يبدأ الفيلم بمشهد صارخ يحمل كل المتناقضات، الموت والحياة معا، فها هو الصحفي الخمسيني يودّع زوجته المطلَّة من شرفة منزلها، يركب سيارته والشارع يعج بكل مظاهر البهجة والحياة، فها هم أطفال يلعبون في أحد شوارع إسطنبول. وإذ يروعك فجأة صوت انفجار مدوٍ يودي بحياة الرجل وهو في سيارته، دون أن يقول الحقيقة في الأمر إنه غير معلوم” بأي ذنب قتل”. وكان ذعر الأطفال الملحوظ يعلن عن موت للحياة بوجود العنف غير المبرر.
“خمس مآذن بنيويورك” … فيلم يستعرض قصة ضابطين تركيين قدما من إسطنبول إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن دل أحدهما على الإرهابي الخطير أو ما أسموه بـ” الدجال” واسمه المتداول هو “حاجي جوميز” وتهمته أنه هو المسؤول والمدبر الأول عن كل عمليات القتل والدمار باسطنبول وخارجها. ويذكر أنّ هذا الضابط الذي دل على “حاجي جوميز” يدعى الضابط فرات وصل إليه بعد أن انخرط وسط إحدى الجماعات المسلّحة. وبعد أحداث مثيرة من الكر والفر، تدور ما بين نيويورك وإسطنبول، يتضح للمشاهد براءة “حاجي جوميز” وأنه ليس بـ”الدجال” المزعوم، بل إنه على النقيض تماما، فهو رمز للاعتدال ولسماحة الإسلام كما حملته القيم القرآنية. ولكن لم يزج اسم “حاجي” إلا من خلال هذا الضابط “فرات” بتضليله للعدالة، وذلك انتقاما لأبيه حيث يظن أن حاجي هو من قتل والده وهرب إلى الولايات المتحدة، فأراد أن يأتي به إلى تبليس بتركيا مسقط رأسه حتى يأخذ بثأر أبيه، وعليه فقد اتهمه بأنه هو الدجال لينتقم لثأر أبيه، فغاب العدل عن رجل العدالة الذي يحارب من أجل التخلص من الإرهاب وهو بداخله جذوته. وأغشت بصيرته نار الثأر ووهم القصاص، ولكن سماحة الرجل “حاجي جوميز” غيرت من قلب وعقل الضابط وتراجع عن اعتقاده السابق بأنه قاتل أبيه، وذلك بعد أن ساعده على إظهار براءته.
الآخر …وثلاثة وجوه
نتعرض في هذا العمل لثلاث طوائف تؤكد حدة قتامة المشهد الاجتماعي، فهو يبرز أفكارا ثلاثة وأثرها على المجتمع.
فهناك وجه المتطرف الذي يسعى في الأرض فساداً باسم الدين ومن داخل عباءته ويقتل دما حراماً تحت مظلة الجهاد، بل ويؤصلون لكل ما هو عنيف ويربطونه بالإسلام ويكرسون لمفاهيم القتل والموت. فحسب معتقدهم الذي جاء على لسان “دجالهم”: ” أن أي شخص يقول إن لا مكان للعنف في دين الإسلام فهو كافر ومنافق ولا يعرف معنى الجهاد، فمن أجل ضمان استمرار الإسلام يجب أن نكون مستعدين دائما للعذاب والحرب والشهادة، فالشهادة في سبيل الله ليس موتا، بل خلودا، فهم يقتتلون باسم الله وهم جنوده”.
والملفت هنا أنهم وكما جاء في مشهد قتلهم لأحد الضباط الذين وشوا بهم وأبلغ عن هويتهم للسلطات التركية، بأنهم يقتلون أهلهم ناعتينهم بالكفر، حتى تتحرر فلسطين والعراق وأفغانستان..! وبطبيعة الحال كل من لا يتعاون معهم هم عملاء وخونة.
وهناك وجه آخر باهت الملامح رغم قوة عقيدته، هم أعضاء الجماعات الصوفية الذين يفهمون الحق والعدل والخير والمحبة ولكنهم لا يتقنون إلا مشاهدة الأمر من بعيد. ويفضلون الدوران في حلقات ذكرهم منعزلين بها عن الواقع والمجتمع من حولهم، يخالون أن بدورانهم وبكائهم وصفاء قلوبهم مهما كان خالصا سيصلح من الأمر أو يغير منه شيئا. ففي مشهد غاية في التأثر يظهر فيه شيخ في إحدى حلقات الذكر والوعظ وهو يدعو ويردد مريدوه ويطالبون القتلة باكين بالرحمة بالأطفال وبالنساء وكل الأبرياء بصوتٍ عالٍ: الرحمة.. الرحمة. ولكن الصوت مهما ارتفع فهم لا يخاطبون إلا أنفسهم، بل تعدّى الأمر ذلك بمساعدتهم من هم خارج الوطن، من الفلسطينيين -رغم نبل قضيتهم- ويعاونون الشباب القوميين في مواجهة العلمانية والإمبريالية والصهيونية في حين أن الجهة التي تنتظر معالجتها هي الجبهة التي تتاجر باسم الدين وتقتل الأبرياء وتكرس لمعنى الموت والعنف من المسلمين أنفسهم.
ففي الوقت الذي يستمر دوران الدراويش في حلقات ذكرهم وتعلو أصواتهم وجهشهم بالبكاء، يُقتل الأبرياء، ويُظلم الأتقياء، ويؤخذون زورا وبهتانا على أنهم هم القتلة في مشهد جلل بديع، تشتبك فيه أصوات الابتهال والبكاء الصوغي الخالص مع حد الظلم والقهر.
فها هو: حاجي جوميز يتم القبض عليه عن طريق رجال الـFBI ويكبلون معصميه أثناء صلاته، مقتحمين منزله الهادئ بالولايات المتحدة الأمريكي معنفين زوجته ماريا الأمريكية المسيحية في إشارة واضحة إلى أفكار هذا الرجل التي لا يمكن أن تكون رمزاً للغلو أو العنف أو الإرهاب الفكري.
وها هو الوجه النقي الثالث .. أنه حاجي جوميز الذي يمثِّل اعتدال ووسطيَّة الإسلام كما جاء في القرآن الكريم من قيم ومفاهيم كبرى. مشكلة هذا الوجه أنه ذائب في المجتمع، لا يحتاج لتكتل، يحمل بداخله الرحم ولكنه ليس تياراً ممأسسا. فلم نسلم من نظرة الغرب لنا على أننا إرهابيون أو ما يسمى بالإسلاموفوبيا، ولا يتحمل تبعات هذا الخوف المرضي من كل ما هو مسلم إلا هؤلاء المعتدلون من أمثال حاجي ليس هذا فقط راجع لعدم إنصاف الغرب لنا بأنه ليس كل ما هو إسلامي إرهابي، بل ليس كل من هو مسلم إرهابي، بل يتحملوها لأن أصوات الموت والقتل باسم الإسلام تعلو على أصوات التسامح والاعتدال بعلو صوت طلقات رصاص قتل الأبرياء.
ويظهر الأنصاف الذي تناول به المخرج وكاتب النص وبطل العمل “محسن كيرميزيجول” موقف الغرب منا في أنه غير منصف تارة عندما تحدث على لسان الضابط أكار موجها كلامه للضابط الأمريكي، متهما إياه أنه لم يأت للعراق تحريرا للناس بل قاموا بتحرير البترول. بيد أن الأمريكي داهمهم بالقول إن المسلمين هم المسؤولون عن كل أولئك القتلى هناك.
وتارة أنهم قد ظلموا إذ هم يرون من الإسلام أو المسلمين إلا أنهم قد تلوثت أيديهم بقتل ذويهم في أحداث مثل 11 سبتمبر وغيرها وكله باسم الإسلام، فلهم الحق – على الأقل في نظرهم- أن يعتقدوا أن كل من هو مسلم وصدهم هو إرهابي وعليهم محاربته.
فها هو حاجي جوميز يرى بأن “من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها”. ويرى أن الله واحد، وأنه بغض النظر عن الأديان فالكل يسعى للتقرب من الله. هكذا يرى الآخر. “فجميعنا يحمل ذنوبه وفضائله والله من سيحاسبنا على أعمالنا”
وقرب نهاية الفيلم، مناظرة شديدة الوضوح بين كل أفكار كل قطب من الوجوه المتباينة ما بين القتل والبراءة. يتحدث فيه “الدجال” بعد إلقاء القبض عليه، مبررا قتله للأبرياء الذي يعتقد هو أنهم أبرياء بطبيعة الحال، بأن من يقف خلفه ويعطيه الأوامر هو الله فهو يخوض حربا مقدسة في سبيله، وهو يعتقد أن القرآن يحتم على المسلمين الجهاد حسب فهمه بالقتل حتى يصبح الجميع مسلمون، مبررا موقفه الدموي بأن رسولنا الكريم بقي يحارب الأعداء إلى أن وافته المنية، هكذا يعتقدون!! بينما يظهر الوجه الآخر لصحيح الإسلام ومنظومته القيمية على لسان حاجي جوميز القابع في الزنزانة المجاورة له قبل إخلاء سبيله، بأن الله لم يرسل رسوله إلا لكي يستخدم رسالته وحكمته لنشر كلمة الله فالجهاد يكون في سبيل الله عندما ينصر الحق وينتصر للحقيقة، فعندما هاجمه الأعداء- والحديث لحاجي- رسول الله (ص) دافع عن حياته وشرفه وأرضه، وخلال 23 عاما هي سنوات نبوته، لم يحارب الرسول سوى شهرين فقط.. واختتم كلامه معه بأن يغفر الله لنا خطايانا جميعا.
ورغم تأكد الجميع من براءة “حاجي جومينز” وعود لبلده “تبليس” بعد رحلة دامت قرابة ثلاثين عاما بصحبة الضابطين. لم يسلم من حقد الانتقام الأسود وقضى نحبه مرميا بالرصاص بمسدس جد الضابط “فرات” الذي أكّد لحفيده أنه اقتنع ببراءة حاجي ولكن الثأر وصوت القتل والانتقام تخطى صوت الرحمة والعدل.
وكأن “الموت” قتل “الحياة” المتجسد في هذا الرجل.. فكما جرى على لسان حاجي في كلماته الأخيرة في مشهد غاية في التأثر يقول: كما هربت كم الجهل منذ ثلاثين عاما من تبليس إلى نيويورك، قتلت أيضا بسبب الجهل.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.