رغم اتساع الأمية الأبجدية في مجتمعاتنا، إلا أن أميَّة جديدة تبلورت وهي الأميَّة الفكريَّة. وإذا كانت نسبة الأميَّة الأبجديَّة مرتفعة، فإن الأميَّة الفكريَّة والأميَّة والثقافيَّة أشد وأقسى، حيث تهدد هذه الأميَّة النخب المتعلمة، إذ أن أعداداً ليست قليلة من حاملي الشهادات الجامعية يعانون من “أميَّة ثقافيَّة” لأن دراستهم اقتصرت حصراً على المناهج المقررة سلفاً، التي تعتبر قاصرة عن صنع عقل ناقد ومبدع.
الأميَّة في جوهرها وتأثيراتها السلبيَّة قريبة إلى حدٍّ بعيد من الأوبئة، السريع في انتشاره، والقاتل في نهاياته، وما لم تستأصل مجتمعاتنا ذلك المرض بين صفوف أبنائها، فمصيرها المعاناة من اتساع نطاقها، أبجديَّة كانت تلك الأميَّة أم حضاريَّة.
على الصعيد العملي، تخرج الحالة العربيَّة، من إطار التصنيفات العالميَّة، ذلك أن توزيع أكثر صحيفة عربيَّة لا يتجاوز 800 ألف نسخة، في حين أن سكان الوطن العربي يتجاوزون 330 مليون نسمة. وللهروب من المقارنة مع اليابان (الأولى عالمياً وفقاً لعدد السكان) ستجد أن الهند تحتل مرتبة بين أكثر مئة صحيفة توزيعاً في العالم، أي ما يعادل 23 مليون نسخة في اليوم.
وإذا اعتبرنا أن الصحف ليست مقياساً للقراءة، فإن الكتب ليست أفضل حالاً عند العرب، إذ يطبع في المملكة المتحدة سنوياً حوالي 206 آلاف عنوان، حيث عدد سكان المملكة 65 ميلوناً. ويطبع في الوطن العربي حوالي 20 ألف عنوان، حيث عدد السكان يزيد عن 330 مليوناً، وهنا لا مجال للمقارنة أو إجراء أي إحصاءات.
الأرقام العالمية حول الإنتاج الفكري العربي مخيفة، إذ أن الإنتاج الفكري للعالم العربي أقل من 1% من الإنتاج الفكري العالمي الذي يمثّل كثر من 5% من عدد سكان العالم، أي أن نسبة العجز تصل إلى أكثر من 80% وهذا ليس مفاجئاً إذا علمنا أن نسبة الأميَّة مرتفعة في العالم العربي، ولا يمكن مطالبة الأمي بالقراءة ومتابعة الصحف. أما المفاجئ فهو وجود فجوة كبيرة بين نسبة المتعلمين ونسبة القراءة. وهذا ما يجعل الأمر يحتاج إلى كثير من التدقيق فيما تخرجه الجامعات العربية، والأهداف الحقيقية من وراء حمل الشهادات.
يؤكد مثنى كاظم صادق في مقاله المعنون: “الأمية الثقافية أخطر من الأمية الأبجدية” إن ما يحدث من حمم ساخنة تقذفها بعض من مناطق ودول منطقتنا العربيَّة هي نتيجة بروز طبقة من متعلمي أبجدية الحروف والقراءة فقط دون تكون معرفي إنساني بالثقافات الأخرى لديهم لذلك تجدهم متمسكين بتلابيب تعليمهم الأول وثقافتهم البيئية دون الاطلاع إلى الغير.
فمصطلح مثقف فيه إشكالية ومغالطة كبرى بلصقه للطبيب والمهندس والأستاذ الجامعي والمعلم والمحامي والضابط إن لم يكونوا قد ألموا بشيء ما من الآداب والفنون والعلوم، لذلك تجد أن بقع التعصب والتطرف الديني والسياسي قد تفشت واستفحل في العقدين الأخيرين بسبب ظهور وبروز الأمية الثقافية من قبل المتعلمين أو أنصاف المتعلمين الذين لا هم لهم سوى نبش ما حدث قبل مئات السنين واستثماره وتوظيفه في الوقت الحاضر لأغراضهم الشخصية وللضحك على ذقون الحمقى والمغفلين ممن تبعهم. فالمثقفون على قلتهم وعدم قدرتهم على التأثير في المجتمع لأسباب معروفة قد أقصوا عن الساحة ووضعوا في الهامس بدلاً من أن يكونوا في المتن.
المستشار محمد العشماوي يطرح رأيه في مقالته: “محو الأميَّة الأبجدية والثقافية والسياسية قبل أي إصلاح” بضرورة الإصلاح في النظامين التربوي والثقافي لتخطي حالة الأمية التي تحاصرنا قائلاً: ” بدأ الانزلاق واستمر بسبب الأمية الأبجدية والأمية الثقافية والسياسية، لكن الأخطر فيه أنه جمد وشدد من هذه الأمية المثلثة أو الأمية بالثلث (بتشديد الثاء الأولى) وجعل من التصرفات والتحركات الناشئة عنها، وهي جهالة وضلالة، أصول العقيدة وجذور الشريعة.
ويضيف: يكون الإصلاح الحقيقي، الذي يؤتي ثماره ويطرح نتاجه، بعد القضاء على ألأمية الأبجدية والأمية الثقافية والأمية السياسية، بحيث يصير الفرد، كل فرد مستقيماً دون عوج، منفتحاً بغير انحراف، عدلاً لا ميل عنده ولا هوي. فيستطيع بذلك أن يدرك أصول المسائل وأن يعرف حدود الأشياء وأن يعقل منطق الأمور. فالإصلاح من ثم عملة ذات وجهين؛ وجه منها هو التنوير بالقضاء على الأمية الأبجدية، والأمية الثقافية والأمية السياسية، والوجه الآخر هو الإصلاح السياسي الذي ينبني على حكم القانون ومبادئ حقوق الإنسان والنزاهة والشفافية، ومبدأ المواطنة، حيث يتساوى الجميع أمام القانون، وتكون الحقوق والالتزامات ناشئة من الدستور غير ممنوحة من أحد، وهذا هو الذي يربط الناس بأوطانهم، التي يجدون فيها الأمن والعدل والسلام.
أما هاني المعلم فيرى في مقاله “أمية القراءة والكتابة أم أمية الوعي الحضاري؟” إن الوعي الحضاري الحق يستلزم عملاً دؤوباً يبدا بتصحيح وتعديل آليات التفكير والنظر، بالاعتماد على العقل والبرهان، وغربلة ونفض غبار الأفكار القديمة والبالية التي أسرتنا وجففت منابع الإبداع والإنتاج، حيث يقول: ” يستخدم مؤشر أمية القراءة والكتابة في مجتمع ما، لقياس مدى كفاءة النظام التعليمي في هذا المجتمع، ولقد سجل العالم العربي أرقاماً مفزعة في هذا المجال. فكما نشر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2006 أنه على الرغم من ارتفاع معدل القراءة والكتابة بين البالغين (15 عاماً فأكثر) من 30% عام 1970 على 64% عام 2003، إلا أن معدلات الأمية في الوطن العربي لا تزال أعلى بقليل من المتوسط الدولي في بلدان النامية الأخرى، وليس أقل منها إلا في أفريقيا وجنوب الصحراء! ومن الأرقام المفزعة أن عدد الأميين المطلق (الذين لا يجيدون القراءة والكتابة) في العالم العربي في ازدياد. وأرقام كثيرة يمكن أن تذكر في هذا المجال: معدل القيد في التعليم العالي، ولا شك أن هذه الأرقام لها ودلالاتها ولكن إلى أي مدى، وما مدى صدقية هذه الدلالات؟
يشرح الدكتور أحمد الترتوري في كتابه (نظرية المعرفة والواقع التربوي العربي المعاصر) أن التقدم الذي سجله التعليم لم يخفف من حالات التخلف التي تشهدها الكثير من دول المنطقة، بالمقابل سيبقى التعليم عاجزاً عن المساهمة في التنمية، حتى لو تحسنت أداءات التعليم في البلدان العربية ضمن المؤشرات الكمية. فعلى الرغم من تحسن بعض المؤشرات الكمية للتعليم في معظم البلدان العربية، بل والنوعية أيضاً في بعض الأحيان، إلا أن حالة التخلف لا تزال تسجل حضورها في المجتمعات العربية. حتى لو افترضنا مزيداً من التحسن الكمي والنوعي في التعليم العربي، فإن التوقعات تشير إلى عدم قدرة هذا التعليم على إزاحة حالة التخلف الجاثمة على العقل والواقع العربيين، والسبب في ذلك يعود إلى تخلف الوعي العربي نفسه، ذلك الوعي الذي تشكله الأبستمولوجيا (المعرفة) وتوجه مساره. بعبارة أخرى، فإن التعليم ليس هو المشكلة في حد ذاته، بل إن المشكلة تكمن في تخلف الوعي العربي نفسه، ومرد هذا التخلف عائد إلى نظرية المعرفة التي تشكل هذا الوعي، لأن إعادة امتلاك الواقع معرفياً هو السبيل لإعادة امتلاكه عمليا.
من جانبه يقول الدكتور خلدون النقيب إنه مجرد إبعاد للطلاب عن الشوارع، ومبرراً لتأخير سن الزواج، ومجر إعطاء شهادة بأن شخصاً ما قد انتظم في المدرسة وتخرج فيها، وبالتالي فهو مؤهل لشغل وظيفة ما… وسيصبح التعليم مجرد تهيئة للأجيال القادمة ليس على الاختلاس والتدليس بصورة ذكية وحسب، وإنما اكتساب القدرة على تبرير الاختلاس والتدليس، وإخراج أجيال من الشباب تساق كوقود لمعارك التعصب الديني والإثنين في مجتمعات لا يستطيع مواطنوها بسبب النقص في تعليمهم استشراف مستقبل أفضل، فهم لا يقدرون أن يفلتوا من أغلال الواقع المادي المحيط بهم، ومن براثن الجهل بالأمور وما يولده هذا الجهل من تعصب وخنوع، فليس كل الجهل عدم الإلمام بمبادئ القراءة والكتابة.
الباحثة اللبنانية في مجال التربية والتعليم كارلا خطار تحدد في مقالها ” تجاوز محو الأمية.. نحو تطوير المهارات” مفهوم الأمية وتعريفها ضمن السياق الحياتي، فتقول: في عصر التكنولوجيا لم يعد مفهوم محو الأمية محصوراً بفك الحرف إذ اتسع ليكون بمستوى التحديات، بحيث امتد ليشمل في دول كثيرة تطوير القدرات من خلال التعليم المستمر وصولاً إلى مفاتيح الكمبيوتر.
والأمية ليست جهلاً بالثقافة العامة، بل أعمق وأدق من ذلك، إذ تعرف رسمياً بأنها جهل بلغة البلد والوطن.. أي اللغة الأم وهي العربية، فالأمي مرتبط بموروث ثقافي واجتماعي تعمل الجمعيات على استقطابه في برنامجها لمحو الأمية، وبحسب تعريف اللجنة الوطنية لمحو الأمية، الأمي هو من لا يمتلك الحد الأدنى من قدرات القراءة والكتابة وإجراء العمليات الحسابية بما يمكنه من تطوير وعيه وقدراته وتوظيفها في عمله ومحيطه الأسري والاجتماعي. وتطبيقاً لشعار (أتعلم كيف أتعلم. أتعلم لماذا أتعلّم. أتعلَّم كيف أكون) يتعلم الأمي كل ما له علاقة بالحياة التي يعيشها بلغةٍ تناسبه وتردّ على حاجاته الإنسانية وتمكنه من استكمال تعليمه إذا أراد.
وتضيف خطار في مقالها: ” تشير دراسة إحصائية أعدتها منظمة الأمم المتحدة ومركز الأونيسكو للإحصائيات إلى تطور مستوى التعليم لدى النساء في الدول العربية. وشملت الدراسة الإناث من عمر الـ15 حتى الـ24. وتشرح مساعدة مدير معهد الدراسات النسائية في العالم العربي في الجامعة اللبنانية الأمريكية أنيتا نصار أن: “النسبة التي يحدّدها الرسم البياني تمثل النساء بين عمر الـ15 والـ24 اللواتي يمكنهن قراءة نص قصير وفهمه وكتابته، والنصوص هي عبارة عمّا يحتجنه في حياتهن اليومية. والإحصائيات، التي أعدت بين سنتي 1999 و2008، لم تكن متوافرة في كل السنوات، إنما أظهرت بوضوح تراجع نسبة الأمية حيث ارتفعت نسبة النساء اللواتي يمكنهن التعبير عما يردنه بواسطة القراءة والكتابة والفهم.
ويعرف الدكتور محمد فؤاد شاكر- أستاذ ورئيس قسم الدراسات الإسلامية في جامعة عين شمس، الأمية الفكرية بأنها عدم إعمال العقل في فهم النصوص وإدراك الوقائع والتفكر فيما ينفع الناس ويصلح الحياة، مما يوجد فجوة بين الفرد من جهة، وبين النص والواقع من جهة أخرى، وتعني المية الفكرية- أيضا- عدم القدرة على إنزال النصوص على الواقع بطريقة سليمة وعدم القدرة على إلحاق الجزئيات بالكليات، والفرعيات بالأصول والوسائل بالمقاصد .. كل ذلك نتيجة أخطاء فهم النصوص وتقويم الواقع.
ويرى الدكتور الطيب بيتي العلوي، الباحث الأنثروبولوجي المقيم في باريس، والمستشار السابق لمنظمة اليونسكو، في بحثه المعنون “فقه الفتن وحكم التاريخ” إن دور الفتن من وجهة نظر اجتماعية- نفسية في خلق باردايم العنف، عنف سنة-شيعة، عنف إسلام، علمانية. ويعتقد الباحث إن دور التاريخ وعلماء أمثال الشيخ ابن تيمية في إذكاء الفتن مما انعكس سلباً على الجانب الاجتماعي والثقافي.
ويتناول الباحث والأكاديمي الأمريكي د. روبرت ريلي في دراسة حديثة لكتاب بعنوان: “إغلاق العقل المسلم – كيف خلق الانتحار الثقافي أزمة الإسلام الحديثة” مشكلة العنف في العالم الإسلامي باعتبارها ليست نتيجة أسباب اجتماعية كالفقر، وإنما لخلل أصاب عقل المسلم أثر سلسلة تطورات شهدها الفكر الإسلامي، وكيف تعامل علماء السلف مع العقل، خاصة بعد تعرفه على الفكر اليوناني في عهد الخليفة العباسي المأمون متسائلاً: لماذا لا تحصل النهضة في العالم الإسلامي بعد كبوته على غرار ما حصل في الغرب؟
ويستعرض المؤلف ما حصل للفكر الإسلامي
وصعود حركة المعتزلة الفكرية العقلانية واعتمادها على العقل في تفسير النصوص
الدينية وأولوية العقل على النقل التي تراجعت بسبب رد الفعل من قبل الإمام أحمد بن
حنبل، مؤسس المذهب الحنبلي، وبإسناد من الخليفة المتوكل واضطهاد المعتزلة وإحراق
مؤلفاتهم، وتميز الحنابلة عن غيرهم بميلهم إلى استخدام العنف ضد كل من يختلف معهم.
حيث يرى أن الوهابية المعاصرة هي امتداد للحنابلة ولم يتعاف الفكر من هذا الانحطاط
( الذي بدأ في القرن 11 الميلادي على يد الأشعري فكريا والمتوكل سياسياً) لغاية
الآن، كذلك انقضاض الإمام أبو حامد الغزالي على الفلسفة ونشره كتاب “تهافت
الفلاسفة”.
فالعقل بالنسبة للغزالي هو العدو الأول للإسلام، وعلى المسلم الاستسلام، وظهور ابن
تيمية المتأثر بالمذهب الحنبلي المتشدد وتأثيره البالغ على مسيرة ارتداد الفكر، إذ
لم يتمكن فيلسوف الأندلس المتنور ابن رشد وجوابه على الغزالي بعد أقل من قرن في
كتابه “تهافت التهافت” من تحريك الفكر الإسلامي، بعدما وقفت السلطة
الحاكمة في الأندلس ضده وأحرقت مؤلفاته (108 كتابا) في ساحة المدينة، وهكذا انتصر،
كما يرى المؤلف، الغزالي والأشعري على ابن رشد، وانتصر النقل على العقل، وعلق باب
الاجتهاد، وتفاقمت وضعية العنف وارتدت قيمة الأفكار مع ظهور محمد بن عبد الوهاب
مؤسس الحركة الوهابية.
ويجيب الباحث عن السؤال الذي طرحه عن عدم
حصول النهضة في العالم الإسلامي، والسبب هو تعطيل دور العقل المسلم، فالإنسان
يتمتع بغريزة حب الاستطلاع والفضول وكسب المعرفة وإخضاع كل شيء للسؤال وتوسيع
مداركه بالمعرفة، ولولا هذا الفضول لما حصل التقدم الحضاري والمعرفي.
ولا يرى الباحث غرابة بعد كل هذا الجهد أن تصدر فتاوى غريبة مثل فتاوى إرضاع
الكبير أو جهاد النكاح أو فتاوى العنف.
وقدمت منتديات “ستار تايمز” عبر أرشيف الطفل والطفولة، إحصاءات مهمة عن الأمية الأبجدية ودورها في تهميش الطفل في عصر ثورة المعلومات، حيث ترى زيادة معدلات الأمية لدى المرأة، إ ذ قدرت منظمة اليونسكو أن أكثر من 80 مليون امرأة في العالم النامي لم يلتحقن بمقاعد الدراسة، وبينت تلك الإحصاءات المعاناة التي ستشهدها الدول الإسلامية مستقبلا، علما أن أمية المرأة هي أشد خطورة من أمية الرجل، وعلى سبيل المثال أن عدد سكان باكستان يقدر حوالي 140 مليون، ولا تتجاوز نسبة محو الأمية للنساء 48%، الأمر الذي يشير إلى تراجع مهمة محو الأمية فيها، وتعد الأمية من أخطر عوامل التهميش في عصر ثورة المعلومات، في هذا الإطار تشكل الأمة الإسلامية خمس البشرية وثلث العالم النامي، لكنها تتموضع في أسفل قائمة الأقل تعليما.