كانت بدايات ظهور مصطلح التنوير في أوروبا في القرن السادس عشر، ثم تطور في القرن السابع عشر، ليبلغ ذروته في القرن الثامن عشر، والذي تولد من رحم معاناة العلماء والمفكرين نتيجة تغول الكنيسة ورجالاتها على الحياة العامة، وممارسة وصايتها على أهل العلم والفكر، وحجر التفكير عليهم خارج الحدود التي رسمتها وحددت مساراتها.
يحكي التنوير بحسب سياقاته التاريخية التي نشأ فيها، قصة الصراع بين رجال دين أرادوا احتكار الحقيقة وإلزام الآخرين بها، وفق تفسيراتهم المصادمة للعقل والعلم، وبين علماء ومفكرين كافحوا للتحرر والانعتاق من تلك الهيمنة التي مارستها الكنيسة باسم الدين وبالتوقيع عن رب العالمين، فكانت الغلبة في نهاية المطاف للاتجاه العقلاني الدنيوي الذي رفض تلك الوصاية وتمرد عليها.
مفهوم التنوير في المجال التداولي الأوروبي
يطلق مصطلح التنوير في المجال التداولي الأوروبي، ويراد به بحسب أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية الدكتور إبراهيم عثمان، “تحرير المعرفة الإنسانية من السلطة الدينية، أو الفكر الغيبي بمجمله، والاعتماد على المنهج العلمي في دراسة الواقع، واعتبار العقل الإنساني هو أساس المعرفة وليس أية قوى غيبية من الخارج”.
حينما سئل الفيلسوف الألماني عن مفهوم التنوير أجاب بقوله : “خروج الإنسان من حالة الوصاية عليه.. والتي هي عجزه عن استعمال عقله دون إرشاد من غيره..” وأورد كانط أمثلة توضح طبيعة الوصاية “حين يخضع الإنسان لسلطة كتاب (مقدس) بدل الاسترشاد بعقله، وحين يمتثل لسلطة مرشد ديني أو روحي بدل الاهتداء بوعيه وضميره..”
في تعليقه على كلام الفيلسوف كانط أكدّ عالم الاجتماع الدكتور إبراهيم عثمان لـ “عربي 21” أنه يعبر عن جوهر التنوير وفكرته المركزية، مبينا أن الدين في عصر التنوير لم يعد له أية سلطة على المعرفة والعلم، وأن دوره انحصر في المجال الأخلاقي كموجه قيمي.
لكن هل وجد في المجال الإسلامي ما يمكن أن يشاكل حالة التنوير الأوروبي؟ يرى الدكتور عثمان أن إعطاء العقل دورا في التأويل الديني، ربما ظهر مبكرا مع المعتزلة، وكان حاضرا في فكر ابن خلدون لاحقا، لكنه ظهر في مجتمعاتنا العربية الحديثة مع الحملة الفرنسية التي دشنت علاقات جديدة مع أوروبا، ومع البعثات التي أرسلها محمد علي، حيث تجلى الوعي عند البعض باتجاه التحرر من سلطة الفكر التقليدي الديني، والإعلاء من شأن العقل واستخدام المناهج العلمية.
التنوير الأوروبي في التصور الإسلامي
يظهر من الوقوف على مفهوم التنوير في سياقاته التاريخية من حيث النشأة والدلالة والمضمون، أن فلاسفة التنوير سعوا إلى إحداث قطيعة جذرية مع الدين، كردة فعل على تغول الكنيسة ورجالاتها في الحياة العامة، والاعتماد الكلي على العقل في تفسير الظواهر الكونية والاجتماعية، واكتشاف حقائق الأشياء والتعرف على كنهها.
فكيف ينظر العلماء والمفكرون المسلمون إلى التنوير الأوروبي؟ وهل ثمة ما يمكن الإفادة منه وقبوله وفق التصور الإسلامي؟ استهل الدكتور عايش لبابنة عضو الهيئة التدريسية في قسم الدعوة والإعلام الإسلامي في جامعة اليرموك الأردنية حديثه لـ “عربي 21” بالإشارة إلى أن التنوير مصطلح مترجم وافد، ومن حقنا – كباقي أمم الأرض الأخرى – في المجال الثقافي إخضاع كل وافد وقادم إلينا لمعايير ثقافتنا ومرجعيتنا.
ولفت الدكتور لبابنة إلى أن مصطلح التنوير ليس متداولا في المجال الإسلامي بحمولته الفلسفية الأوروبية، لكن التنوير بمعنى إدخال الناس في أنوار الإيمان وهدايات الإسلام، يعتبر مفهوما إسلاميا أصيلا، مشيرا إلى أن دعاة التنوير في العالم العربي بمفهومه الأوروبي لا يصرحون باعتناقهم له بشكل واضح وصريح، وهم يتوارون خلف مفاهيم الإصلاح الديني والتجديد الإسلامي، ويقدمون مقارباتهم ضمن هذا الإطار.
أما عن موقف الإسلام من التنوير بمفهومه الأوروبي، فلم يتردد الدكتور لبابنة في القول بأن الإسلام يرفضه جملة وتفصيلا والأدلة على ذلك كثيرة ومتوافرة، وهو لا يخشى ممن يطرحه بهذا الوضوح والمباشرة في العالم العربي لوضوح أمره وانكشاف حاله، لكن الخوف ممن يطرحونه متوسلين بدعاوى الإصلاح والتجديد الدينيين متكئين على اطروحة الدكتور محمد إقبال، ورؤى رواد الإصلاح كالشيخ محمد عبده وغيره.
بخصوص المجالات التي يمكن للتنويريين أن يعملوا عليها في العالم العربي، دعا الدكتور عايش إلى ضرورة تفعيل مجالات إصلاح الفكر الديني، وتوسيع آفاق التجديد الإسلامي بمعناه الشرعي الصحيح، مع اعترافه في الوقت نفسه بأن الإسلاميين مقصرون في تسريع وتيرة الإصلاح والتجديد، مؤكدا على ضرورة القيام بذلك بالتوافق مع حاجتنا الذاتية له ومن داخل منظومتنا الإسلامية.
وفي جوابه عن سؤال يتعلق بمضمون التنوير الإسلامي فيما إذا كان دعاته يريدون به تحرير العقل المسلم من إرث التخلف والجمود والتعصب الذي أقعده عن الفاعلية والإنتاج المثمر، هل يكون ذلك مرضيا مقبولا، اعتبر الدكتور لبابنة أن هذا المعنى جيد ومقبول، وأن تفعيل العقل المسلم بتحريره من كل عوامل عجزه وقصوره، واجب ديني وحضاري، من خلال تفعيل آليات الاجتهاد والمواكبة، واستثمار قواعد تغير الفتوى بتغير الزمان، ومرونة الفقه والفكر.
الحالة الإسلامية بحاجة إلى حركة تنويرية إصلاحية
لكن هل يلزم من كون التنوير نشأ في أوروبا ضمن سياقاته التاريخية المعروفة الإعراض عنه بالكلية؟ رفض الدكتور عامر الحافي عضو الهيئة التدريسية بكلية أصول الدين في جامعة آل البيت الأردنية فكرة إهمال تجربة التنوير الأوروبي والإعراض عنها بالكلية، موضحا أن ظهور عصر التنوير في أوروبا مع ما سبقه من حركات مناهضة لمركزية الكنيسة الكاثولكية، لا يعني عدم الاستفادة من تلك التجربة الإنسانية الثرية.
واعتبر الحافي أن أحد أسباب عدم التعلم الحضاري، تلك النظرة التي تنزل المجتمعات غير الإسلامية منزلة النقيض التاريخي والحضاري للإسلام، وهو ما يحول بين المسلمين وبين تعلمهم من الحضارات والثقافات الأخرى.
وتأسيسا على أخذ العبر من القصص القرآني، والسير في الأرض، والتماس الحكمة، فإن مرحلة التنوير الأوروبي تعد حالة خصبة بحسب الدكتور عامر الحافي لا يجوز المرور عليها دون أخذ العبر والدروس منها، مؤكدا أن رفض تجارب الأمم الأخرى بالكلية ليس شرعيا ولا منطقيا لأن التراث الحضاري الإنساني تراث تراكمي، فالأوروبيون أخذوا العقلانية من ابن رشد، وظهر عندهم فيما بعد ما عرف بالتيار الرشدي.
يشير الدكتور الحافي إلى أن التنوير الأوروبي يمكن الاستفادة منه في جانب الإصلاح الديني، إذ إنه لم يكن في بداياته ينحو منحى إحداث قطيعة تامة مع الدين، بل كان تنويرا من داخل الوسط الديني كما في حركة مارتن لوثر، والتي كانت تهدف إلى إصلاح تجاوزات رجال الدين الكنسي، فهي لم تكن ثورة ضد الدين، بل إصلاحية من داخله، لكن فيما بعد نشأت اتجاهات تنويرية اتجهت إلى إحداث قطيعة جذرية مع الدين نفسه.
وفيما يتعلق بالتنوير في المجال الإسلامي، استذكر الحافي جهود رواد المدرسة الإصلاحية كجمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وإلى حد مقارب رفاعة الطهطاوي، الذين اجتهدوا في الإصلاح الديني من داخل البيت الإسلامي، وبنوايا صادقة في الإصلاح والتجديد، لكن مشاريعهم لم تحظ بالقبول المطلوب في الأوساط الإسلامية.
بل على العكس كما لفت إلى ذلك الدكتور الحافي قوبلت بالتشكيك، والطعن في نوايا أصحابها، وتم إقصاؤهم باعتبارهم يشكلون خطرا على الحال الإسلامية، مبديا موافقته على التوصيف القائل بأن الحركة العقلانية الإصلاحية تراجعت لصالح الحركات الإسلامية الإحيائية التي ركزت على الهوية والحاكمية فيما بعد.
هل الحالة الإسلامية بحاجة إلى حركة إصلاحية تنويرية؟ يجيب الدكتور الحافي بقوله بالتأكيد نحن بحاجة إلى ذلك، بصرف النظر عن التسمية (تنوير، إصلاح، تجديد) لكننا بحاجة إلى اتجاه ربما نسميه اتجاها مقاصديا، أو معاصرا، أو حضاريا، لتلبية ذلك الشعور المتنامي في أوساط المثقفين المسلمين الذين يطالبون بضرورة إشباع الخطاب الإسلامي اليوم بأبعاد حضارية وإنسانية أوسع، لإخراجه من طائفيته الخانقة إلى آفاق إيمانية وإنسانية أرحب.
“الإسلاميون التقدميون”: هل هي حالة تنويرية؟
قد تكون من التجليات العملية لفكرة التنوير والإصلاح والتجديد في المجال الإسلامي المعاصر ذلك الاتجاه الذي نشأ وتشكل في تونس، وانشق عن الجماعة الإسلامية بزعامة الشيخين راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو، وقد عبر عن أفكار ذلك الاتجاه ورؤاه أحد أبرز رموزه صلاح الدين الجورشي في كتابه “التقدميون الإسلاميون”، فمن هم؟ وما هي رؤيتهم ومنطلقاتهم؟
الإسلاميون التقدميون: هم تيار إسلامي عقلاني الاتجاه، اشتغل في أوساط الجماعة الإسلامية في تونس منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي في المساجد والجامعات والمعاهد التربوية بحسب الدكتور صبري محمد خليل، أستاذ الفلسفة بجامعة الخرطوم في بحثه “اليسار الإسلامي: مذاهبه ومفاهيمه والمواقف المتعددة منه”.
يحدد الدكتور صبري جوهر اختلاف الإسلاميين التقدميين مع قادة الجماعة الإسلامية في تونس بقوله: “وعندما قرر راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو تحويل الجماعة الإسلامية إلى حركة الاتجاه الإسلامي في بداية الثمانينيات عارض الإسلاميون التقدميون وعلى رأسهم احميدة النيفر، وصلاح الدين الجورشي، وزياد كريشان وأصروا على الاستمرار في خطهم الإسلامي ضمن رؤيتهم الثقافية والفكرية والعقلانية.
أما عن رؤية الإسلاميين التقدميين فيصفها الدكتور صبري بأنها تقوم على فكرة تجديد الإسلام وطرح كل الأشواب التي علقت به فقهيا وعقائديا وأصوليا وغير ذلك، وذهبت تلك الجماعة إلى حد القول بجواز تعطيل الثوابت عندما تكون هناك ضرورة إلى ذلك. وكانوا يركزون على العقل أكثر من تركيزهم على النص.
يشرح الدكتور صبري طبيعة الثورة الثقافية التي دعا إليها الإسلاميون التقدميون، بأنها تتمثل في دعوتهم إلى فهم جديد للدين، وبحسب أحد أقطاب ذلك التيار احميدة النيفر فإن المسألة السياسية مسألة هامة ولكنها لم تعد لها الأولوية، لأن مشكلة إعادة قراءة الفكر الديني أصبحت تحتل المركز الأول.
لكن ما هو منهجهم في التجديد الثقافي الإسلامي؟ يحدد الإسلاميون التقدميون منهجهم بأنه يقوم على اعتماد العقل وسيلة في فهم النصوص المقدسة من كتاب وسنة دون الوقوع في الحرفية والنصية. وبالاعتماد على الاجتهاد كمنهج من أجل تحقيق التجديد المنشود.
مدى صلاحية التنوير لإنجاز المشروع الحضاري
ترتكز اطروحة دعاة التنوير الإسلامي على تفعيل العقل في ميادين الإصلاح والتجديد الدينيين، لكنها من وجهة نظر الكاتب والباحث الأردني سامر خير (مؤلف كتاب “الماضوية.. الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام” محكومة بانشدادها واستنجادها الدائم بالنموذج الماضوي “السلفي” بمعناه العام الذي تشترك بالتشبث به جميع الحركات والجماعات الإسلامية بصرف النظر عن قراءتها ومناهجها المختلفة والمتباينة، وهو في المحصلة النهائية غير قادرة على إنجاز المشروع النهضوي الحضاري المنشود.
ولأن القضية برمتها وفق سامر خير ترجع إلى البعد الحضاري ولا علاقة لها بالبعد الفقهي، فهو ليس من أنصار التنوير أو التجديد أو الإصلاح والتطوير من داخل النموذج الماضي، وإنما يدعو إلى تجاوزه بالكامل لأنه ليس هو النموذج الصالح لكل زمان ومكان، ويستدرك قائلا بأن توصيفه ذاك لا يخص حالة الإسلاميين فقط، بل يشمل العلمانيين واليساريين وسائر الاتجاهات الفكرية الأخرى، كمشكلة عامة في الثقافة العربية وهي الاستنجاد الدائم بالنموذج، ففي الوقت الذي يستقي فيه الإسلاميون نموذجهم من زمان آخر، فإن العلمانيين يستقون نموذجهم من مكان آخر.
لكن ما هي الرؤية البديلة التي يقدمها سامر خير؟ بعد تأكيده على انطلاقه من قلب التفكير الإسلامي، نبه إلى أننا لسنا بحاجة إلى اختراع العجلة، فالمشروع النهضوي العربي تأسس أصلا على فكرة نهضوية تستند إلى الإسلام على أيدي الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي، الذي كان إماما للبعثة الذي ذهبت إلى فرنسا، فالمشروع النهضوي العربي كان يتحدث عن المجتمع الديمقراطي، والدولة المدنية، والحريات، والشكل الحديث عن تراتبية الدولة، لكنه توقف وتم تعطيله بعد الغزو الاستعماري.
يطرح الكاتب والباحث الأردني فكرة كليه يمكن الانطلاق منها، أسماها “البراغماتية على أساس ثابت” فالإسلام هو الأساس الثابت، مع رفض وجود نموذج ناجز (الماضوي) نريد تطبيقه بحذافيره، أو ندخل عليه بعض التعديلات تحت مسمى التجديد أو التنوير، مع فتح الباب على مصراعيه للتطبيقات المتناسبة مع العصر، كجملة الأفكار الحديثة، كالتعددية واحترام الآخر، والتنوع داخل المجتمع الواحد، والمواطنة، وحقوق الإنسان، والإخاء والمساواة، باعتبارها أفكارا بنت زمانها، ولا حاجة إلى التماس مشروعيتها من الماضي.
___________
*المصدر: عربي 21.