أبدأ بالشكر الجزيل للرابطة العربيَّة للتربويّين التنويريّين على هذه الفرصة التي تتاح لنا جميعا، هي فرصة الاجتماع السنوي الذي يليق بصفته التربويَّة التفكّريَّة النقاشيَّة الحواريَّة، والذي يليق بالرابطة وأدوارها في الرصد والتحليل المتأنّي والتبلور الفكري في مجال التنوير.
مداخلتي ستكون حول موضوع التعليم الديني في علاقته بموضوع الدين، ونعتقد أننا هنا لا نختلف حول أزمة التعليم الديني الراهن. أزمة التعليم الديني أزمة ماثلة في عالم المسلمين بشكلٍ عام، ودلائلها متعدّدة واضحة على الأقل في مجالات السلوك والوعي العام، ولكنني أعتبر أنَّ آية هذه الأزمة الأكبر أمام المسلمين اليوم في التعليم الديني هي ما أشير إليه في أكثر من مداخلة اليوم، علاقة هذا التعليم بحركة التاريخ، لأنّ التعليم الديني توقّف عن أداء أخطر أدواره وهو إنتاج المعنى.
إنتاج المعنى الذي يسهم في تطور حركة التاريخ، وأهم أدواره هذه في مستوى إنتاج المعنى هو أن يؤهّل مخرجاته بشرا وأثرا من خريجين وأفكار لتمثّل روح العصر، أسئلة العصر، فرصه وتحدّياته تمثّلا صحيحا يمكّن من الانخراط في هذا العصر وهو الذي يعتبر جوهر فكرة الحداثة نفسها، القدرة على الإبداع والتمكّن من أداء هذا الدور.
إذن، هناك اتّفاق على هذه الأزمة وما هي تجلّياتها، لكن هناك خلافا على طبيعة هذه الأزمة؛ أزمة التعليم الديني ومجالها، هل هي أزمة خاصّة بالتعليم الديني ومخرجاته، أم هو منطلق هذه الأزمة. أم إنّها أزمة أشمل من التعليم الديني وأوسع، طبعا تظل الأزمة الفكريَّة ماثلة في المقام الأوّل. والتعليم كما نعرف تعليم صانع للمعرفة ومنتج للأفكار وعمليَّة إعادة بناء مستمرَّة للإنسان، لكن الأزمة التي يعانيها عالم المسلمين اليوم، ولا بد أن نواجه الواقع في أنها أزمة زمن ثقافي وحضاري شاملة. هي أزمة تواجه عالم المسلمين في كل مستوياته، هي من النوع الذي يسميه ابن خلدون، نقطة وقوف في تاريخ الأمم.
نحن نعاني أزمة على صعيد الزمن الثقافي والحضاري بشكلٍ شامل ومن ضمنه طبعا التعليم الديني، لذلك فلا يمكن أن يكون مدخل التعامل مع التعليم الديني مدخل سياسات، وأظن أنه آينشتاين الذي قال مرَّة إنّه: إذا كان لديك مشكلة مركّبة واعتمدت في حلّها على السياسيّين صارت لديك مشكلتان”، ولا أن يتمّ التعامل مع التعليم الديني من داخله ومن مقاربته التعليم الديني نفسه. التعليم الديني في رأيي أكثر تركيبا تحتاج إلى مقاربة متعدّدة عابرة للتخصّصات وإلى هذا النمط من التفاكر الجماعي العابر للجهات والأقطار والتخّصّصات حتى نتمكّن من إبداء آراء فاتحة لأفقٍ جديد لهذا التعليم.
أريد أن أتحدَّث عن مسألة القيم باعتبارها موضوعا يهمّني بشكلٍ كبير، وعلى امتداد سنوات أشتغل عليه، التعليم الديني في علاقته بالقيم، باعتبار القيم هي الجدل، هي الحالة الجامعة بين التعليم وبين عالمه، أو الواصلة بين جوهر التعليم وبين العالم الذي يعيش فيه.
الحقيقة، أن الأزمات التي يعيشها عالمنا إجمالا، والتي يتحدّث عنها الحكماء والفلاسفة، يمكن أن يكون الجامع بينها جميعها هو القيم؛ لأن مشكلات الدافع الأخلاقي للإنسان مشكلات المعايير، مشكلات المفاهيم الفلسفيَّة الناظمة ليس لها من حدٍّ مانع جامع كما يقول المناطقة إلا مفهوم القيم باعتبارها هذا البعد، البعد المعياري في القيم الذي هو خلاف الأخلاق الذي آل إليه نقاشنا هذا الصباح في قضيَّة الفلسفة الأخلاقيَّة. القيم هي ليست الأخلاق، هي معايير ودوافع وفلسفة تعطي المعنى الكلي للأخلاق.
نحن ندرّس طلبة علم الاجتماع، أنَّ مجالات فعالية القيم الأساسيَّة ثلاثة؛ المستوى الفردي الذي تضبطه القيم الذاتيَّة والسلوكيَّة، والمستوى النظامي الذي يتحدّد داخل النسق، والمستوى العام الذي تضبطه القيم الاجتماعيَّة، لكن نحن في إطار التعليم الديني خصوصا نحتاج إلى ملامسة أفق جديد هو القيم الإنسانيَّة وتلمّس رصيد هذه القيم الإنسانيَّة في مضامين التعليم الديني، لنتمكّن من تقديم إجابات تمثّل مشكلة أو أزمة مجمع على وجودها.
القيم الإنسانيَّة في الرصيد القيمي للإسلام في رأيي، توجد بمستويين أساسيّين، المستوى الأوّل هو الكتاب المؤسّس القرآن الكريم، بدءا من القيمة المركزيَّة العليا التي هي فكرة التوحيد نفسها وما ينتج عنها من تجلّيات سلوكيَّة (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، والحضور الأخلاقي في القرآن على هذا المستوى؛ مستوى المعايير واضح وقد اشتغل على هذا الموضوع من الناحية البحثيّة مرارا من حيث ورود القيم الناظمة وآثارها وشبكة القيم بناء على هذه القيم الناظمة الكلّيَّة المركزيَّة فليس هذا مجال التفصيل في الموضوع. كيف أن العدالة هي الأكثر ورودا، والرحمة والعلاقة بين كل من هاتين القمّتين إلى غير ذلك.
المستوى الثاني ما يمكن أن نسميه دافعيّة الالتزام والتأسي. كسف تصنع هذه الدافعيَّة؟ وهو سؤال في غاية الأهمّيَّة يواجه فلسفة التعليم اليوم بشكلٍ عام.
كثير من الدارسين للجانب القيمي في الفكر الإسلامي، يشيرون إلى أن- وهذا أمر تحدّث عنه متخصّصون وفلاسفة من أمريكا إلى اليابان، يعني ليس خاصا بنا- إلى أنّ السمة النسقيَّة للدوافع الأخلاقيَّة، أو ما يسمّى بمنظومة القيم، وهذا الأمر له علاقة بتحوّل أساسي وقع في الثقافة العربيَّة من طورٍ يمكن ان نسمّيه طور البطولة الشعرية التي لا اقتران فيها بين القول والفعل، وطور الثقافة الأخلاقيَّة قولا وفعلا، باختلافٍ طبعا في درجات التناول، كان هذا نقطة أساسيَّة على هذا المستوى.
لكن المشكلة أنّ هذه النقلة وما ارتبط بها من مضامين على مستوى نسق القيم ودوافع التأسّي لم تنل حظّها بشكلٍ واسع من المفسّرين وفي كتب التراث بشكلٍ عام، وهذا هو الذي يفسِّر لماذا ما زلنا حتى اليوم في بدايات القرن الحادي والعشرين نقول إنه ليس لدينا فلسفة أخلاقيَّة، وليس لدينا نظام قيمي مبني بناء منهجيّا مستوعبا محكما. وليس لدينا تراث متكامل حول آيات الأخلاق في مقابل آيات الأحكام، كما أشار لذلك الدكتور عبد الجبار الرفاعي أنّ آيات الأحكام التي لا تمثّل بالنسبة لبقيّة الآيات الأخرى 5% من مجموع آيات القرآن الكريم تمّ الاهتمام بها بشكلٍ واسع في مقابل آيات الأخلاق التي كما يقول فضل عبد الرحمن، إنّ المسلمين لم يحاولوا دراستها بطريقة منهجيَّة رغم أنّها تشكّل الأساس الجوهري في الخطاب القرآني.
الفكرة الأساسيَّة التي أحبّ أن أعرضها للحوار بين أيديكم تتعلّق بمفهوم الإتمام القيمي، والإتمام القيمي كما هو واضح من عنوانه مؤسّس على مفهوم الإتمام ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. الحديث المؤسِّس لهذه المقاربة، ومقاربة الإتمام القيمي هو حديث ” إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق”، وبالمناسبة هذا النوع من الأحاديث الذي يعطي هذه الصورة تجده من المرويات المشتركة بين المذاهب المختلفة. موجود في مرويّات السنّة والشيعة وغير ذلك، لأنه من نوع الأحاديث التي تعطي رؤية كلّيّة، أو الأجوبة الأساسيَّة. هذا الحديث يحصر بأداة الحصر في اللغة، وهذه ملاحظة مهمّة، يشير إلى إنهاء الشيء أو ختمه وقد قارب على نهايته، أي في المرحلة الأخيرة منه، إتمام أي بناء يعني أنه قد وصل أو قارب على الانتهاء، ونأتي نحن لنتم ما بقي منه في مراحله الأخيرة، لهذا يقال أتمّ القمر إذا صار بدرا، وتمّت الحبلى إذا دنا وقت ولادتها، يعني في المراحل الأخيرة.
هناك طبعا مستويات عمليَّة كثيرة لكن الوقت لا يسمح لأفصّل الحديث عنها، لكن نرجع مرّة أخرى إلى فكرة الإتمام بوصف أن الرسالة القيميَّة للوحي هي رسالة استئناف واستصحاب ومواصلة لا رسالة انفصال وانقطاع، سواء في ذلك المواصلة على الصعيد الزمني أو على الصعيد المكاني الاستفادة من التراث القيمي للرسالات المتعاقبة أو من الرصيد القيمي أو رصيد الحكمة الإنسانيَّة في التجارب الإنسانيَّة المختلفة في كل سياق حضاري آخر وثقافي موازٍ.
السؤال الذي يطرح، هو كيف أو عن هذه المقاربة مقاربة الإتمام القيمي في عصرنا، أي في منهج استلهام هذه المقاربة في تعليمنا الديني اليوم. السؤال الملح أولا، هو عن موقع هذه الفكرة، لماذا تغيب هذه الفكرة رغم أنه كما قلت الحديث يوجد في مرويات المذاهب كلها بهذا الشكل، وفي كل كتب الأخلاق يعني الدكتور محمد يوسف موسى كتب سنة 1940 صدر كتابه “تاريخ الأخلاق” يستعرض فيها تاريخ الأخلاق عند المسلمين ولكننا لا نكاد نجد سواء في الاتجاهات التي تعنى بالأخلاق العمليَّة أو بالأخلاق الدينيَّة، أو النزعة المتأثّرة بالفلسفة الأخلاقيَّة هذا الأمر بشكل كامل.
المطلب المتّصل بالإسهام الديني في البناء القيمي اليوم، هو مطلب ملح حتى في كثير من اتّجاهات الفلسفة الأخلاقيَّة في زمننا المعاصر، يعني مثلا عندما يرى أن الكونيَّة هي أفق الحداثة، في هذا السياق يرى أنه من المهم الإلحاح في ترجمة المفاهيم الدينيَّة إلى لغة دنيويَّة تستطيع التفاعل مع هذا الأفق الكوني، والإسهام بمضمونها القيمي في التأثير داخل هذا الأفق الكوني في الإمداد بجواب المعنى وبالقيم على الأزمات الماثلة والملحّة اليوم. ونحن نعرف أن العولمة بقدر ما مثّلت تحديا في هذا السياق مثّلت في المقابل فرصة ومجالا واسعا بما يتيحه من فرص التواصل من جهة، ومن جهةٍ أخرى بما بينته من اتّحاد مشكلات الإنسانيَّة وأن البشر جميعا يركبون سفينة واحدة، إما ان تنجو بهم جميعا، وإمّا أن تغرق بهم جميعا، اتّحاد أزمات الإنسانيَّة اليوم هو مؤشّر قوي في هذا السياق.
أختم في الإجابة، أو طرح ملاحظات سريعة عن هذه المقاربة: أولا من المهمّ إزالة التخوّف الأساسي عند من يوجّهون التعليم الديني اليوم، هو فكرة مقاربة الإتمام القيمي تتّجه إلى الحضارة الإنسانيَّة في سعتها، لا ترتبط بالثقافات التي هي موضوع للتعدّد كما هو معروف، بل ينبغي الحفاظ على خاصيَّة التعدّد المغني للثقافات كلها، بينما الحضارة الإنسانيَّة هي التجلّي المادي للعمران البشري، وبالتالي هي التي تمسي فيها الحاجة إلى الإجابة على إشكاليات الإنسان وأسئلته اليوم من خلال هذه المقاربة العابرة للانتماءات والهويّات الدينيَّة أو الثقافيَّة أو الحضاريَّة إلى غير ذلك في الإفادة المتبادلة ما بينها.
الإشكاليَّة الثانية، أنّ هذا الأمر يقتضي ضرورة استيعاب القيم بما هي نسق أي القيم العليا في أي نسق قيمي وأثرها على القيم الأخرى في التنظيرات الفلسفيَّة المختلفة، في الماركسيّة كمثال يقال إن القيمة العليا هي المساواة. في الليبراليَّة القيمة العليا هي الحريّة، في الإسلام هناك حديث عن قيمة العدل باعتبارها القيمة التي وردت فيها النصوص في القرآن الكريم في المستويات المختلفة بدءا من مستوى السلوك الإنساني (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) إلى مستوى التعامل مع الآخر (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا) وصولا إلى اعتبارها قانونا كليّا (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) وهي الأصل، أو الدافع لبعثة الأنبياء.
الملاحظة الأخيرة، أولويَّة إعادة تأسيس التعليم الديني على تجاوز التصنيفات التي أضحت بمرور الزمن حواجز وسواتر وجدران فاصلة بين التخصّصات، كانت بداية التصنيفات تعليميَّة في كتب مراتب العلوم، وفي كتب الفهارس؛ فهرس ابن الخير، وفهرس ابن النديم وغيرها. كانت تصنيفات تعليميَّة ثمّ تطوّر الأمر إلى أن أصبحت حواجز تمنع المعرفة من أن تتحرّك في هذه المساحات بشكلٍ تلقائي يجيب عن أسئلة التعليم ويحقّق غاياته، ويمكن أن نشير إلى تجربة أصول الفقه او علم الكلام، حيث اصطبغ علم الكلام، مثلا، بصبغة الجدل الفلسفي، ولكن هناك حاجة اليوم إلى تجاوز التصنيفات الحدية للعلوم لتتمكّن من أن تجيب على هذه الأسئلة بشكلٍ جماعي.
يمكن بالإجمال القول إن مقاربة الاتمام القيمي تتلخّص في بناء منظومة قيمية يمكن من خلالها استيعاب واستثمار المقاربات القيمية المتعدّدة، وإنّ هذه القيم في الواقع، هي المعبر في رأيي المتواضع التي يمكن للدين من خلالها أن يمضي من الماضي إلى المستقبل. ليس هناك جسور أو معابر خارج هذا النسق القيمي، هو جوهر رسالة الأديان على كل حال، لتنطلق من خلاله أو عبره رسالة الدين من الماضي إلى المستقبل، فيستعيد التعليم الديني بذلك مهمّته الأساسيَّة التي أشرت إليها في البداية، وهي إعادة أو استئناف إنتاجه للمعنى.
__________
* ألقيت ضمن فقرة الندوات الفكرية خلال الاجتماع السنوي الرابع للرابطة العربية للتربويين التنويريين الذي عقد في عمّان الأردن، بتاريخ 23 نوفمبر 2019.