَّة. فالصوم كان صوماً عن الكلام مطلقاً، وصار صوماً عن الطعام والشراب وملامسة النساء واجتناب الكلام البذيء والفاحش، والصلاة كانت دعاءً وذكرا، ثم أخذت شكلاً شعائرياًّ قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً يشترط فيها الخشوع.

السنَّة الرسوليَّة والسنَّة النبويَّة – رؤية جديدة

يراجع الشحرور شعارات “الإسلام الوسطي” والوسطيَّة” والإسلام هو الحل” … التي تبقى بنظره شعارات ضبابيَّة وعاطفيَّة، يعمد أصحابها إلى توظيف الدين والسنّة النبوية خاصَّةً بما يخدم أغراضهم وأهدافهم. بهذه الشعارات تقدّمت الحركات الإسلاميَّة إلى الأمام من خلال صناديق الاقتراع. وهذا النجاح يضعها أمام مسؤوليَّات هائلة، فعليها أن تعلم أن كل فشل يصيب هذه الحركات سوف ينظر إليه أنه فشل للإسلام، وكما أنهم يعزون نجاحهم إلى الإسلام، فإنَّ معارضيهم سوف يعزون فشلهم إلى الإسلام أيضاً. يقدّم الكتاب قراءة معاصرة للسنّة بشقّيها: الرسوليَّة والنبويَّة، بديلاً للمفهوم التراثي لها، الذي يفيد الاتباع والقدوة والأسوة والطاعة… ويفصّل المقامات المحمّديَّة الثلاثة: الرسول – النبي – الإنسان. كما يقرأ مفاهيم العصمة والمعجزات وعلم الغيب والشفاعة، ونقد مفهوم الشافعي للسنّة، وكذلك مفهوم عدالة الصحابة.

الدين والسلطة – قراءة معاصرة للحاكميَّة

يتناول الدكتور الشحرور جدليَّة العلاقة بين الدين والسلطة انطلاقاً من مفهوم الحاكميَّة، مستعرضاً مراحل تطوّر هذا المفهوم بدءاً من الكتب الفقهيَّة التراثيَّة، مروراً بالإسلام السياسي المعاصر، وصولاً إلى الحركات السلفيَّة الجهاديَّة. ويقدّم مفهومه المعاصر للحاكميَّة الإلهيَّة التي يرى أنها تمثّل الميثاق العالمي الذي يمكن من خلاله تحقيق السلام في العالم. والولاء له هو ولاء للقيم الإنسانيَّة، ويتجسَّد من خلال احترامه لهذه القيم وتمسّكه بها والدفاع عنها من منطلق قناعة شخصيَّة مبنيَّة على الانقياد الطوعي للحاكميَّة الإلهيَّة. ويرى أن هذا الولاء الديني الإنساني هو الرادع لكل من تسوّل له نفسه ممارسة الطغيان على الناس لسلبهم حرّياتهم، وهو الذي يمكنه أن يحقّق السلام العالمي الذي يحثّ عليه الدين الإسلامي. يتابع شحرور في هذا الكتاب مشروعه النقدي التحديثي للفكر الإسلامي، مضيفاً لبنة جديدة إلى المنهج الذي يسعى من خلاله إلى إبراز عالميَّة وإنسانيَّة الإسلام بوصفه رسالةً رحمانيَّة، لا عقيدة طاغوتيَّة.

أمُّ الكتاب وتفصيلها: قراءة معاصرة في الحاكميَّة الإنسانيَّة

يتابع الدكتور محمد شحرور في قراءته المعاصرة للتنزيل الحكيم، وذلك من خلال تطبيق منهجه على موضوع المحكم والمتشابه، متتبّعاً المفاهيم التي تحملها هذه الآيات حول هذين المصطلحين، وما يرتبط بهما من مواضيع ذات علاقة كالتأويل والاجتهاد. ويقدِّم المؤلّف دراسة معاصرة لعمليَّة الاجتهاد في نصوص التنزيل الحكيم، انطلاقاً من نسخ كل الاجتهادات الإنسانيَّة السابقة في تفصيل المحكم من هذه النصوص، وإعادة الاجتهاد فيه بروح معاصرة، بعيداً عن القراءة التراثيَّة الأحاديَّة الملزمة وراثيّا. تلك القراءة التي أوقفت التاريخ وصيرورته عند لحظة معيّنة، ما جعل الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة هشَّة ضعيفة يستحيل صمودها أمام ثقافات الدول الأخرى المتطوّرة إلا بممارسة العنف، من خلال قطع الرؤوس والرجم والجلد، لإثبات وجودها.

دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم

يشرح الدكتور محمد شحرور أكثر من ثمانين مفردة قرآنيَّة في معناها الاصطلاحي كما استخدمها في مؤلّفاته السابقة التي تمثّل مشروعه المعرفي. وهو شرح اتَّسم بالدقَّة العلميَّة، وركَّز على الفارق في المعنى الذي أهّلها لأن تكون حاملةً لمنهجه. هذا الكتاب هو دليل للقارئ هذا الكتاب هو دليل للقارئ إذا أشكل عليه فهم أيّ فكرة أو عبارة في مؤلّفات شحرور … فيه يحدِّد المؤلِّف منهجه على المستويّين اللغوي والفكري. ويعرّف النظام المعرفي الذي اتّبعه، والأوليَّات اللازمة لدراسة النصّ الديني.

الإسلام والإنسان – من نتائج القراءة المعاصرة

الفوضى الفكريَّة العارمة في قراءة الإسلام وتطبيقه، تستدعي وضع التراث جانباً والبدء من النصّ المؤسِّس للدين ألا وهو كتاب الله. يتناول هذا الكتاب الأسس الثابتة للإسلام، الإيمان، المواطنة، والولاء الديني، معتمداً قاعدة الترتيل منهجيَّة له. والترتيل في رأي الدكتور شحرور هو نظم الموضوعات الواحدة الواردة في آيات مختلفة في نسق واحد. وكذلك مبدأ رفض الترادف في فهم نصوص كتاب الله، وتفسير نصوص الكتاب بعضها ببعض.

من دولة الفتوى.. إلى دولة القانون

يؤكِّد الشحرور أنَّ الدين الإسلامي معتقد إنساني، لا يخضع للزمان (التاريخ) ولا للمكان (الجغرافيا) أما الدولة فكيان مؤسّساتي تحكمه الحدود الجغرافيَّة المرسومة وحدود فترة تاريخيَّة ما كالدولة الرومانيَّة، والدولة العربيَّة، ولهذا فهي تحتاج إلى تشريعات ونواظم غير موجودة في كتاب الإسلام (التنزيل الحكيم)، وهذا ما مارسه الرسول الأعظم (ص) في المدينة المنوّرة كرئيس للدولة التي أسَّسها هناك، وهنا يتَّضح أمامنا معنى السنَّة النبويَّة في غير الشعائر، التي هي تشريعات لمجتمع المدينة المنوّرة، لدولة من القرن السابع الميلادي في شبه جزيرة العرب.

شغل هذا السؤال عقل محمد شحرور، لأنّ العقل العربي – كما يقول – يعيش ازدواجيَّة القانون والفتوى، حيث أن رجل القانون يقول رأيه في مسألة ما ورجل الدين قد يعطي رأيا مغايرا. هذه الازدواجيَّة وذلك التناقض، يعيشه أيضا المسلمون في أوروبا.

سعى الدكتور محمد الشحرور إلى تأسيس فقه إسلامي معاصر يقدِّم رؤية مغايرة لعمليَّة التشريع التي يجب أن تتماشى مع التطوّر المعرفي لأيّ مجتمع، على ألّا ننسى أنّ قراءتنا المعاصرة للتنزيل الحكيم ليست القراءة الأخيرة له، لأنّ القول بأنّها الأخيرة يوقعنا فيما وقع فيه السلف والسلفيُّون والآباء والآبائيّون، لأنّ من يدّعي فهم كتاب الله ككلّ من أوّله إلى آخره فهماً مطلقا، إنّما يدّعي شراكة الله في المعرفة.

ملاحظات نقديَّة على مشروع الدكتور محمد شحرور

كان الدكتور محمد شحرور يبتعد عن الإشادة به، ويفضِّل المشاركات النقديَّة له ولمشروعه، وكان يقوم بنشر تلك المشاركات النقديَّة ويهتم بها ويعتبرها تغذية راجعة لما توصَّل إليه، ولأن الكمال لله، لازم مشروع الشحرور كمية كبيرة من رسائل النقد المتنوّعة التي تركَّزت على منهجه.

على سبيل المثال، دعا الشحرور في ورقة أعدَّها عام 1999 بعنوان «مشروع ميثاق العمل الإسلامي» إلى أن الدين الإسلامي معتقد إنساني، لا يخضع للزمان (التاريخ) ولا للمكان (الجغرافيا) أمَّا الدولة فكيان مؤسَّساتي تحكمه الحدود الجغرافيَّة المرسومة وحدود فترة تاريخيَّة ما كالدولة الرومانيَّة، والدولة العربيَّة، ولهذا فهي تحتاج إلى تشريعات ونواظم غير موجودة في كتاب الإسلام (التنزيل الحكيم)، الأمر الذي يتناقض مع قوله بأنه “لا يوجد برلمان في العالم يشرِّع تشريعا خارج المصحف” كما أن كتاب الدكتور شحرور ” تجفيف منابع الإرهاب” لم يعالج إشكاليَّة التطرّف الديني العنيف، وسلوك الجماعات الدينيَّة المسلَّحة، وكيفيَّة الوقاية من التطرّف، كما يؤخذ على مشروع القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم، التقليل من أهمية الجهد المعرفي المبذول من قبل دعاة التجديد السابقين.

بالرغم من ذلك، نحن أمام إنسان باحث شجاع ومُلهَم لمجموعة كبيرة من الشباب المسلم، زرع بداخل عقولهم أسئلة نقديَّة تفكيكيَّة، حرَّرتهم من قيود تاريخيَّة موروثة، والأهم من ذلك شجَّعتهم أطروحاته على فتح مجال فلسفة الدين، والعودة إلى الغاية الأولى للدين الإسلامي وهي القراءة.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة