التنويريسلايدرفنون

ما عمق التأثير الذي تلعبه الشاشة الصغيرة في بنية الثقافة العربية الحديثة؟

يتساءل الكثير من المهتمين برصد الحراك الثقافي والسياسي والاجتماعي حول مدى مساهمة الفضائيات العربية في الواقع العربي الراهن في تغيير المنظومة الثقافية السائدة، أو صقلها أو إغنائها أو تشويهها مثلا؟

وفي المقابل هل يمكن أن تقوم وسائل الإعلام بشكل عام، والمرئي منها بشكل خاص بالتأثير في المنظومة الثقافية في المجتمعات العربية؟

هذا السؤال يُطرح الآن بصورة ملحَّة نتيجة عوامل متداخلة ليس أقلها قدرة الإعلام المعاصر على الدخول إلى كل بيت عربي، بل والوصول إلى المواطن بطرق متنوعة تتيحها تكنولوجيا التواصل المعاصرة الرخيصة الثمن نسبيا. ومما لا شك فيه أننا اليوم نشهد واقعاً إعلامياً يفرض نفسه بشدة على أجندة خارطة الثقافة العربية في مجتمعاتنا على اختلاف درجات نموها وتطورها، وممّا يعزِّز ذلك أنَّ حقبة ما يسمَّى بالربيع العربي خير مثال على اختبار قدرة الإعلام، خاصّة المرئي منه على لعب دور أساسي في تنوير مساحات من الاشتغال التغييري باتت مساهمة بفعالية تدعو للتأمل والدراسة، ومن هنا ساعد هذا الانخراط المتزايد لقطاعات متنوعة في استخدام وسائل الإعلام على خلق تيارات شعبية تأطرت أو ما زالت في تكوّن مستمر سياسياً واجتماعياً، بحيث شكلت وسائل التواصل ومنها الإعلام والإنترنت على تكوين رافعة بديلة للحراك تعوض فيها ما تهشم وتراخى من الأدوات السياسية التقليدية للمجتمع العربي القديم من أحزاب ونقابات وإعلام رسمي.

إننا اليوم نشهد تزاحماً ومنافسة محمومة بين مؤسسات الإعلام لاجتذاب المشاهد العربي المثقل بحمولة كبيرة من موروث ديني، والمتأثر بمروحة متنوعة من الأعراف والتقاليد، والرازح تحت ضغط جملة من العوامل السياسية النابعة من تجربة كل بلد وفقاً لطبيعة نظام الحكم ومدى قدرته على الاستجابة لضغوط التحولات الجديدة التي فرضتها مرحلة ما يسمى بالربيع العربي، وهذه التحولات تبدو في طريقها على التفاعل مع مستويات مختلفة ومتداخلة من البنية الثقافية والاجتماعية والسياسية.

ندرك تماما أن معدلات الأمية لا تزال عالية في كثير من الدول العربية، ولذا فنحن أمام نسبة كبيرة ممن لا يجيدون القراءة والكتابة، ومن جهة أخرى تبدو الشعوب العربية أحياناً وقد فقدت الكثير من لياقتها الفكرية، تحت وطأة سنين طويلة من ترسيم العقل النقلي بديلاً عن العقل النقدي القائم على السؤال والمحاكمة والبحث والقراءة، إضافة إلى أننا أمة تعيش منذ قرون في ظل ثقافة قلما اعتدّت بأهمية القراءة والمنهج العلمي في التفكير، وتميل غالبا إلى القبول دون تساؤل حقيقي بالمادة، المعرفية والإعلامية الجاهزة التي لا تحتاج أكثر من ضغط زر واحدة، ومما يسبب القلق أن بعض المتلقين يميل إلى اعتماد وسيلة إعلامية واحدة أو موقع إخباري واحد تحت تأثير عوامل سياسية أو عرقية، أو حتى طائفية! مما يؤدي إلى المساهمة في خلق حالة ثقافية أقرب إلى التحزب الإعلامي المنحاز إلى وثوقية مفترضة لوسيلة إعلامية.

ورغم تنوع وسائل الإعلام وما يتيحه فضاء الإنترنت من قنوات تواصل قوية الأثر، إلا أنه يبقى للشاشة الصغيرة تأثيرها الأكبر على المتلقي العربي بحكم قدرتها على الحضور الفاعل والحقيقي في كل بيت عربي بغض النظر عن مستواه الاقتصادي، ومما يعزز هذه المكانة تواضع نسب استخدام الإنترنت نتيجة لعوامل كثيرة في أغلب الدول العربية، وكذلك تضاعف الاستثمار الاقتصادي والدعائي في قطاع الإعلام المرئي من قبل كثير من الراغبين في التأثير على الرأي العام من الحكومات والأحزاب والطوائف، مما أدى في نهاية المطاف إلى تعاظم التأثير الثقافي والسياسي لهذه الشاشة، وتحولت معه اليوم إلى نافذة تتسع وتتسع  حتى لتكاد تنفتح على العالم بأسره، تبث برامجها على مدار النهار والليل دون توقف، مستثمرة حتى الإمكانات المتاحة في الإنترنت نفسه، وغدت هذه القنوات مصدراً مهمّاً للأخبار والتحليلات الموضوعية أو التي تحاول ادعاء الموضوعية.

في نظرة سريعة لواقع الفضائيات اليوم نرى أن قنوات البث التي تحمل الصبغة الدينية تتميز بشعبية كبيرة، وتكتسب المزيد من المتابعين نتيجة عوامل تتعلق بجاذبية الخطاب الديني، وتستفيد في الوقت ذاته من زخم الأحزاب الدينية الفاعلة في الساحتين الثقافية والسياسية، وفي الاتجاه الآخر تتسع دائرة المتابعين للقنوات الترفيهية على اختلاف اهتماماته، أما القنوات الإخبارية فهي لوقت ليس بالبعيد كانت الأقل جاذبية، إلى أن ساهمت قناتا “الجزيرة” و”العربية” في الدفع بهذا النوع  من الإعلام نحو مساحات من الحرية العالية نسبيا في التعاطي مع مشكلات الإنسان العربي المهاصر، وحققت هاتان القناتان قفزة نوعية في عالم الأخبار والتحليلات لم تكن فيما مضى سوى حلم يداعب مخيلة الإعلاميين العرب، ولكن الحلم تحول إلى حقيقة، وتوالت نتيجته انطلاقات متنوعة لقنوات إعلامية أو شاملة مكنت المشاهد العربي ولأول مرة من التأثر والتفاعل مع الواقع العربي في بعديه السياسي والثقافي. وقد تكشفت إثر هذه الثورة في الإعلام المرئي حدّة التنافس في مستويات مهنية متعددة، وبرز السؤال حول مدى عمق التأثير الذي تلعبه هذه القنوات في بنية الثقافة العربية الحديثة؟ إن محاولة الإجابة على هذا التساؤل تبقى مفتوحة، وتحتاج إلى الكثير من الدراسات في حقلي الإعلام والاجتماع، لكن الذي لا شك فيه أن وسائل الإعلام الحديثة قد ساهمت بقوة في الدفع بالنقاش السياسي والاجتماعي نحو مديات أرحب كثيراً من السابق، حيث كانت سطوة الإعلام الرسمي تطال الحقيقة في كثير من تجلياتها.. صحيح أن بعض القنوات تعمل وفق أجندة خاصة، إلا أنها في النهاية لا تستطيع أن تضحي بمصداقيتها في المجمل العام أمام مشاهد واعٍ وقادر على اختيار مصداقية هذه الوسيلة.

كلنا نعلم بأن الثقافة مجموعة من العقائد والقيم والقواعد التي يقبلها ويمتثل لها أفراد المجتمع، بحيث تصبح قوة وسلطة موجهة لسلوكهم العام، بل وترسم تصوراتهم عن أنفسهم والعالم من حولهم، وتطال هذه التصورات كل التفاصيل التي تحيط بنا من ملابس وطعام تدين وثقافة وفن..

وهذه الثقافة تنتقل عبر الأجيال تاركة آثارها العميقة، والتي تتأكد عبر وسائل التعليم والتربية والإعلام على اختلافها، وهنا يبرز الدور الحاسم والفعال لوسائل الإعلام التي تقوم اليوم بدور كبير جداً سواء أكان سلبياً أم إيجابياً في تطوير وتنمية ثقافات الشعوب.

بالعودة إلى المجتمعات العربية لا بد أن نعترف بأن الإعلام المرئي له جاذبيته القوية، وهنا تكمن نقطة قوته الإيجابية حين يتم توجيهه بالشكل الصحيح، وهذا ما تراهن عليه العديد من التيارات التي تتبنى الإصلاح والتطوير دون أن تكون من وراء ذلك أجندات سياسية معتمدة غايتها توجيه المسار نحو بوصلة النظم الحاكمة لترسيخ استبداديتها بالحكم، إن الرهان على هذا الإعلام المهني سيساعد على خلق ثقافة جديدة تؤثر في عقلية الإنسان العربي من خلال تغيير سلوكه، وتطوير وسائل تفكيره، حيث يمكن لهذا الإعلام العمل على تعزيز الثقة بالنفس وعلى توطيد الإيمان بالحقوق، ويساهم على تنمية الوعي عند الإنسان العربي الذي طالما عاش قرونا تحت الوصاية والحجر على حرية التفكير والتعبير، نحن نحتاج فعلاً إلى الرهان على التغيير الثقافي، لأنه وإن طال الزمن سيكون السبيل الوحيد لتغيير أنماط الحياة التي أفضت بنا طويلاً إلى تبنّي مقولات تشرعن للاستقالة من العمل الصالح في الحياة، وتمجد ثقافة الطاعة وتلغي وجود الفرد في حياة القطيع.

يبدو من المنطقي ألا ننكر أن العديد من محطات البث الفضائية تقدّم ضخاً أيدولوجياً بامتياز يساهم في توجيه الحراك السياسي مستفيداً من اللعب على الوتر الديني أو الطائفي، ولا ننكر أن هناك العديد من المحطات ساهمت وتساهم في تكريس دونية المرأة وتظهرها كسلعة، وأخرى امتهنت الشعوذة والدجل تحت شعار التداوي بالطبّ النبوي وإبطال السحر وغيره، ولكن هذا لا يمنع بأن الإنسان العربي بات يتابع برامج تتحدث بكل صراحة عن العلاقات الجنسية ومشكلاتها مثلا، وعن مشكلات المراهقين والإدمان على المخدرات التي تنخر مجتمعاتنا … وهي موضوعات كانت تعد من التابوهات التي لا يمكن الاقتراب منها، ولا يقل عنها حرمة أيضاً المواضيع الدينية التي باتت تعقد لها الندوات والحوارات والنقاشات، فبات الإنسان العربي يسمح بالرأي الآخر فيما كان يظنه سابقاً من اليقينيات التي لا يطالها الشك، وأفسح له المجال ليكون رأياً آخر، وهذا عامل إيجابي لا يمكن أن ندير الطرف عنه، كما لا يمكننا أن نتجاهل بأن المعرفة اليوم باتت في متناول الجميع من خلال الإنترنت، إضافة إلى أنه ومن خلال الوثائقيات والأفلام والمسلسلات تمّ إثراء النقاش المجتمعي العام بمسارات ثقافية متنوعة ساهمت في تطوير ثقافتنا وصقلها، وهذا يتم الآن بأسرع مما نتخيل.

طبعاً وعلى النقيض هناك العديد من البرامج والمسلسلات التي لا تزال تساهم في تقوية الثقافة الذكورية وثقافة التبعية والاستلاب العقلي والفكري تحت مسميات دينية أو ثقافية متصلبة تتذرع بالخصوصية العربية، ولكن لا أملك إلا ان أتفاءل وأنا أرى أمهات أصدقائي قد دخلن عالم الفيسبوك مثلاً، وبتن يبدين آراءهن من خلال “لايك” بسيطة، أو “copy, paste”  لأي حكمة أو مقولة أو رسالة تحمل معاني إنسانية عميقة، وأنا أكيدة أنه لو كان لوالدي من العمر المزيد لكان اليوم يحمل آي باد أو لا بتوب بين يديه ويتابع من خلاله عاداته اليومية في قراءة أجزاء من القرآن الكريم، ولكن في الوقت نفسه سيشاهد آخر مستجدات الثورة السورية، وسيدخل على الموقع الرسمي لأبو القاسم حاج محمد مثلا، ثم سيتابع آخر الأحداث في الساحة المصرية والتونسية، ولا مانع من أن يتابع مطربته المفضلة في آخر أغانيها ليستمتع بصوتها وفنها، وسيشاهد أفلاماً رائعة لعظماء التاريخ، وتتأجج مشاعره الإنسانية مع فيلم ما.

لا بد لنا وأن نعيش هذا التفاؤل بالتغيير الثقافي وأن تراهن عليه ونعمل من أجل تعميق أثره.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة