كثيراً ما كانت علاقة العالم العربي بعصر التنوير ملتسبةً؛ حيث تقاطعت مع الرواية الاستعمارية التي جعلت من التنوير عنصر تعال للرجل الأبيض على بقية شعوب العالم. كانت هذه الرواية الاستعمارية أساساً من إبداع مفكرين وأدباء فرنسيين وإنكليز، غير أن التنوير الأوروبي كان له بعدٌ ألماني لم يتقاطع مع البلاد العربية من خلال الاستعمار، فكيف يمكن مقاربة هذا البعد من خارج السياق الذي تقبّل به العالم العربي إلى اليوم التنوير؟
“الحركة التنويرية الألمانية” عنوان محاضرة ألقاها الباحث والمترجم التونسي منير الفندري، أول أمس، في مؤسسة “بيت الحكمة” في مقرها بقرطاح بالقرب من تونس العاصمة، حيث حاول إضاءة خصوصية التنوير الألماني مقارنة بالتنوير الفرنسي خصوصاً.
ينطلق فندري من توضيح أهم ملامح عصر التنوير باعتباره محاولة لإرساء مكانة للإنسان في العالم بعيداً عن المنطق الغيبي، وتحريره من القصور الذي تفرضه السلط بمختلف أنواعها. يرى فندري أن تسمية التنوير في اللغة الألمانية Aufklarung تتيح أفقاً للمفهوم لا يتوفر في اللغات الأخرى فإضافة إلى معنى التنوير تنطوي الكلمة على معاني التوضيح وجعل الأمور أبسط.
على المستوى التاريخي، يلاحظ فندري أن القرن الثامن عشر في ألمانيا تميّز بالتزام المثقفين بالرؤية الإنسانوية، والتي تمخّضت عن تعطّش للمعرفة من أجل فهم العالم وتحوّلات المجتمع.
وفي هذه الفترة تميّز الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط بمحاولته للإجابة عن سؤال: “ما هو التنوير؟”، وهو سؤال كان مطروحاً على مجمل النخبة الألمانية، حيث كتب أيضاً مويز مندلسون محاولة للإجابة عن هذا السؤال. يمكن الإشارة هنا أن مفكري التنوير الفرنسيين وعلى الرغم من رياديتهم لم تكن لهم محاولات في تفسير الظاهرة أو وضعها في سياق تاريخي.
يحاول المترجم التونسي لاحقاً إضاءة علاقة التنوير الألماني بالثقافة العربية، وهي مسألة يقر بأنها من الصعوبة، وهو الذي يشتغل على هذا الموضوع منذ سنوات. يرى الفندري أن المنطقة العربية كانت في ذلك الزمن محكومة بصورة متوارثة عنه منذ القرون الوسطى تربطها بالبربرية، وهو ما يعنى وجود حكم مسبق، سلبي بالضرورة، حول المنطقة، وما سيظهر عند هيغل مثلاً حين اعتبر غزو فرنسا للجزائر “بديهية منطقية” لمسار التاريخ، معتبراً انطلاقاً من دروسه في فلسفة التاريخ أن شمال أفريقيا إنما هي منطقة تتبع أوروبا في الأصل، على اعتبار أن قرطاج تمثّل عاصمة الثقافة الرومانية في العصور القديمة خارج القارة الأوروبية.
_______
*العربي الجديد