أجمعت الدراسات الأكاديميَّة الحديثة على أنَّ العنف هو نمط من أنماط السلوك المكتسب الذي يمكن تغييره، له جذور مركَّبة نابعة من طبيعة البيئة والمحيط الاجتماعي، ويكمن في أعماق كل إنسان في أغلب المجتمعات، ولكن بدرجات متفاوتة… ويبرز إلى السطح عندما يكون مقروناً بدوافع نابعة من قساوة القيم والعقائد الاجتماعيَّة المعقَّدة.
ويمكن القول إنَّ العنف بكل أشكاله: الاجتماعي، الثقافي، السياسي، الاقتصادي، الجسدي، النفسي، الجنسي… إلخ، له أرضيَّة متجذِّرة في أغلب مجتمعاتنا لأسباب متعدِّدة منها ما يتعلَّق بضعف الروابط الاجتماعيَّة وتصدُّع القيم الدينيَّة والأخلاقيَّة في كيان الأسرة التي تقوم بمهمَّة التربية الاجتماعيَّة، ومنها ما يتعلَّق بالتخلّف الاجتماعي الذي يؤدّي إلى استفحال قيم الثأر والانتقام في النزعات العشائريَّة وغيرها.
وتسهم الثقافة العنفيَّة في ميدان الفكر والسياسة بدور كبير في تصعيد وتيرة العنف وانتشاره، فالتاريخ يكشف لنا عن الكثير من الأحداث الدمويَّة التي مارستها المافيا السياسيَّة ضدّ شعوبها، حيث لعب العنف السياسي الدموي دوراً ملحوظاً في ترسيخ ثقافة العنف لدى شرائح واسعة من الناس. بالمقابل أدَّى غياب الكثير من القيم والأعراف الإيجابيَّة في مجتمعاتنا، نتيجة المتغيّرات السياسيَّة الكبيرة في فترات الحروب والاحتقان الطائفي والإثني، إلى جانب الانتشار الواسع لظاهرة الفساد والبطالة وغياب الهدف السامي، إلى تغذية منابع العنف والتطرّف بشكلٍ كبير، إلى الدرجة التي أصبح فيها المجتمع مفتوحاً على كل المنافذ التي تعزِّز ظاهرة ثقافة العنف والتعصُّب.
وتشير الدراسات إلى أنَّ النشوء في بيئة اجتماعيَّة يغلب عليها طابع العنف، سيكون مطبوعاً بها وملاصقاً لها، لتنتج بالتالي شخصيَّة مكبوتة ومصحوبة بحالة من الخوف والقلق، نتيجة عدم التكافؤ الاجتماعي، وصعوبة مواجهة الحقائق التي يفرضها الواقع، ممّا ينتج ثقافة عنفيَّة، وتكون بوتيرة أعلى إذا كان الشخص مأزوماً، وبهذا يتحوَّل العنف الفردي إلى ظاهرة عامَّة تؤطِّر شرائح واسعة من المجتمع .. الذي سيصبح بدوره حاضنة لثقافة العنف.
وتؤكِّد إحصاءات منظّمة الصحَّة العالميَّة التابعة للمنظّمة المتّحدة أن ثلثي النساء في العالم يتعرضن للإساءة والأذى البدني جراء العنف الذي يرتكب ضدّهن، ليتحوّل المنزل بالتالي الحاضنة المجتمعيَّة الأولى للعنف، وكثيراً ما تتّسع الدائرة بعدها منطلقة إلى فضاءات أوسع، ليتحوَّل من خلالها العنف الفردي إلى حالةٍ تتفجَّر فيها الطاقات المكبوتة عبر أداة وأفكار عنفيَّة.
ثمَّة دراسات تؤكِّد بأنَّ العنف يبدأ في مراحل الدراسة الأولى، من خلال الأساليب التعليميَّة البالية المقرونة بمنظومة العلاقات التسلطيَّة، ونتلمّس آثار هذه الظاهرة بشكلٍ أوضح حين تكون الدولة ضعيفة مع انهيار سلطة القانون، وفشل المجتمع تحقيق التوازن والتكافل الاجتماعي.
وبحسب رأي الكثير من الباحثين فإنَّ العنف الاجتماعي أصبح ثقافة سائدة واضحة المعالم في مجتمعاتنا العربيَّة والإسلاميَّة، نتيجة عوامل عدَّة ساعدت على ارتفاع وتيرته:
. التحريض الإعلامي السلبي من خلال وسائل الإعلام التي تعمل على نشر ثقافة العنف والتطرّف التي تناغمت مع الشعور النفسي الدفين لدى الكثير من الأطراف التي تشعر بأنّها مهمّشة في إطار المجتمع.
. افتقاد مواقع التواصل الاجتماعي الحديثة إلى ثقافة الحوار واحترام الرأي، فكثيراً ما تثار الأحاديث التي تغذّي الأحقاد والتعصّب والكراهية من منطلقات فكريَّة ضيِّقة.
. الجمود العقلي ومحدوديَّة المعرفة والثقافة لشرائح واسعة من مافيا السياسة والدين والذين لهم تأثير سلبي مباشر على إعاقة نشر الكثير من القيم الإنسانيَّة الأساسيَّة مثل التسامح والحوار وتقبّل الرأي الآخر.
. الخطاب الطائفي وما يرافقه من تطرّف واحتراب يؤدّي إلى تعميق ثقافة العنف.
. انتشار السلاح وسهولة الحصول عليه، الأمر الذي دفع الكثير من الشباب إلى حمله والانخراط في مسلسل العنف.
. تعدّد الحروب وتنوّعها واختراقها حياة المجتمعات لتهدِّد بالتالي حالة السلم الأهلي.
وبهذا يمكن القول بإنَّ العنف السائد اليوم في أغلب المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة، العديد من الأسباب التي أدَّت تالياً إلى نتائج ما زالت تلك المجتمعات تحصدها. ولأجل الخروج من دائرة العنف بكل أشكاله وترسيخ حالة السلم الأهلي والحدّ من الغليان الاجتماعي لا بدّ من السير في طريق الاستقرار والمدنيَّة والتعدّديَّة واحترام الآخر المختلف وتطوير أساليب التعليم والقضاء على الأمّيَّة، وبثّ الوعي الاجتماعي بكل أشكاله من خلال مؤسّسات اجتماعيَّة متخصّصة، وتطوير برامج التنمية البشريَّة، وتفعيل منظّمات المجتمع المدني، وإشاعة ثقافة إنسانيَّة تسهم في بناء الفرد بعيداً عن التطرّف والعنف.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.