التنويريسلايدرفكر وفلسفة

العقل ودوره في القراءات التنويرية للنص الديني

حين نكون أمام قاعدة أصوليَّة تؤكِّد أنَّ العقل هو مناط التكليف، فمعنى هذا باختصار أنَّ العقل هو نقطة الارتكاز التي تدور حولها الأمور، بغض النظر عن طبيعة هذه الأمور وارتباطاتها، بمعنى سواء كانت مرتبطة بالدنيا أو بالدين الذي يحدِّد مصير الإنسان في الآخرة.

والتكليف المرتهن بالعقل يحدِّد المصير، وما يترتَّب عليه من عقاب أو جزاء، كما يحدِّد المهام التي يمكن أن يتبوأها صاحب العقل في مسيرته الدنيوية، فالناس يفزعون في شؤونهم لذوي العقول الراجحة، والوعي الثاقب، فتستقيم حياتهم إن ظفروا بذويها، وتتشتَّت حياتهم وتعطب، إن كان نصيبهم مدَّعيها، وما أكثر الأدعياء!

والعقل معجزة الخالق، سبحانه وتعالى، فبالعقل يقترب المخلوق من نهج الخالق في القدرة والإبداع وتحقيق ما كان يصنّفه الكثيرون في باب المستحيلات، أو حتى ذاك الذي يضعونه في قائمة المعجزات، فالعقل الذي هو نسمة من الخالق وسرّ من أسراره، تماماً كما هي الروح أمر إلهي وسر خفي، قادر على الإبداع المبهر، والصنيع المعجب، والتطوير الذي يأخذ بالألباب، فسبحان الله!

لهذا كله نقول إنَّ العقل الذي هو مدار التكليف، هو أساس الحياة، في عمارتها وبنائها ونهضتها وحضارتها واستقامتها، وتحقيق أمنها وتسهيل سبل العيش فيها، وتيسير أمورها، وتذليل صعوباتها، وحل ألغازها، وفك رموزها، وتطوير ما يمكن أن يحقِّق للإنسان رفاهية الأحلام، وأحلام الرفاهية.

هذا العقل، بإمكانه من جانب آخر، أن يجلب الشقاء والدمار والتعاسة للحياة، إن ملكه من فقد شروط الحياة الإنسانية، وقوانين الحياة الفاضلة، فانقلبت لديه الموازين، وانعكست عنده الاتجاهات، فتحرَّك بدهاء اللصوص، وخبث المتسللين لواذاً، وأنانية المتكبّرين، ومكر المنافقين، وطمع المحتكرين، وبلادة المنحطّين، وانتقام المجرمين.

ولخطورة العقل وأهمّيته ومكانته، في إدارة دفَّة الحياة، بكل تفاصيلها، وتسهيل سبل السيطرة على الإنسان من خلاله، كان هدفاً لاحتلاله أوترويضه أو تجميده، والسيطرة عليه، من قبل عقول أخرى تضخَّمت فيها الأنا وحبّ الذات، وملكة السيطرة على الآخرين، وامتهانهم وتسخيرهم.

وباعتقادي أن التنوير بحاجة لعقول صالحة للاستعمال، استطاعت أن تقاوم وتنجو من عمليات السطو، التي استهدفت نشاطها وحيويتها وعملها، فلم تقع ضحية ترويض أو احتلال أو تجميد، بل الأسوأ من ذلك أن كثيراً من العقول للأسف تمَّ اغتصابها وانتهاك حرماتها، فتعطَّلت تماماً أو عطبت جزئياً، فأصيبت بخلل في الاستقبال، وآخر مثله في الإرسال.

مثل هذه العقول، في الحقيقة، ليست مهيَّئة لاستقبال أي قراءة غير تقليديَّة للنص الديني، وتفتقد البيئة المناسبة لاحتضان أي قراءة من هذا القبيل، ومن هنا يكون من العبث بذل الجهود في قراءات تنويرية في ظل عقول مستلبة، ومرتهنة لحقبة زمنيَّة ما، أو جهة من الجهات، أو خطّ فكري محدَّد، (التنوير) من النور، ويصعب على من وُضِعَ في زنزانة محكمة الإغلاق أن يراه، فالواجب يقتضي تحرير السجين من زنزانته، حتى يستطيع أن يرى بصيص النور، ويدرك أثره وأهمّيته، أمّا إن بقي في زنزانته المظلمة فلن يجدي الحديث معه عن النور شيئاً.

والزنازنة قد تكون إرثاً تراثيّاً وقد تكون اجتهاداً في ميدان الفكر أو التفسير أو الوعظ والإرشاد، وقد تكون جماعة بعينها، وقد تكون نهجاً سياسياً، وقد تكون نصوصاً عبث بها، وقد تكون شخصاً بعينه.

خاصَّة وأن التنوير نال حظاً واسعاً من التشويه والاستغلال السلبي كمصطلح، حين اتَّخذ سبيلاً لممارسات وفتاوي تدعو للتحرُّر والخروج من ثوب القيم والعادات، في وقت كانت الهيمنة فيه للمستعمر الأجنبي، الحال الذي جعله مصطلحاً مرفوضاً ومشوَّهاً لدى القطاع العريض من أبناء الأمَّة عامَّة، وهذا مما يصعِّب المهمَّة التنويريَّة ويزيد من تعقيداتها.

فالعقل الذي وقع في أسر الخرافات الدينية، والتفسيرات الغامضة، والآراء الشاذَّة، والنصوص البعيدة، سواء كانت محرَّفة أو مدسوسة أو على الأقل مشكوكاً في صحتها ونسبتها، فمن الصعب أن يتقبَّل الفكرة من أصلها، فهي عنده لا تخرج عن كونها مؤامرة على الدين، لهذا يؤجِّل نشر القراءات لغايات إجراء تعديلات على العقل، والعمل على تحريره، ولا يسلك في هذا السبيل المساس في النصوص الدينية، لأن التعصُّب إليها شديد، والتمسُّك بها متين، بل يفضَّل أن يكون المدخل للعقول أموراً عقلية توعوية فكرية فلسفية تقرع العقل وتضرب جموده، وتحرِّك أطرافه، وتزحزح جوانبه.

وباعتقادي أيضاً أن يتمَّ تقديم قراءات تنويريَّة لنصوص صحيحة من الكتاب والسنة، غير تلك التي تعارف عليها المفسِّرون والمجتهدون، ستساهم في ترسيخ طريق التنوير لتصحيح مسار العقول، والارتقاء بالفهوم، مع التأكيد أنَّ زماننا الذي تقدَّمت فيه التقنيات تقدّماً كبيراً يتيح لنا الاجتهاد، ويفتح لنا آفاقاً غير تلك التي كانت في زمنٍ غابت عنه هذه التقنيات.

باختصار الحاجة ملحَّة للعمل على “العقل المسلم” لتحريره بعد استلابه، وتنظيفه بعد تشويهه، وتصحيحه بعد اعوجاجه، وإيقاظه بعد تخديره وتنويمه، وتحريكه بعد تجميده، ولا بد من الاجتهاد في هذا الباب أولاً، وبذل الوسع فيه، والبحث عن السبل التي تعمل على إحياء دور العقل المسلم، مع العمل على نشر القراءات التنويريَّة، وأقترح عل الفاعلين التنويريين أن يكون ثمَّة مؤتمر خاص بعنوان: “نقد العقل المسلم.. التكوين والبنية والتنوير”.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

عبدالله فرج الله

الدكتور عبدالله فرج الله هو أكاديمي وكاتب وسياسي أردني بارز. وُلد في 21 فبراير 1965، وتخرج بدرجة البكالوريوس والماجستير في اللغة العربية من جامعة اليرموك في الأردن، ثم حصل على الدكتوراه في فقه اللغة من جامعة موسكو الحكومية في روسيا عام 1999. عمل الدكتور فرج الله في مجال التعليم الجامعي، حيث شغل مناصب تدريسية متعددة في جامعة الزرقاء الأهلية، بالإضافة إلى الجامعة الأردنية. كما عمل في مجالات إدارية مختلفة، بما في ذلك مستشار مركز دراسات الأمة وإدارة مركز تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، ورئاسة جمعية اللغة العربية للتعليم والثقافة. يتميز الدكتور فرج الله بحضور إعلامي قوي، فهو كاتب مقالات في عدة صحف أردنية ومقدم برامج إذاعية. شارك أيضًا في حلقات تلفزيونية وندوات ثقافية محلية ودولية. لديه إسهامات علمية معروفة من خلال بحوثه ومؤلفاته التي تركز على اللغة العربية، الفقه، القرآن، ومفاهيم تربوية. كتب أيضًا مواد منهجية مُستهدفة للطلبة الذين لا يتحدثون اللغة العربية. يُعتبر الدكتور عبدالله فرج الله شخصية مؤثرة في الحياة الثقافية والعلمية في الأردن، ويتمتع بسمعة عالية كأكاديمي ملتزم.

مقالات ذات صلة