لفتت إنجازات علم النفس الحديث إلى حقيقة وهي أنَّ إحدى سمات الطبيعة البشريَّة تتمثَّل في السعي إلى امتلاك السلطة. وهنا تبرز أمامنا جملة أسئلة أهمها: هل ممارسة السلطة السياسية عبر التاريخ تتبلور دوما بصيغة هيمنة أو سيطرة الإنسان على أخيه الإنسان، وهل كان ذلك من خلال الكولونيالية باسم التحرير، أو من خلال إمبراطوريات بذريعة الالتزام الحضاري؟
من الواضح أن الهيمنة على وجه الخصوص تعبر عن سلطتها وبأشكال مختلفة أبرزها حق تأويل النصوص المقدسة. ففي طبيعة هذا المنطق تعتمد السلطة السياسية، كونها دينية، على نحو افتراضي، على عملية نظر داخلية تبقي على سيطرتها، وإذا كانت تمنع ما يمنحها البقاء والدينامية.
المشكل أن تلك الهيمنة لا يمكن بلوغها دون عنف، الذي يعتبر رديفا للسيطرة، ويتعذر فصله عن لعبة السياسة نفسها، ما يؤدي إلى ثقافة الإخضاع التي لن تكون قادرة على رؤية حقائق جديدة أو تمثل أفكارا مغايرة. ولعل ما بوسع ثقافة كهذه هي عملية الاستجابة عقليا لمتطلبات التغيير والواقع المتحرك، ثم أن الهيمنة لا تزال مشبعة بفكرة استبعاد واستعباد الآخر، إلى جانب حث نفسي حال دون تكوين شخصيات مهمتها السيطرة على الآخرين نفسيا وعقليا بغية تأمين وجودها في السلطة والشعور بالتفوق والقوة، الأمر الذي يتطلب بالتالي توظيف العنف.
وبدعوى أيديولوجية تدعى أن ليس ثمة مكان للآخر في عالم براغماتي، تاريخيا، فإما يتلاشى أو ينضوي في ذات المعتقد، لذا لا غرابة أن نجد هذا العنف جماعياً وكونياً، بمعنى أنه عشوائي ويطال الجميع، فهو يسعى إلى إنتاج خوف جماعي يقصد إخضاع الآخر، بمعنى آخر أن التشدد ه محاولة السيطرة التامة لتحقيق رغبات الذات الداخلية في تملك القوة باسم الدين، ويتم ذلك مع زيادة جهل وأمية الشعوب الإسلامية فضلا عن قلة مدينيتها عندئذ أصبح الهلاك هو الرمز، والعدمية هي الشعار، أو الانتحار هو البطولة، ما يجعل الانقراض حقيقة والوجود خيالا… اختصارا جنة الفوضى.
هذه المفاهيم والممارسات القائمة على قراءة حرفية وقروسطية مدعمة كالعادة بدمغة المصادقة الدينية، هي في تضاد تام مع المفاهيم القرآنية. إذ تتركز غاية الإسلام على الإنسان وإرادته الحرة باعتباره خليفة الله في الدنيا (وليس الآخرة) ما يتطلب منه البناء والتمكين لإعطاء معنى لوجوده وجماعته وبالتالي معنى للحياة.
نظرة الإسلام هذه إنسانية خصوصا الآية الكريمة ” وكرمنا بني آدم” وكما تذكر المصادر التاريخية أن سجناء معركة بدر كانوا موقوفين في جامع المدينة، ولا أعلم كيف أصبح بعض المسلمين أو غير المسلمين، في يومنا نجد في الثقافة الفقهية على سبيل المثال. فالكرامة الآدمية الإنسان تعني بالأساس إنسانيته قبل كل شيء، أي قيمة الإنسان من جانب، وبكفاءته وخبرته من جانبٍ آخر.
ودعوة القرآن للتعددية (الدينية والثقافية وغيرهما) عبر آياته الصريحة سياق التنوع ما هو إلا دعم لقيمة الإنسان وضد إلغاء الآخر. وفي هذا السياق نلاحظ أن النص القرآني يخلو من تركيبة السلطة التي تراها أحيانا في النص الفقهي مثالا لا حصرا، لأن الفقه إنتاج الإنسان وهو انعكاس لذات الإنسان الباحث عن القوة والسلطة. والتركيز هنا على ضمانات تقي إنسانية الإنسان التي تعتبر هدف الإسلام السامي.
ودعوة القرآن للعقل والتعقل، المميز للإنسان عن غيره من المخلوقات، وقدرته على الحوار، المجسد لجوهر الحياة، والأهم من ذلك قيمة التحضر على أساس الاختلاف، إثبات صريح لمدنية القرآن. وتطوير الكفاءة والعطاء والخبرة والحوار والوفاق لذات الإنسان، تعتبر من المهمات الأساسية بالإمكان تنضيجها لتقدم إغناء لاحتياجات الدائرة الأكبر، الشأن العام، أي عملية وعي بالوواقع المجتمعي والسير به نحو الأفضل، على اعتبار أن كرامة الإنسان وقيمته كأولوية للعمل في الدائرة الفردية أولا، ثم تغيير المجتمع تاليا، عبر المعرفة والوعي كقاسم مشترك للجميع، ومن هنا تأتي الكلمة في النص القرآني كأساس مهم، بغية صياغة جدوى الحياة، وانسجامها مع قيم مقاومة الظلم.
طروحات وقيم القرآن واضحة بشكل لا يقبل التأويل فيما يخص قتل النفس البريئة أو الانتحار تحت ذريعة الشهادة، إذ تنهى عن العدوان والظلم والقتل “وإن تعفو أقرب إلى التقوى… و”من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً..”.
كل هذه الآيات وغيرها الكثير توحي بقدسية الحياة وإن كانت دار عبور أو مرحلة اتصال. فالدعوة يجب أن تكون لقدسية الحياة وصيانة كرامة النفس البشرية بغض النظر عن لونها ودينها وإثنيتها.