حريَّة الفرد في الإسلام، أي قراءة وأي تجديد متاح؟
الموضوع الذي أريد مناقشته، هو موضوع الحرّيّات الفرديَّة بالعموم، هل هناك حرّيّات فرديَّة في الإسلام؟ كيف يمكن الملاءمة والمواءمة بين هذا الموضوع وبين المحافظة على الهويَّة، الخصائص المحلّيَّة. كما تعلمون هذا نقاش كبير، وهو نقاش يثير حساسيَّة في كثير من المجتمعات الإسلاميَّة، وأنا برأيي أنَّ هذه الحساسيَّة الموجودة هي أمر طبيعي بحكم أنّ هذا النقاش، نقاش الحرّيّات الفرديَّة ليس نقاشا أصيلاً داخل المجتمعات الإسلاميَّة، ولا في التاريخ الإسلامي.
صحيح أنّنا نتحدّث بعموميّات عن مفهوم الحرّيّات في الإسلام، عن حقوق الفرد في الإسلام لكن هذه غير مرتبطة بالنقاش الدائر اليوم، الذي هو نقاش الحريّات الفرديَّة، لأن نقاش الحريّات الفرديَّة برأيي هو نقاش حديث، تاريخه التداولي محدود وضعيف وهو مرتبط كل الارتباط بانتصار الليبرالية وتراجع مفاهيم الالتزام السلوكي والفكري، وتراجع مفاهيم الالتزام السلوكي والفكري وتراجع المدرسة الماركسيَّة بشكلٍ عام. وبالتالي، فإن هذا النقاش، ورغم أنَّه مطروح اليوم وبقوَّة داخل المجتمعات الإسلاميَّة، إلا أنّه فيه قدر كبير جدا من التأثُّر بالآخر.
النقطة الثانية التي أريد طرحها في المدخل، هو إن إشكاليَّة الحرّيّات الفرديَّة وموضوع الحرّيّات الفرديَّة، المطروح اليوم داخل مجتمعاتنا الإسلاميَّة هو ليس إشكالا دينيّا محضا، نعم فيه جزء لا بأس فيه من الإشكال الديني، لكن يجب أن نستحضر أيضا في النقاش حول هذا الموضوع إشكالات أخرى وأهمها الإشكال الثقافي، والصراع الحقوقي بين سلطة الفرد وسلطة الجماعة. هذه لها تأثير كبير على القضيَّة، أيضا الإشكال السياسي حيث انتقال مجتمعاتنا من دول تقليديَّة سلطانيَّة إلى منطق الدولة الحديثة وإلى منطق الدولة العصريَّة وإلى منطق مفهوم المواطنة، وبمفهوم الدولة الحديثة وأيضا يورث هذه الإشكاليّات المتعلّقة بالحرّيّات الفرديَّة.
ثمّ الإشكال الديني ولا شك القراءات الدينيَّة المجحفة أحيانا أيضا تتدخل بشكل سلبي في هذا الموضوع، ومن يراجع ما كتب في هذا الموضوع خلال الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة من منظورٍ إسلامي يجد أن الموضوع فعلا ضيِّق جدا إلى أبعد الحدود، وأنّه يحتاج إلى تجديد.
وهذا هو السؤال الذي طرحته: هل نحن في حاجةٍ إلى فهمٍ جديد، هل نحن بحاجةٍ إلى تجديد الفهم بخصوص هذه القضيَّة؛ قضيَّة الحرّيّات الفرديَّة؟ أنا برأيي، الجواب بشكلٍ مباشر هو نعم، وأننا فعلا نحتاج إلى هذا التجديد، ونحتاج إلى هذه القراءة الجديدة لعدّة أسباب.
السبب الأول في نظري، هو أنها سلطة الجماعة داخل المجتمعات، أو على الأقل هو تراجع سلطة الجماعة داخل المجتمعات الإسلاميَّة نحن نعرف أنَّ الإسلام في بداياته تأسَّس على هذا المفهوم، مفهوم الجماعة، وقد لا يكون ذلك لاعتبارات دينيَّة، قد يكون لاعتبارات سياسيَّة أو لاعتبارات سوسيولوجيَّة، بحكم أن الإسلام قد نشأ في منطقة صحراء، في منطقة فيها خلاء كبير، الفرد لا يشعر فيها بالخطر ويعوزه الأمان أو الملاذ، وكانت الجماعة ضروريَّة في ذلك الوقت، وكان قيام الدولة الإسلاميَّة في تلك الظروف مرتبطا بالجماعة، وطبعا وظّفت الجماعة في كثير من الصراعات السياسيَّة وفي كثير من الاستقواء على الخصوم وتأسّست الجماعة السنّة والجماعة الخارجون على الجماعة إلى غير ذلك. في أغلب فترات التاريخ الإسلامي طبعتها سلطة الجماعة بالتالي لم يكن المجال مناسبا للحديث عن حقوق الفرد، ولا عن الحريَّة الفرديَّة ولا عن حرّيَّة تصرّف الفرد فيما يريد أن يفعل بما يفكّر فيه.
لكن لماذا نحن اليوم بحاجة إلى هذا التجديد؟ لأنه يجب أن نعي أن هناك تحوّلات مجتمعيَّة عميقة جدا داخل المجتمعات الإسلاميَّة، وأننا في مجتمعاتنا نحن اليوم نتّجه بوعي أو بدون وعي نحو الفردانيَّة ونحو التفكير الفرد، وهناك مؤشّرات عديدة تجعلنا نقرّ بهذه التحوّلات التي تقع داخل المجتمعات والتي ينبغي أخذها بعين الاعتبار، هذا التوجّه نحو التفكير الفرداني، النمو الحضري غير المسبوق، تغلغل المدنيّة داخل هذه المجتمعات، اتّساع الفضاءات الاجتماعيَّة الفردانيَّة حتى على مستوى السكن، العمارات، الشقق المستقلَّة التي ينفرد فيها الشخص بنفسه وأسرته، هذا التراجع الكبير للأسرة والقبيلة انهيار الكثير من المنظومات الثقافيَّة داخل المجتمع. دور الحي والأسرة والحارة والمدينة؛ كل هذه القيم الاجتماعيَّة التي كانت في وقتٍ سابق، هي اليوم في طريقها إلى التراجع وقد تكون في طريقها إلى الانهيار، لكن أيضا الغزو الليبرالي لمجتمعاتنا التي أصبحت بشكل ما بوعي أو بدون وعي مجتمعات ليبراليَّة مع ظهور العولمة وتوابعها.
هذه الثقافة الفردانيَّة التي أصبحت شائعة اليوم، برأيي أنها تعطي نوعاً من الاستعداد الفكري والسوسيولوجي لتقبّل الحرّيّات الفرديَّة، حتى أنَّ كثيرين من الذين كانوا يعارضون الحديث عن هذا الموضوع إلى وقتٍ قريبٍ اليوم أصبحوا يناقشونه مع ما تعرفه أنظمتنا السياسيَّة من التوظيف السياسي في بعض القضايا لهذا الموضوع، فأصبحت ترى حتى الذين كانوا يعارضون الحديث عن هذا الموضوع أو النقاش فيه بحجّة أنه يتعارض مع الهويَّة ويتعارض مع الشريعة الإسلاميَّة، عندما تعرضوا في بعض تصرفاتهم الفرديَّة إلى اختراق خصوصيّاتهم وتوظيفها في حلبات الصراع السياسي، أصبحوا هم اليوم أيضا يتحدّثون عن الحرّيّات الفرديَّة، ولذلك أرى أنّ الحديث اليوم عن الحرّيّات الفرديَّة داخل المجتمعات الإسلاميَّة هو ليس حديثا غريبا، وإن كان كما قلت سابقا هو ليس أصيلا في المجتمعات الإسلاميَّة، لكن الواقع اليوم يفرض الحديث عنه بحكم أنه أحد التمثّلات المجتمعيَّة أو الانتقال المجتمعي الذي تعرفه بلادنا.
مما يساعد أيضا على قراءة جديدة لهذا الموضوع هو هذه القراءات التنويريَّة الجديدة التي نتحدّث عنها اليوم، لأنّه كان سابقا حين أُقبرت مشاريع الإصلاح الديني التي تحدّث عنها الأساتذة قبلي. وطغت قراءة معيّنة على المشهد واحتكرت الدين والتصوّرات الدينيَّة حتى لم يكن هناك أي مجال للحديث عن هذا الموضوع، وكان الحديث عنه كأنه دعوة إلى الإباحيَّة، أو كأنه دعوة إلى الانحلال، لكن اليوم مع ازدهار الكثير من القراءات التنويريَّة وكثير من القراءات المعاصرة، أظن أنّ هذا الموضوع أيضا يجب أن يأخذ نصيبا من الاهتمام بحكم أنّه يتعلّق بالحرّيَّة التي نقول هي أساس الرسالات السماويَّة، وممّا يساعد على هذا الأمر، أنّه بالفعل عند العودة إلى التراث الإسلامي والعودة إلى الكثير من القواعد الفقهيَّة نجد أنّ الأمر ممكن، وأنّنا نستطيع من داخل النسق الديني ومن داخل القراءة الدينيَّة أن نؤصِّل أو نؤسّس لهذا المفهوم، رغم أنه كما قلنا ليس مفهوما أصيلا في التاريخ الإسلامي، ولكن في هذه القراءات التي تعمل على المواءمة بين التاريخ والواقع بين مستجدّات العصر وبين الدين نستطيع أن نجد حتى داخل هذا التراث الإسلامي وحتى داخل هذا التراث الإسلامي وحتى داخل الفقه الإسلامي ما يساعد على هذا الأمر، ولا أريد الدخول في تفاصيل هذا التأصيل أو التأسيس لكن هناك قواعد فقهيَّة معروفة تؤسّس لهذه الحريّات، الشارع متشوّف للحريَّة، هذه قاعدة فقهيَّة “الأصل في الأشياء الإباحة”، الإكراه يسقط أثر التصرفات.
وهذه دعوة لدراسة هذا الموضوع داخل النسق الإسلامي وبالأدوات الإسلاميَّة بما يتوافق وهذه التحوّلات التي تعرفها المجتمعات اليوم.
باختصار برأيي الشخصي، ما ينبغي مراعاته ونحن نتحدّث عن هذا الموضوع، أن نراعي هويَّة هذه المجتمعات وعدم التصادم معها، ولا بد أن نراعي السياق أيضا، وأن نأخذ بالحسبان أنه رغم كل هذه التحولات الاجتماعيَّة التي تعرفها هذه المجتمعات، إلا أنّ ما يسمّيه بعض المفكّرين بالتقليديَّة الجماعاتيَّة لا زال لها دورها داخل المجتمع. نحن لسنا مجتمعات متحرِّرة كل التحرّر، هي كما أقول مجتمعات تتّجه نحو الفردانيَّة، لكن لا زال الكثير من البنية الاجتماعيَّة لا تستطيع تقبّل هذا المفهوم، لا تستطيع أن تتحمّله وتجد نفسها معنيَّة بتصرّفات الآخر. وتعتبر أنّ لديها الحقّ كي تتدخّل في سلوكيّات الآخر، في أن تراقب سلوكيّات الآخر، ونحتاج بالطبع إلى وقت لتغيير مثل هذه الذهنيَّة، لذا يجب مراعاة هذا الأمر.
كذلك ممّا ينبغي مراعاته في هذا الباب، وهي قضيَّة غير مرتبطة بالحرّيّات الفرديَّة فقط، بل مرتبطة بعدد من القضايا المطروحة اليوم، وهي المصالحة بين التاريخ وبين الدين؛ لأن النسخة التي تحدّث عنها الأساتذة قبلي، فرضت نفسها على المشهد، وخلقت نوعاً من الصدام بين التاريخ وبين الدين، وهو نوع من الصراع الذي يمكن حلّه بحكم أنّ الدين يحاول أن يبسط سيطرته المطلقة من منطلقات تحاول أن تهيمن على المجتمع خارج الزمان والمكان مع التاريخ الذي هو محدود بالزمان ومحدود بالمكان ويحاول في كل فترة التملّص من هذه الهيمنة، فلا بد في هذا الموضوع وفي غيره أن نحاول خلق نوع من المصالحة بحيث يعيد الدين إنتاج نفسه مرة أخرى للخروج بقوالب متصالحة مع التاريخ ومع متغيّرات الزمان والمكان، وبالتالي نحاول التأسيس لعلاقة راشدة تتجاوز ضيق زمن التنزيل واللحظات التي نزل فيها الوعي إلى إعادة إنتاج الإسلام بذاته بما يفصل بين الثابت في الإسلام والمتحوّل منه.
في الأخير، ما أود قوله، هو أنّ المجتمعات الإسلاميَّة اليوم، يعيش فيها الفرد بشكل من أشكال التمزّق، بحكم أنّ هذه المجتمعات تتجه شئنا أم أبينا نحو نموذج ليبرالي فرداني دون وجود تصوّر ثقافي فرداني عند الأفراد أنفسهم ولا داخل المؤسّسات التعليميَّة التي لا تزال حتى اليوم تطغى فيها صورة الجماعة، وهذا برأيي يقتضي من الفاعلين بهذا المجال من تربويّين وحركات توعويَّة تشتغل في هذا المجال أن تبتعد في تنشئتها التربويَّة عن ما يسمى القيم الجماعاتيّة وأن تقوم التربية اليوم على استراتيجيّات تنطلق من الفرد وتنتهي إلى الفرد، لأنّ معاكسة التطوّرات التاريخيَّة التي نعرفها اليوم والتحوّلات الاجتماعيَّة المتّجهة نحو الفردانيَّة والتشبّث بالتربية التقليديَّة على القيم الجماعاتية، ستفقد الأجيال القادمة المرجعيّات الأخلاقيَّة الضروريَّة لضبط السلوك والضمير الفرداني.
__________
* ألقيت ضمن فقرة الندوات الفكرية خلال الاجتماع السنوي الرابع للرابطة العربية للتربويين التنويريين الذي عقد في عمّان الأردن، بتاريخ 23 نوفمبر 2019.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.