وفقاً لاعتقادي فإن بنية المجتمع العربي تستند إلى التوجّه القبلي والمؤسّسة الدينيَّة الكلاسيكيَّة وفضاءات الاجتماع التقليديَّة، وغيرها من المقوّمات تميل للوقوف بوجه قراءة معاصرة ومتطورة للحياة بكل تفاصيلها، خصوصاً في مجالها العام.
والأشد إشكالاً، في تصوري هو أن مجتمعاتنا تبدو عاجزة عن إحداث التنمية البشريَّة المطلوبة، وإن وجدت فإنها تتم بشكلٍ عشوائي لا يتبلور إلى حالة تراكم الخبرات وتواصل الإبداعات واستمرار الإنجازات، وقياساً كما نرى في مجتمعات أخرى. كما لم تطغ حرك التغييرات الاجتماعية الحادثة من القاع إلى القمة، باعتبارها الانعكاس الطبيعي لنتاج المؤسسات المدنية المعاصرة، ذلك لأن الأخيرة ما زالت ضعيفة، وخسارة جولات صراعها مع الإسلام السياسي حديثاً خير مثال على ذلك.
وَهَن هذه المؤسسات وفقدان التنمية البشرية المطلوبة أدى بالتالي إلى عدم حدوث التأهيل الحضاري للمجتمع، وانطلاق المشروع المدني المتكامل لبناء القدرات ورفد إبداعات المجتمع المختلفة. فالسياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم وغيرها هي فواعل اجتماعية بفارق التفاصيل. هذا فضلاً أن حضريتنا المتواضعة راهناً لم تنبع من ذات مجتمعاتنا لأننا لم نكن قادرين على إنتاج المصطلحات الفكرية أو إفراز المفردات المفاهيمية والمرادفات الثقافية أو تواصل وحدات النسيج المجتمعي وغيرها. حضريتنا (وبتعبير آخر مدنيتنا) كانت مستوردة، وما زلنا نستورد منها كلما احتجنا لها، كما نرى منطقة الخليج مثالاً لا حصراً: فنادق فاخرة وسيارات فارهة وأجهزة إلكترونيَّة حديثة في كل مكان، وهكذا.
بالمقابل أصيبت مدن المجتمع العربي بآفة الترييف ما أدى إلى تراجع خطير في حضرية ومدنية المجتمع-المتواضعة أساساً- والترييف كما نعرف يحدّ من حضريَّة الدولة وحضريَّة الدين.
وتلاحظ انعكاسات حالة الترييف على الدولة أيضاً، وتجسدها في حكم العائلة الواحدة، مثالاً، الأمر الذي ساهم بانعدام تكوين مؤسسات دولة بالمعنى المطلوب، بل حكومات بملامح بدوية سلطوية واضحة للعيان، تستبدل الواحدة بالأخرى من دون إفرازات عمليَّة ملموسة. يموت السياسيّون في بلداننا وهم تحت خيمة الولاء للحزب والعشيرة، وليس بإمكانهم الخروج من الخيمة لممارسة مهنية السياسة، بل يبقى الكثير منهم ضمن حدود ايديولوجيته للحصول على المال والجاه.
انهيار حضرية المجتمع وانهيار حضرية الدولة (أو الحكومة بتعبير أدق) لهذا لم يبق لنا إلا حضرية الدين.. ولا نعني بالدين البعد المطلق أو المقدس فيه، وإنما بحالة التدين أو الممارسة الاجتماعيَّة للدين المتمثّل بالمؤسٍّسة الدينيَّة الكلاسيكيَّة، أو الفعل السياسي المعاصر كالإسلام السياسي والسلفية وما شابه.. أي تطبيق مقاسات المؤسسة الدينية ومعايير الإسلام السياسي وقواعده (ليس بالضرورة القرآن) على القيم والعادات والتفاصيل الأخرى في المجتمع. فترى رجل الدين الإسلامي يتوجه بالزي المدني والسلفي بالدشداشة القصيرة، يتحركون في الدائرة ذاتها، ويرجعون إلى عين المصادر البشرية الأولى، ويقاربون رؤية الأمور عبر نفس النظرة.. فالمدني في ملبسه قد يختلف عن رجل الدين أو السلفي ظاهراً، لكن تحت زيه المدني يختفي جلباب الدين.
ويمكن اعتبار الحرية النتاج الفعلي لمقومات التحضر والتمدن، فحاجز الخوف تهدم على صعيد السياسة، لكن تحدي السلطة الدهنية بشكلها السلفي أو السياسي أو المؤسساتي، ما زال ماثلاً بقوة في النسيج الاجتماعي والفكري، فالتكفير هو بمثابة التهمة الجاهزة التي عادة ما ترفع بوجه كل وجهة نظر مخالفة، وربما يعد التونسي شكري بلعيد المثال الأكثر حضوراً في هذا المضمار حديثاً.
وإذا كانت مقومات التحضر هي المدنية، فمنظمات المجتمع المدني ضعيفة ولا يكاد حجم تأثيرها يخرج بعيداً عن الأطر الضيقة، وإذا كان من مقومات التحضر سلطة القانون وليس سلطة الضمير، فدساتيرنا، حتى الجديدة منها، ما زالت تحمل طابع القروسطي وتحمل بين طياتها الكثير من المثالب.
وبما أن التدين ممارسة اجتماعيَّة، فالسؤال الجوهري هو: هل الدين مكمّل للمدنيَّة؟ والجواب الواضح والصريح: نعم، لأن الإنسان أساس المدنية، وجوهر القرآن في خطابه هو الإنسان.. فالدين جاء لخدمة الإنسان وليس العكس.. ومن منطلق (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ). وقلب المدنية تكمن في الحداثة، وأؤمن أن خطاب القرآن كان لتحرير الإنسان ودفعه للأمام.. بدل ثقافة (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) … كما في الآية الحكيمة.
العمل على مدنيَّة الدين خطوة واضحة المعني والمقصد لتحديد مدنيَّة المجتمع وارتقاء مقوّماته.