لم أقتنع يومًا بأن مقولة “الغاية تبرر الوسيلة” هي التي تؤسس لنظرية ميكافيلي السياسية، ولا أن كتابه “الأمير” عبارة عن مجموعة من الأفكار التي تكرس لها وتبرهن على واقعيتها، فما انتشر عن هذه السردية من أفهام، يناقض دلالتها الأصلية، فلو أننا نظرنا إلى مفهوم الغاية سنجد أنه عبارة عن قيمة تعطي لكل الوسائل شرعيتها، لكن المقولة لم تحدّد طبيعة هذه الغاية ونوعيتها القيمية، هل هي منفعة ذاتية أو مصلحة عامة أو خلق كريم أو فضيلة جماعية يتحتم تحقّقها، ما يعني أن العبارة سليمة في بعض تجلياتها الإنسانية، ويمكن أن تكون قاعدة أخلاقية، لكن ما نفهمه عن “الميكيافيلية” هي أنها تؤسّس للذرائعية في السياسة وسياسة الحياة، وفي التعامل مع الواقع والغير، فلهذا إما أننا يجب أن نعيد تركيب المقولة فتصبح “الوسيلة تبرر الغاية”، وإما يجب حذف كلمة غاية واستبدالها بكلمة أخرى تتحول معها العبارة إلى معنى يفيد انتفاء الهدف والقصد والغائية، فتصير الدلالة هي أن كل الوسائل غايات، أو “المهم هي الوسيلة”.
وفي مجال الدين والتديّن نشهد الدلالات نفسها، لكن بصيغ ومعان أخرى، أي تتحوّل الغايات الدينية إلى أدواتٍ لتحقيق الأغراض ووسائل للوصول إلى الحظوظ النفسية، والأمر هنا لا يتعلّق بتوظيف الدين في تحصيل المصالح والمنافع من الغير فحسب؛ بل توظيفه في تحصيلها من الذات.
فعلاقة المتدين بالدين ليست على مستوى واحد، فلكل متدين تجربته الدينية التي تسعى إلى تحقيق غايات معينة، فهناك من ينظر إلى الدين على أنه تحقيق لمعنى وجودي، وهناك من يرى فيه مقاومة لنسيان الذات، وهناك من يتبصّر فيه دعوة إلى إعادة إنتاج دلالة الحياة، وغيرها من الغايات التي تحكمها القبليات النفسية والخلفيات الثقافية، وكل غاية تتفرع إلى مراتب ومنازل معنوية يتنقل فيها وبينها صاحب التجربة، لكن ما يجمع هذه الغايات هو وجود معنى مشترك يفيد أن ثمة مطلق ينبغي على الانسان أن يتجاوز حدوده الأنوية والنفعية في تعميق الرغبة فيه والتفاعل معه.
لكن يوجد نمط تديّني ليست له غاية معنوية دينية؛ بل ينظر إلى الدين على عكس جوهره وحقيقته، أي أنه بدلًا من أن يسعى إلى تجاوز غرائزه ونفعياته لأجل معنى غائي يكرّسه الدين، يقوم بتوظيف الدين لأجل تحصيل هذه النفعيات، لكن المشكلة في هذا التوظيف أن أبعاده متجذرة في اللاوعي، أي أن صاحبها غير واع بها؛ لأن نزوعاته الداخلية تحرِّكه إلى سلوكات يتصور بداهةً أنها من إفراز نيته الخالصة.
ويمكننا أن نرى ذلك في المجال النظري والعملي، فالمتديّن الوظيفي ينظر إلى نفسه على أنه صاحب حق وجودي يخوّل له قيام الله معه في كل شؤونه الحياتية سواء في تفاعله مع نفسه أو مع الغير، وهذا حقّ روحي لا يمكن أن ينازعه فيه أحد، لكن الوظيفية تتحقق عندما يضيف المتدين “الأنـا” إلى الله في مواجهة الغير الذي يضيفه إلى كل شيء عدا الله، فيصبح الأمر :”الله معي يحقق مصالحي ومقوماتي الغريزية في صراعي النفسيّ مع الآخر الذي لا يقف الله معه ضدي”! هذا على المستوى النظري، أما على المستوى العملي فنجد الوظيفية في عملية تحويل الفعل التعبّدي إلى أداة لتشويه الواقع، مثل أن أكثِر من الصلاة أو الدعاء أو النوافل كذريعة للفرار من مواجهة واقع معيّن يشكّل لي صدمة ويرعبني، وهذا هو أهم مأزق في التدين الوظيفي: أن تتوسّل بالدين وتُسوّغ به عدم القدرة على اجتياز عقبات الواقع.
وترجع معضلة التدين الوظيفي ـ في علاقتها بجدلية الوعي واللاوعي في تراثنا ـ إلى الصدام الذي حصل بين أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي، وهو جدل على المستوى التأويلي لا يمكن اختزاله فيهما؛ بل يرجع إلى النمط التديّني الذي ينتمي إليه ابن حنبل، وهو نمط يصدر عن الحقيقة الدينية وغيرها، ومشكلته أنه لا يندرج في الذات وخبراتها الوجدانية، ولا في الواقع وتحقّقاته الزمنية، وإنما يتأسس على النص، فمشروع المحاسبي وأمثاله في تفكيك التدين الوظيفي لم ينظر إليه ابن حنبل إلا على أنه مجرد وسواس، لأن تفاصيل محاسبة الذات واتهام النفس بالشكل الذي عرضه المحاسبي وأمثاله ليس لها أساس في النص، أي بدون مرجعية، وبالتالي تفقد شرعيتها.
ومشكلة النمط الحنبلي وأمثاله أنه لا تنتهي فاعليته عند التدين الوظيفي، بل يتجاوز الأمر إلى توظيفه هو نفسه، فمن تتحقق نفسيته بهذا النمط لا يبحث عن أغراضه في تطبيق النص فحسب، بل يمكن لأي نسق سياسي أو طبقة اجتماعية أن تحقق مقاصدها بآليات هذا النمط وبمقوماته، ويمكن أن تستوفي كل شروط مصالحها وخبزها اليومي في استنادها عليه، لأن فكرة مراجعة الذات والبحث عن أبعاد جديدة بداخلها غير واردة في برنامجه النقلي، لهذا يسهل على أي رغبة سلطوية أن تذيب النمط الحنبلي في نسقها.
ومع ذلك؛ لا يمكننا جحد دلالات النص التي تفيد الدعوة إلى التخلص من شوائب المنفعة الذاتية على صعيد العمل الديني، إلا أن المبادئ التي يُكرسّها هذا النص ظلت محدودة في نظر عقلية التدين الوظيفي، وحدودها لا تتجاوز إصلاح النية في جانب من جوانب التفاعل مع الغير، فمبدأ الإخلاص بوصفه قيمة روحية تؤسس لحالة البحث عن براءة الذات بقي منوطا بانتفاء الرياء، وهو لم يتطور إلا في المجال التداولي الذي يناقض المجال الذي تفشّى فيه النمط الحنبلي، لهذا نراه انتهى في نظرية المقاصد بوصفها مشروعًا في نقض أداتية الدين، وإذا رجعنا إلى أي مصدر معرفي اشتغل على فكرة المقاصد سنجد أن مبدأ مخالفة الهوى لم يتم إدراجه ضمن كليات الحقيقة الدينية اعتباطيًا، بل هو مبدأ يؤسس لمساءلة نية الذات المتدينة، ويجد جذوره في النمط الذي عمل المحاسبي وأمثاله على تأسيسه والتنظير له.
وصفوة القول؛ هو أنه ليس ثمة من حلٍّ يؤسس لاستراتيجية عملية أو يقوم بابتكار هوية جديدة تقوم بمعالجة علاقة التدين الوظيفي بإدراك الواقع وإعادة تشكيله، أو فك عقده والتباساته، ولكن ما يهم هو أن الوعي يجب أن ينعكس على نفسه، ويراجع قناعاته ويحفر في أصولها ومُسوّغاتها، أي أن يشتغل المرء على تجربته الدينية بالنقد والمراجعة والتفكيك وإعادة التركيب والتقويم، فأسباب توظيف الدين من أجل تحقيق حظوظ نفسية ترجع بالضرورة إلى نسيان هذه الذات، وإلى عدم الالتفات إلى أهم ضروراتها، أقصد: ضرورة العقل وضرورة الحرية وضرورة مبدأ “الذات عينها كآخـر”.