يجد المتابع للفن الإسلامي من خلال تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، هذا اللون الخاص من فن التصوير قد أستل مكانته بجدارة، إنه فن المنمنمات كما يعرف اليوم بهذا الاسم، والمسمى قديماً بـ “التزاويق”.
طور الفنان المسلم فن المنمنمات الذي ورث أصوله من الحضارات السابقة على الإسلام، خاصة الحضارات الهندية والفارسية، وما يؤكده بشكل مباشر، أنّ أول كتاب عربي ظهرت فيه المنمنمات كان “كليلة ودمنة” وهو في أصله كتاب هندي، ترجمه الفرس إلى لغتهم قبل الإسلام بعدة قرون، ثم ترجمه ابن المقفع إلى اللغة العربية مطلع القرن الثاني الهجري.
تميزت عبارة منمنمة بسعة دلالتها، فهي ذلك الإنتاج الفني صغير الأبعاد، يتميز بدقة في الرسم والتلوين، فالمنمنمة هي صورة ملحقة بنص مكتوب، والصورة غير مستقلة وقائمة بذاتها، بل تعتبر عنصراً مكملاً للكلمة. وقد أسهمت تلك المنمنمات بصورة واضحة في نقل صور الحياة والبيئة والعادات والطقوس والتقاليد وأنماط السلوك والأعياد والفلكلور والأحداث التاريخية وطبيعة المناخ والعمارة والأزياء والفنون العربية الإسلامية، مما جعلها تحمل منظومة من الرموز والإشارات التي من خلالها يمكن التعرف على اللمسات الجمالية والأخلاقية والإسلامية من خلال ارتباط البعد الديني الروحاني والدنيوي المعاش.
فنانون ومدارس
اشتهرت في هذا الفن مجموعة من الرسامين والمهتمين به كفن له قواعده وأساليبه، فبرعوا في توشية الكتب واللوحات بالرسوم، وكثر عددهم وتعددت طبقاتهم، حتى أن أحد المؤلفين- فيما يخبرنا به المقريزي- أفرد كتاباً عنهم عنوانه: “ضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوقين من الناس” ويعتبر الفنان الكبير يحيى بن محمود الواسطي (من القرن الثالث عشر الميلادي) من أهم الفنانين الذين أبدعوا في رسم المنمنمات من خلال (مقامات الحريري) وغيرها، وهو خير من استوحى من العبارة صوراً نابضة تساير الحوار، وهو الذي مزج بين روحين: روح النص، كما في المقامات، وروح الصورة التي تفيض بالحياة وتطل علينا حاملة دفء الحوار من خلال حركة الرسم ودقة اختيار الألوان والزخارف والخطوط التي تمنح المضمون الأدبي بعداً شكلياً متمماً هيكل المقامة السامق. وهناك فنانون آخرون أبدعوا أيضاً في هذا المجال مثل الفنان كمال الدين بهزاد (1440م- 1514 م) والفنان محمد خان شيباني والفنان مظفر علي، ومن المتأخرين الفنان محمد راسم الجزائري (بدايات القرن العشرين).
ولفن المنمنمات مدارس عدة أهمها: المدرسة البغدادية والمدرسة الهندية، ثم المدرسة المعاصرة المغولية والمدرسة التيمورية، ثم المدرسة الصفوية والمدرسة المملوكية والمدرسة التركية.
والمتأمل في المنمنمات يجد فضاءات من الجمال تثير دهشته على هذا السطح الغني بالتفاصيل الدقيقة التي لا تمل العين من متابعتها. وهذا الثراء اللوني والتنوع الكبير داخل كل منمنمة، كما يلفت الانتباه أن هذا الإبداع قد استغنى عن قوانين المنظور، حيث يجد الناظر نفسه أمام رؤية أفقية للعالم، وكأنه يراه بعين علوية أو بحدقة طائر حاد البصر وقد انبسط العالم أمام ناظريه بشكل يضج بالبساطة الغنية بالدلالات وبالمعاني.
السمات الأبرز:
غالبية المنمنمات تؤكد على البعدين الأفقي والرأسي، مبتعدة عن إبراز البعد الثالث الذي يقترب بالصورة من التجسيم، فتظهر شخوص الصورة مسطحة وكذلك كل المخلوقات المتواجدة على سطح العمل المرسوم.
عناصر العمل الفني الداخلية في اللوحة كالإنسان والحيوان والنبات، لها علاقاتها الخاصة، تختلف عن علاقات العالم الخارجي والواقعي، فالقوانين الهندسية التي تعتمد المنظور والأبعاد الثلاثة في بناء المشهد، تستغني عنها لوحة المنمنمات، ويحاول من يسرد الحادثة على سطح المنمنمة أن يبدأ من أعلى إلى أسفل أو العكس، أو من يمين المنمنمة إلى يسارها أو بالعكس، أو بشكلٍ لولبي، ويتضح ذلك عند النظر إلى اللوحة ورؤية اختلاف المقاييس والنسب والاحجام الموجودة بين الكائنات على اللوحة، عنها في الواقع، فأحياناً نرى صورة شخص بعيد بمقاييس تكون أكبر من شخص قريب، أو نرى أشخاصاً أكبر حجماً من الأشجار الضخمة المحيطة بهم، وذلك يتم بملاحظة أهمية ومركزية ذلك الشيء في الوجود. وهذا ما جعل الفن المرسوم ضمن إطار الحضارة الإسلامية ومن خلال منظومتها الإيمانية يختلف عنه في سياقات العمل الفني في الحضارة الغربية، خاصة في الابتعاد عن التشخيصية ومحاكاة الأشياء كما هي، وتتوزع الموجودات على سطح اللوحة(المنمنمة) حسب قربها وبعدها عن المدلولات الإيمانية أو حسب الأهمية النوعية للمرسوم، ولذلك نرى الرسام يبعد عن مقدمة اللوحة بعض الموجودات الثانوية وغير المهمة ليمنح قيمة لما وضعه في المقدمة فتصبح كعناصر تغني الرسم الرئيسي والمهم في اللوحة.
ومن ميزات المنمنمات الإسلامية، أنها تبتعد عن الصور الشخصية الخاصة والفردية، التي لها وجود فعلي معين يمنحها الكثير من الخصوصية. المنمنمات عادة تملأ هوامشها الخطوط والزخارف والألوان. فن المنمنمات يخاطب الروح بما له من أبعاد تبهر البصر وألوان لها من الجمال ما يدخل البهجة في نفس الرائي.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.