لقد بدا لي طرح هذا السؤال مشروعا لمناقشته وبالتالي تناوله بالدقَّة والتحليل وخاصَّة عندما أجد نفسي في جدال كبير حول ما يسمَّى اليوم بأزمة القيم وأزمة الأخلاق التي تتخبَّط فيها الدول التي تسمِّي نفسها إسلامية والدول العربية… هذا في الوقت الذي نجد فيه الصراع الحضاري والثقافي دوليا في تزايد مستمرّ، وخاصَّة بفضل تحكُّم لغة الاقتصاد وسلطة الإعلام والتكنولوجيا الحديثة.
كما أنَّ دوافع التنمية بشتَّى مجالاتها و دواعي الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان الكونية وتبنِّي فلسفة القيم الإنسانية العالمية، يجعلنا كدول دينية تعتمد الإسلام كمرجعية أساسية وكمنطلق أوَّل، نطرح عدَّة أسئلة حول مستقبل الإسلام ومستقبل المسلمين وكذا دورهم في الحفاظ على التوازنات الضرورية للتحديث و الحوار بين الأديان والحضارات، وبالتالي القيام بقراءة نقدية للذات المسلمة ومدى استعدادها للدينامية والتطوّر وفق القوانين الدولية الجديدة وكذا محاولة التدقيق في السلوكات و لتربية و التنشئة الدينية التي يتربَّى عليها الإنسان المسلم في علاقاته مع ربه وفي علاقاته مع الآخر أفرادا أو جماعات.
ومن هنا يحقّ لنا أن نطرح مجموعة من الأسئلة والتي نراها ضرورية وهي على الشكل الآتي: ما سبب تخلُّف المسلمين؟ ولماذا ينعت المسلمون بالإرهاب والفكر التطرُّفي؟ ولماذا التخلُّف و نقص التنمية مرتبط بالدول الإسلامية؟ وهل ثمَّة علاقة بين سلوكات المسلمين حاليا في أغلب الدول وبين الدين الإسلامي؟ أم أنه لا توجد علاقة بين الإسلام وما يسمَّى بالمسلمين؟ ولماذا هذا التباين بين مختلف التيارات الإسلامية؟ أليس الدين الإسلامي دين توحيد ودين أخلاق ودين قيم كونية ودين التسامح ودين التعارف ودين احترام الآخر والاعتراف بالاختلاف…؟ لماذا ينعت المسلمون بالإرهاب؟ ولماذا يتمّ ربط الدين الإسلامي بالتطرُّف في اللحية ومدى طولها وكذا العودة إلى الماضي وعيش حياة الرحَّل وحياة البداوة؟ عوض التحديث والتطوير وإعادة النظر في نمط الحياة؟ ولماذا لا يتمّ ربط الدين بمتطلّبات الحياة أولا قبل الآخرة؟ علماً أنَّ الحياة الأولى هي سرّ نجاح الحياة الباقية أي الآخرة؟
أسئلة في الحقيقة تحيّرني دائما كلما حاولت أن أقوم بالمقارنة بين الدول وخاصَّة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، فأجد نفسي أحلم بتلك القدوة التي وصَّى بها الرسول صلى الله عليه وسلم والتي هي أصل كل النبوَّة وأصل العلم وأصل التربية وأصل الحياة الأخلاقيَّة. أحلم بها في تصرفاتنا اليومية، كما أحلم بالمعاملات التي وصَّى بها الدين الإسلامي(الدين المعاملة)، فأجد الجواب عند الإنسان الغربي أكثر من أخي المسلم والذي أزدحم معه يوميا في قاعة الوضوء وما نضيعه من الماء، وأزدحم معه يوميا على تسوية الصفوف، و أزدحم معه يوميا في الخروج والدخول إلى المسجد، ازدحام في الحج، ازدحام في المصلى، في العيد، في الشارع ، في الأزقَّة، في السوق، في كل المناحي ولا نظام يذكر و لا أخلاق ممَّا وصَّى به الدين… كما أحلم باحترام العلم والعلماء وتقديسهم لأن الله تعالى عندما أنزل الوحي على الرسول محمد (ص) أمره بفعل القراءة وبالعلم ولم يأمره بأي شيء آخر، أحلم بذلك في مدارسنا وفي إعلامنا وفي مناهجنا للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، في حواراتنا، في إداراتنا، في استراتيجيات العمل … فأجد أنَّ أمَّة “اقرأ” لا تقرأ، وأنَّ أهل الكتاب هم من يعرفون قيمة العلم والعلماء وهم من يقودون العالم بفضل التطوُّر العلمي والتقني وهم من يقدِّمون للبشرية الخدمات الضرورية… فأين الخلل إذن يا أمَّة الإسلام؟ قد يكون الجواب عند البعض واضح وسهل وفي جملة واحدة فقط. لكن الذي لا يقبله العقل هو: لماذا ثمَّة شرخ وهوَّة بين النظري والتطبيق عند هذه الأمَّة التي تنعت بأنها خير أمَّة أُخرجت للناس؟ ولماذا لم يتمّ معالجة الأمر خلال 14 قرن مرَّت؟ ولماذا لا يتمّ النقد الذاتي للذات المسلمة ومحاولة البدء بما هو ضروري للتربية والتنشئة الصحيحة والعمل على القيم وعلى المعاملات؟ أليس من حقنا أن نسأل متى سيسلم المسلمون؟ ولأنَّ من يقرأ الدين الإسلامي ويقارنه مع تصرفات وسلوكات ومعاملات أغلب الذين يدخلون في دائرة “المسلمين”، يجد التناقض والتضادّ التام. إذ تصبح كلمة “المسلمون” فقط مسّ(أي السكين) وليمونة بالدارجة المغربية.
فاذا كان الامر فقط مجرد تساؤل حول علاقة المسلمين بالاسم كدين، فإن الأمر قد ينطبق بشكل شمولي على طبيعة الشخصية المسلمة التي يتمّ بناؤها في المسجد وفي الأسرة وفي المدرسة وفي الإعلام وفي الشارع وفي كل المؤسَّسات التربوية ومؤسّسات التنشئة الدينية؟ وبالتالي إمكانية التساؤل أيضا حول الاستراتيجية المعتمدة والمقاربة المتّبعة في تفسير وتوضيح وإبلاغ الدين وكذا في المنهجية وفي المذاهب وفي الحركات الإسلامية وفي العلماء وفي رجالات الدين وفي الإعلام الديني الحالي…؟ ثمّ أليس من حقّنا أن نتساءل أيضا حول فشل استراتيجيات التعلُّم والتعليم في التربية الدينية وبالتالي خلق تلك الهوَّة بين ما يتمّ تعلّمه في الخطب وفي كل الدروس الدينية وبين السلوكات والقيم الحقيقية والواقعية للفرد المسلم؟ فكثير من العجم ومن غير المسلمين يتهرّبون من الدين بفضل تصرفات بعض المسلمين سواء في أوروبا وفي أمريكا وفي الدول الغربية وفي الدول الإسلامية… قد يقال بإنَّ هناك حرباً إعلامية وحرباً صهيونية ضدّ الإسلام. طبيعي جدا أن نجد ذلك. لكن ما ليس طبيعي هو ألا نجد مضادّاً حيوياً عند المسلمين.
فاذا كان المجال الجغرافي للبلدان الإسلامية هو الأضعف في حلقة التقدُّم الحضاري وتوظيف المنجز الحضاري في بناء الدول والمجتمع. إذ تواجه الأمَّة الإسلامية اليوم وأكثر من أي وقت مضى الكثير من التحدّيات والعقبات التي تحاول أن تدفع بها بعيدا عن أداء دورها في العطاء القيمي والثقافي، وتحوّل دون تحقيق رسالتها الخالدة ومشروعها الحضاري ذي الأبعاد الإنسانية والإسلامية والكونية…باعتماد مفاهيم ومصطلحات جديدة كالديمقراطية والعولمة والكونية وحقوق الإنسان… فإن الدين الاسلامي كما نعرف وكما يعبّر عن ذلك كله كل مسلم في كل لحظة، سباق إلى ذلك كله. لكن أين ذلك كله في الدول الإسلامية؟ ماذا عن الدولة الإسلامية الحديثة؟
وخلال بحثي في هذا الموضوع اطّلعت على ورقة لمحمد بن عبد الله الزامل بكلية التربية بالسعودية حول “الأزمة الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية مظاهرها.. أسبابها .. علاجها”، فوجدتُ فعلا أن مشروعية السؤال عن إسلام المسلمين وبعدهم عن الدين الحقيقي وعن قوَّة الإيمان وبالتالي غياب التغذية الحقيقية للروح وترك تغذية الجسد تفسد كل الأخلاق وبالتالي وقوع حال المسلمين في تناقضات بين الجسد والروح وبين النظري والتطبيقي، فالإفراط في تغذية الجسد جعل الروح يموت ويؤثِّر سلبا على جميع التصرّفات وجميع الأخلاق ممّا يؤدِّي بالفرد إلى النفاق الديني فهو مسلم فقط بالعنوان لكن شيء آخر في السلوك… ممَّا خلق أزمة عميقة في القيم بشكل عام وفي الأخلاق والمعاملات بشكلٍ خاص . فيقول صاحب الورقة: “… ولكن حدث تحوّل في كيان الأمَّة الإسلامية حتى عادت إلى جاهلية حديثة طمست بصيرة الإنسان حتى ربطته بالمادَّة دون الروح وحصرته في محيط حواسّه. و قد أفرز هذا التحوُّل ظاهرة باتت واضحة للعيان في أمّتنا الإسلامية، ألا وهي الأزمة الأخلاقية، حيث طغت المادَّة على النفوس وأصبحت الغاية تبرِّر الوسيلة في كثير من الأحيان، وأصيبت الأمَّة بشللٍ عضوي في أجهزتها الخلقية وملكاتها النفسية يعوقها عن التحرُّك الصحيح، وشاعت فيها أمور لم تكن في سابق عهدها، فالحكم في أغلب البلاد الإسلامية بغير ما أنزل الله وحلَّت القوانين الوضعية محلّ الشريعة، وفي مجال التربية والتعليم وأصبحت العلوم الإسلامية منفصلة عن العلوم الأخرى، وفي مجال الاقتصاد أصبح الربا ومعاملاته أسلوباً شائعاً وأصدرت له القوانين تحلّهُ جهاراً نهارا، إلى غير ذلك من المظاهر كالغش والتدليس وانعدام الأمانة بين الناس وبالتالي انعدمت الثقة بين أفراد المجتمع، والاستهانة بالعهود وصلات الأرحام وسوء العلاقة بين أفراد المجتمع المسلم، والقدرة على قلب الحقائق، وجعل الجهل علما والعلم جهلا والمعروف منكرا والمنكر معروفا.(حريري،1417،ص13)”.
فعلا كل هذا قد يكون صحيحا إذا ما نظرنا إلى الواقع، لكن ما يجعلني اسأل من جديد عن صحَّة المنهج المعتمد؟ فالمنهج المعتمد في الأمَّة الإسلامية وعند علماء الإسلام وربما كله في الخطاب الإسلامي هو منهج الوصف ومنهج البكاء على الأطلال وعلى الماضي وبالتالي لقد كان السلف الصالح والنهج القديم و…. ولا نفكِّر يوما ما في تغيير المنهج واعتماد منهج مستقبلي في التفكير وإعطاء الحلول الممكنة لتجسيد الدين الإسلامي على أرض الواقع وجعل الأفراد في أخلاقهم وفي سلوكاتهم قرانا يمشي على الأرض مثل الرسول محمد (ص). لماذا لا يتمّ ربط الدين الإسلامي بالحياة وإعطاء الحلول لجميع الأزمات التنموية وكل الظواهر الإنسانية المعقَّدة؟ ولماذا لا يتمّ التفكير في إعادة النظر في قراءة الواقع الإسلامي وبالتالي الاجتهاد في المنهجية وفي الطرق المتَّبعة لنشر هذا الدين؟ ماذا عن علاقة النصّ بالعقل؟ وماذا عن المنطق العقلي قبل النصّ؟
وارتباطا بالموضوع دائما أشير هنا إلى ما ذكره يهودي في أوروبا وهو جالس مع مجموعة من المسلمين المغاربة، حيث أشار وقال لهم ذات مرَّة ” لقد ذكرت في جميع الكتب السماوية ثلاث كلمات تبدأ كلها بحرف الصاد وهي العمود الفقري لهذه الكتب، فالتزمنا نحن اليهود بواحدة فقط وتشبَّت المسلمون بالباقي… فقال له أصدقاؤه ماهي هذه الكلمات الثلاث؟ فقال اليهودي: هي الصلاة والصوم والصدق. فنحن التزمنا بتطبيق الصدق وأنتم بتطبيق الصلاة والصوم فقط بدون صدق… وفعلا إذا ما حاولنا فهم وتحليل هذا الكلام نجد أن ما يغيب في تصرفات المسلمين هو الصدق فعلا فكيف تصح الصلاة ويصح الصوم بل العبادة كلها بدون صدق مع النفس ومع الله ومع الآخر ومع الجميع؟ فما يقوم به المسلمون اليوم وفي أغلب الاحيان وما يظهر لنا في الحياة اليومية هي ممارسة الدين كتقاليد وعادات وبشكل يغلب عليه النفاق الاجتماعي. ثمّ تركيز اليهودي هنا على قيمة الصدق دليل على أهمّية القيم في العمل الديني، وبالتالي فغياب القيم التي وصَّى بها الإسلام في سلوكات ومعاملات الذات المسلمة فإنَّ باقي الأعمال والعبادات لا معنى لها.
وفي الإشارة كذلك إلى أهمّية المعاملات في الدين الإسلامي وجميع الأديان السماوية بشكل عام وفي جميع القوانين الوضعية، فان الحديث النبوي الشريف قد حدَّد تعريفا دقيقا للمسلم هو من سلم الناس (او المسلمون) من لسانه و يده والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه. فأين نحن اليوم من هذا التعريف الدقيق للمسلم الحقيقي ّ؟ في الوقت الذي نعيش تناقضات كبيرة بين القول والفعل. وبين الخطاب والممارسة وكذا بين التفسير والتطبيق وبين العبادة والعمل … تناقضات جمَّة في السباق نحو شرح الدين والحكم على الناس و توزيع الأحكام و الصفات على العباد من خلال الافتاء وإصدار الحكم على الفاعلين. وأين هي آثار الإسلام على الافراد والجماعات في الوقت الذي تجد أمامك في المسجد عبارات من قبيل : ” تفاديا للسرقة ضع حذاءك أمامك” ، ” قم بإغلاق هاتفك واربط اتِّصالك بالله” او ” لا تنسى إغلاق الهاتف و لا تزعج المصلين”، ” من فضلك اعتنِ بنظافة المسجد”.
كما أن هناك ظواهر غريبة نجدها في أبواب المساجد منها مثلا ظاهرة فوضى الأحذية والتي تصادفنا عند بوابات المساجد حيث تنتشر هذه الظاهرة بالذات في صلاة الجمعة، وكذلك في صلاتي المغرب والعشاء وهي ليست جديدة علينا، فنحن نعاني من تراكمها أمام المسجد بشكل غير حضاري مما ينجم عنه ازدحام وتضايق شديد عند انتهاء الصلوات والخروج من المسجد، مع أنه توجد صناديق جهّزت لذلك، ولكن للأسف لا يلتزم باستخدامها إلا القلَّة من المصلّين. ظاهرة التسوّل بمختلف أنواعها والتي يمارسها الأطفال والنساء والرجال وما يحدثونه من إزعاج وإلحاح في الطلب والتمثيل وفي تشويه الصفات البشرية وفي جلب كل الأعطاب و تسخيرها من أجل التأثير على نفسية المصلّين وجلب المزيد من المال، ظاهرة الباعة المتجوّلين الذين يحدثون إرباكا كبيرا في الشوارع وفي الأزقة من أجل البيع وتقديم السلع، ظاهرة تكدُّس السيارات وعدم احترام الشوارع واحتلالها في بعض الحالات، ظاهرة تناول الأطعمة وخاصة الكسكس عند أبواب المساجد ممّا يخلق ازدحام و تنافس بين الذين يقبلون عليها و يحدثون تصرفات وسلوكات غير إنسانية ولا تعبِّر عن قيم إسلامية عالية، فتجدهم يأكلون بشراسة وبسرعة ممَّا يجعل النعمة تسقط على الأرض وتنتشر على الطريق ويدوس عليها المارَّة… أمَّا عن ركن الصيام وما يرتبط به من سلوكات خاطئة و غير إنسانية فالحديث كثير عليها منها على سبيل الذكر: الاستعداد المفرط لهذا الشهر في تخزين وتوفير مختلف الشهوات وبالتالي ربط رمضان بالأكل فقط وليس بالعبادة، السهر في الليل ولعب القمار ومختلف الألعاب المسلية من “لعبة الأوراق” أو مشاهدة الأفلام والتلفاز… ثمّ كثرة النوم في النهار و إغفال الصلاة في المساجد مع الجماعة، أما في الأعياد وخاصّة عيد الأضحى فهم يمارسون أخطاء غير إنسانية وخاصَّة في البيع والشراء وفي التعامل مع الأضاحي حيث البعض لا يحترم هذه الحيوانات و يذبحونها بشكل غير صحيح أمام الحيوانات الأخرى وأمام الأطفال الصغار و دون سريَّة أداة الذبح ، بعدها تنتشر ظاهرة وضع جلود الأكباش في الأزقَّة والشوارع ممَّا يولِّد نفايات خطيرة على السكان، زد على ذلك ظاهرة سوط وسلخ رؤوس الأضاحي… سلوكات تتأثر بالعادات والتقاليد أكثر ما تتقيد بتعاليم الدين الإسلامي.
وأمام هذا الوضع المأساوي لحالة المسلمين ولمجتمعاتهم فإننا اليوم نشير إلى ضرورة القيام بقراءة نقدية صحيحة لهذا الوضع وبالتالي العمل على مخاطبة الأفراد والعقل بشكل يحترم هذا الدين بشكل صحيح ومحاربة كل الانحرافات والأخطاء التي يقوم بها البعض معتبرين أنفسهم مسلمين وبالتالي يتمّ تسويق صورة غير صحيحة وغير مقبولة مجتمعيا ولا إنسانيا. مع ضرورة العمل على إحداث تغييرات عدَّة داخل المجتمعات الإسلامية تشمل جوانب كبيرة وأساسية تهمّ منظومة القيم بشكل عام وبمفهوم السلطة التي أصبحت ضرورية أن تتغير وأن تتحوَّل إلى سلطة عمومية وبالتالي إذا أردنا أن ننتقل من الدولة التقليدية (الأمَّة) إلى الدولة الحديثة، وجب التفكير في زعزعة مفهوم السلطة ذات الطابع التقليدي و التي يجب أن تشمل عدَّة جوانب أساسية منها: أولا سلطة الأب أو سلطة الأسرة وهي ما يمكن تسميته التربية الوالدية والأبوية وخاصَّة في ضرورة تدقيق دور الأسرة في التربية والتنشئة الدينية والمجتمعية والقانونية وفي علاقتها بمختلف المؤسّسات التربوية الأخرى كالمسجد والمدرسة والشارع والإعلام و السعي نحو توحيد مناهجها، وثانيا سلطة الحاكم أو المسؤول أي ضرورة إحداث تعديل في مفهوم هذه السلطة والعمل على تطبيق مفهوم جديد للسلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية مع ضرورة استحضار البعد الكوني لهذا المفهوم، ثمّ أخيرا سلطة رجل الدين بظهور ما يسمى بالوسطية والاعتدال في التعامل مع الدين بشكل عام والدين الإسلامي بشكلٍ خاصّ حيث أن إعادة تنظيم الحقل الديني مهمّ جدا كمدخل لبناء دولة ديمقراطية وحداثية تحترم جميع الأفراد وتصنّفهم حسب الواجبات والحقوق. و لكون هذه السلط المتحكِّمة في تسيير الدولة التقليدية أصبحت اليوم متجاوزة من حيث المبدأ ومن حيث المقاربة الحقوقية فإنّ السلطة العمومية هي المحور الأساسي لما يسمَّى في العلوم الاجتماعية بالمشترك وبالتالي لكون الوطن والدولة والمؤسّسات تشكِّل الأسس والركائز المهمَّة لهذا المشترك، فإنه من اللازم حسب النظريات والمقاربات الحديثة أن يتمّ تحويل جميع السلط المتحكِّمة في دواليب الدولة التقليدية إلى سلطة عمومية تتماشى مع القانون وفق قاعدة الحقّ والواجب…
وبشكلٍ عام تأتي المطالبة بمراجعة السلطات وخاصَّة السلطة الدينية في سياق عام تتحكَّم فيه إكراهات العولمة ومحاولة تجاوز السيطرة الاقتصادية إلى السيطرة الروحية وتنميط الثقافة والقيم وتدعمه سلوكات بعض المدّعين انتماءهم للإسلام و ما يشهده العالم من حين لآخر من أحداث العنف والتطرُّف والإرهاب واستفحال الظاهرة “الداعشية” باسم الإسلام ممّا جعل البعض يسارع إلى إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام ممّا يعني مكافحة الإرهاب ومحاربته يستلزم تجفيف منابعه الثقافية والمتمثِّلة بالخصوص في المدارس الدينية وبرامج التدريس في الدول العربية والإسلامية بشكلٍ عام، والدعوة إلى استبدال منظومة القيم الإسلامية، بالمبادئ الإنسانية الكونية القائمة على التسامح والتعايش وإلغاء التطرُّف الديني والصراع الطائفي، ومراعاة حقوق الأقليات الدينية. ولعل إعلان مراكش 2016 يأتي في هذا السياق لمناقشة حقوق الأقليات الدينية في البلاد ذات الأغلبية المسلمة. معتبرا “صحيفة المدينة” الأساس المرجعي المبدئي لضمان حقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي، لذلك نجده يدعو المؤسَّسات العلمية والمرجعيات الدينية للقيام بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية وإنصاف الأقليات الدينية في المجتمعات المسلمة وصيانة حقوقها وتأصيل مبدأ المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتماءات في إطار المشترك في الوطن الواحد… كما أنَّ التفكير في إعادة النظر في المنهج والاستراتيجية المعتمدة في التربية الدينية والتربية الإسلامية بشكلٍ عام يبقى موضع تساؤل، فمنهجية إعطاء العبرة من خلال القصص والأحداث التي وقعت في الماضي بشكلٍ عام و التركيز على جانب المعاناة والعقاب والحرمان كأسلوب تربوي يبقى ربما غير مجدٍ، ولأنّ الدراسات الحديثة في التربية تؤكِّد على التربية الإيجابية والمستقبلية في إعداد الشخصية السليمة والمتوازنة عكس التربية السلبية و المبنية على التجارب السابقة والتي قد تكون فاشلة وغير مناسبة للعصر. فأغلب القصص المعتمدة في المنهج الديني بشكلٍ عام والإسلامي بشكل خاصّ تجدها تعتمد الحرمان والعقاب والمعاناة، وبالتالي تقتضي الصبر والتحمُّل والإيمان بالقدر والسكون وعدم التدخُّل، وبالتالي الرضا بالوضع… في الوقت الذي تحتاج فيه الحياة إلى الإبداع والمبادرة وإلى السؤال والتنوير وإلى الإيمان بالتجربة الشخصية وبالمغامرة ومواجهة الحياة بالأمل وبالإيجابية حيث منطق الثنائية للشرّ والخير وكذا للسلبي والإيجابي، يقتضي منا أن نختار الخير والإيجابية عوض الشرّ والسلبية… فالله تعالى وحده خلق الكون على مبدأ الثنائية فعلينا كبشر أن نختار ما هو أساس لنا أولا ثمَّ نحاول أن نثبت وجوده بالنصف الآخر أي بالأضداد تتبيَّن لنا الأشياء. فعوض معاقبة الأفراد وتربيتهم على أن العاصي والكافر والذي لا يحترم الدين فالنار مصيره، في نظري منهجيا العكس هو الصحيح أن نكثر في الأمل وفي الشقّ الثاني الإيجابي في الدين فالجنَّة وكل ما هو إيجابي هو الأساس في التربية الدينية وليس العكس. أي أسلوب ومنهج التربية الإيجابية والمستقبلية هو الطريق الصحيح في التربية الدينية والتربية العامَّة والتنشئة المجتمعية. فأغلب المجتمعات العربية والإسلامية كلها مجتمعات سلبية وتقوِّم الأفراد والمؤسّسات بشكلٍ سلبي قبل الإيجابي، وبالتالي تصنّف ضمن المجتمعات السلبية.
أي أن ثقافتنا ثقافة سلبية وتؤمن بالإحباط وبالنقص وبالدونية عكس بعض المجتمعات التي تؤمِّن بما هو إيجابي وتعمل على تشجيعه وتنميته لكي يتغلَّب على ما هو سلبي. ولأن في الفرد معا ما هو إيجابي وما هو سلبي فالأسرة والمدرسة وجميع المؤسّسات التربوية هي التي تنمّي أحدهم على حساب الآخر. وفي نظري فالمنهج والثقافة الدينية عامَّة والإسلامية خاصَّة تعمل إلى حدود اليوم على تنمية الجانب السلبي على حساب الجانب الإيجابي في الوقت الذي يمكن أن ينمّي الخير للقضاء على الشرّ والطاقة الإيجابية للقضاء على الطاقة السلبية وربما تحويلها. فكفانا من التعامل السلبي والثقافة السلبية والدين السلبي، وهلما لتنمية ما هو إيجابي في الأفراد والمجتمعات والثقافات والحضارات. ولأنَّ الحياة جميلة قبل أن تكون غير ذلك، ولأنَّ الإنسان في أصله طيِّب، لكن يد الحضارة أفسدته. فلا مجال للمسودة (Pas du brouillon dans la vie il s’agit du propre) في الحياة فالفرصة واحدة وثمينة، وبالتالي العيش الجميل والتفكير الإيجابي هو سرّ النجاح في الحياة والإقبال عليها.
وختاما يبقى هذا الرأي مجرَّد وجهة نظر في القراءة الحقيقية لواقع المسلمين، ومساهمة في النقاش العلمي والتنويري حوله. وعلى سبيل الختم أودُّ، أن اشير إلى أنّنا اليوم في حاجة ماسَّة إلى إعادة قراءة الواقع المعيش بشكلٍ عام مع ضرورة تحديد الأولويَّات، وبالتالي المصالحة مع الذات المسلمة بكل مكوناتها ثم استحضار البعد الكوني الذي هو روح الرسالة المحمّدية، ثمّ البعد القيمي الأخلاقي بالدرجة الأولى والتنمية الشاملة وكيفية العيش المشترك فوق هذه البسيطة. دون نسيان ربط الدين بالمعاملات وبالتغيرات المجتمعية وبالتحولات السياسية والاقتصادية الثقافية والتكنولوجية. واستحضار أهمّية العقل والعمل والعيش والبعد الإيماني في التربية الدينية والأخلاقية والتركيز على ما هو إيجابي قبل ما هو سلبي.