أنا سيدة عصريَّة، سافرت إلى شتى مدن العالم وقضيت حياتي بالعلم وحصلت على شهادة الدكتوراه، وسعيت من أجل حقوق الإنسان.. وأحبّ ما تقدمه لي الحياة العصريَّة من أساسيات وكماليات، كما أحبّ ما تقدّمه المدنيَّة من حرّيّات واستقلاليَّة في التفكير وفرص العلم والعمل.
بالوقت نفسه أنا سيدة متديِّنة، أحبُّ الدين الذي هدانا الله تعالى إليه وكرّمنا به، وإيماني هو الذي يعطيني دوماً صفاء النفس ووضوح البصيرة. أمارس الفرائض الدينيَّة، والحمد لله منذ العقد الأول من عمري، ولغاية الآن، لتصبح جزءاً مني.
كم أتمنى أن يتّفق “المدنيّون” و”المتديّنون” على المشتركات الإنسانيَّة التي تجمع كل البشريَّة… هذه المشتركات تتمثَّل بكرامة البشر وحياتهم وصحّتهم، التي يجب أن تعلو على مصالح الشركات التجاريَّة والأحزاب السياسيَّة والدينيَّة والمصالح الشخصيَّة للقادة.
لم يجلب “المتديّنون” ممن وصلوا إلى السلطة ولا حتى “المدنيّون” السعادة والحياة الكريمة للبشريَّة. فباسم كليهما تنتهك الإنسانيَّة يوميّاً. ومن المدنيَّة ورديفتها العلمانيَّة رأينا ونرى الظلم والتمييز والأفضليَّة لأصحاب الحكم- الأنظمة العلمانيَّة الشموليَّة في دول العالم الثالث مثالا-وهناك أيضاً هدر لحقوق الإنسان في العديد من الدول المتحضِّرة الديمقراطيَّة، الاعتقالات والتعذيب مثالا في الدول الغربيَّة، خصوصاً بعد أحداث أيلول 2011، وتلوث البيئة طوال عقود السبعينات والثمانينات في الدول الغربيَّة، وتمادي الشركات العملاقة لتحقيق مصالحها على حساب الأفراد وغير ذلك. واليوم باسم الدين تنتهك “الأحزاب الدينيَّة” الحقوق، فيما يتصاعد القتل والإرهاب ويسقط أبرياء في الأسواق والساحات العامّة ودور العبادة، وحرمان المرأة من إنسانيتها، والزواج القسري للقاصرات. عليه يصعب لوم من ينتقد الدين ويرفضه بسبب ما يجري باسم الدين، ويصعب لوم من يرفض المدنيَّة وسلطة الأمر الواقع التي انبثقت منها، أي ما يعرف باللغة الإنكليزية status quo لأنها لا تسمن ولا تغني من جوع.
في عالمنا يتصارع اليوم “الدين” مع “المدنية” وينتقص أحدهما من الآخر باستمرار، ولكن تبقى القيم والأخلاق وهي الفيصل لكل ما يجري من حولنا. فلو أن كل عائلة علَّمت أبناءها أخلاق التسامح والصدق والصبر والإخلاص سيسمو مجتمعنا ويصل إلى الرقي.
ربما يجدر أن أقول للاثنين “الدين والمدنية” أن يدركا أن الأوضاع المتردية في مناطق مختلفة من العالم ستنتج مجموعة من البشر مشوّهة سلوكيا. فعندما يتعرَّض الأطفال إلى الفقر والحرمان والعنف والإهمال سينشأون في منظومة فكريَّة وقيميَّة مشوّهة ومريضة. وقد بيَّنت البحوث العلميَّة في العلوم العصبيَّة أنَّ ما يتعرَّض له الصغار في أوّل مراحل حياتهم له الأثر الكبير على تكوين تفكيرهم وقدراتهم الذهنية والمعرفيَّة والعاطفيَّة.
المدنيَّة بحاجة إلى قيم، فنرى اليوم أنَّ الطب والعلم وهما من أنصع مقوّمات الحداثة والمدنيَّة ما زالا يلجآن إلى الدين لتدارك القضايا الصعبة والإشكاليَّة التي تواجهها، الموت الرحيم مثالا euthanasia، وكذلك قضيَّة الإجهاض، فهذان الموضوعان يمثّلان قمّة الجدل والنقاش في الدول غير الدينيَّة أي العلمانيَّة الغربيَّة. وعندما تفشل المدنيَّة في علاج مرض أو منع عمل إرهابي ما يصيب الناس بالأذى، تقف عاجزة وتستحضر الدين لكي يخفِّف الألم ويبقى بصيصاً من الأمل.
الأديان-بشكلها النموذجي- تتأقلم مع المدنيَّة بحكم كون المدنيَّة هي الساحة التي تمارس فيها الأديان. فالأديان تدعو أتباعها دوماً إلى أنَّ العبادات لا تكتمل إلا بالعمل الصالح وخدمة الآخر، ومن دون العمل الصالح ينتفي المجتمع.. وهذه قمَّة المدنيَّة.