بعيدًا عن اللَّغَط الذي يدُور سَنويًّا حول “عيد الحُبّ”، يَحقُّ لنا أن نتساءل عن مكانة الحُبّ في الحضارة الإسلامية، وكيفية احتفاء المسلمين في تاريخهم بالحُبّ.
لعلَّ الكِتاب الأشهر في فلسفة الحُبّ وأحواله، هو كتاب ابن حزم القرطبي الأندلسي (ت 456هـ/1064م). فهذا الفقيه المحدِّث المتكلّم، الذي عُرف بحِدَّة لسانه، حتى قيل: “سيفُ الحَجّاج ولسان ابن حزم شقيقان”، نراه في كتابه –حتى في صياغة عنوانه- “طَوق الحمامة في الأُلفة والأُلَّاف”، رقيقَ المشاعر، مُرهَف الحِسّ، خبيرًا بأسرار النفس الإنسانية، واصفًا دقيقًا لتقلُّبات القلب ودقَّاته، مستشهِدًا بالشِّعر والقصص وتجاربه الشخصية، عاكسًا أجواء الرُّقيِّ الإنساني والحضاري لأهل الأندلس في ذلك الزمان. وهو كِتاب قد نال شهرةً واسعة، وتُرجِم إلى لغات كثيرة. وتَكمن أهميته في جوانبه النفسية والاجتماعية والأدبية. وهو يُبْدي جرأةً على تناول مسائل حسَّاسة، نتعرض لها اليوم بحذر ووَجَل مبالَغ فيهما. فيبدو أنَّ نمط التديُّن القديم، كان أكثر جُرأةً على تناول مِثل هذه القضايا.
يوجد كِتاب آخر لا يقلُّ أهمية عنه، بل ربما يفُوقه في بعض الجوانب، خاصَّةً الجانب الصُّوفيَّ الروحاني منها، مع أنه لم يَلْقَ الانتشار نفسه. وهو كتاب “سَوانح العُشَّاق”، ويُعرَف اختصارًا بـ”السَّوانح”، لأحمد الغزالي الطُّوسي (ت 520هـ/1126م). وكثيرٌ منَّا يَعرفون أخاه الأكبر الإمام أبا حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م)، ذلك الفقيه المتكلِّم الصُّوفي، وتجربته الروحية، ومحنة الشكّ التي مرّ بها ودَوّنها في كتابه “المُنقذ من الضَّلال”. ولكنَّ الكثيرين أيضًا لا يَعرفون مَن تَكفّل بأسرة أبي حامد أثناء غيابه الطويل إلى حين عودته، بعد أن “قذَف الله نورًا في صدره”، حيث تَكفّل بها أخوه أحمد، الذي لا يقلّ عنه معرفةً وخبرة روحية. وقد تجلّى ذلك من خلال كتاباته، حتى وإنْ كان لم يَمُرّ بتجربةِ شكٍّ وتِيهٍ مُماثِلة، لكي يَبلغ تلك القِمم الشاهقة.
لعلَّ ما حَدَّ من انتشار الكتاب، هو كَونُه باللغة الفارسية. ويا للأسف، فإنَّ حركة الترجمة من الفارسية إلى العربية ظلَّت محدودة إلى اليوم. هذا فضْلًا عن مسألة جودة الترجمات وإتقانها. إنَّ الكتاب -بتعريف صاحبه في أَسطُره الأولى- يتعلق بـ”معاني الحُبّ”. ولعلَّه من أوائل الكتب الإسلامية التي عُنيت بفلسفة الحُبّ، أو ما أطلَق عليه بعضُهم “ميتافيزيقا” الحب -الإلهي أساسًا-، وتجلِّيَاتِه الإنسانية المتعددة. فالميتافيزيقا لا تُقْصي الفيزيقا (عِلْم الطبيعة)، بل تحتضنها وتُنيرها.
هناك منطقة من “الغموض”، بين ما هو إلهيٌّ وما هو إنسانيّ في هذا الكتاب، وفي الكتابات الصوفية عمومًا. والمؤلِّف واعٍ بهذا “الالتباس” المقصود. وهو في الحقيقة “غُموض”، يراه مَن يَعتبر أنَّ هناك هُوَّةً وُجوديّة فاصلة بين الإلهي والإنساني فقط، أو ما يمْكن تسميتُه بـ”الثُّنائيّة الوجودية”. فالرُّؤية الصوفية تتَّسم بـ”الوحدانية” الجذرية، التي أطلَق عليها بعضُهم اسم: “وَحْدة الوجود”. وبِغضِّ النظر عن المصطلَح، فإنّ المعنى العميق هو أن الله تعالى المتسامي في جلاله، يتجلى في الخَلق، وفي الإنسان خاصةً، من خلال الحُبّ. فالحُبّ هو جمال الحضرة، وفَيض النور، وحركة الخَلق في الوجود.
يصف أحمد الغزالي بدايات الحُبّ بقوله: “يَرغب المُحبُّ في محبوبه لنفسه، فهو في الحقيقة مُحبٌّ لنفسه من خلال محبوبه، من دون أن يكون واعيًا بذلك، فهو يستعمل محبوبه تحقيقًا لمصالحه الخاصة”. والمؤلف هنا لا يَسُوق الكلام من أجل اللوم والتقريع، بل يعتبر ذلك أمرًا إيجابيًّا إذا ما استمرَّ نُموُّ الحُبّ، حتى إذا ما نضج، كان المُحبُّ مستعدًّا لبذل النفس في سبيل محبوبه. فكان لا بد من المرور بتلك المرحلة “الأنانيَّة” لبلوغ الكمال.
هذه القواعد النفسية والروحية تنطبق على الحُبّ بين البشر، كما تنطبق على حبِّ الإنسان لله. فالدِّين قد يبدأ “أنانيًّا”، ثم يتطهر بالتدريج، ليصبح جُودًا خالصًا. وفي كل الحالات، يَعتبر الغزالي أنَّ الحُبَّ “بِناءٌ قُدسيّ”، وصَرْحٌ للولاية. فلِلوُصول إلى الله، “لا بدَّ للنفس من المرور بالحب”. والحُبُّ شرطٌ للعبور إليه سبحانه، وهو جوهر التجربة الدينية، بل هو جوهر الإنسانية. وهو تجربة تَجمع بين الروح والجمال، وتُحوِّل كيان الإنسان، وتَرقَى بإنسانيته إلى قِمَّة نُضجها.
الآية القرآنية التي يبدأ بها الكتاب، وتتكرر في ثناياه، هي قوله تعالى: {يحبُّهم ويحبُّونهُ} [المائدة: 54]. فمبادرة المحبة الإلهية هي بدء الخَلق، وهي التي تَحمله في مدارج الكمال والمعنى. وما الحُبُّ الإنساني إلَّا صدًى يُجيب، ويستجيب لذلك النداء الأزلي.
*المصدر: تعددية.