كنا نطمح، رغم شكوك البعض، في إمكانيَّة الإسلام السياسي في صياغة نموذج سياسي- اجتماعي ترنو له الأبصار ويتلامس عمليّاً في تصالح الإسلام مع الديمقراطيَّة. ولكن، ما نرى اليوم هو تعثُّر عمليَّة التحوّل برمّتها.
وإذا تملكّنا الجرأة في تلفّظ عبارة “فشل الإسلام السياسي” لأحداث الانتقالات المجتمعيَّة باتّجاه الديمقراطيَّة.. فقد يكون استخدام كلمة “فشل” مؤثِّر في ثقافتنا، حيث تعني الكارثة، لذا فإنَّ البعض يتحاشى استخدامها، بينما يتمّ تداولها بشكلٍ طبيعيّ في الأمم الناجحة لأجل إعادة قراءة جذريَّة للمشكلة فيما يتعلّق بالمقدّمات، المجرى، التبعات والمآلات.
ما جرى في مصر حول الدستور إبّان حكم الإخوان ومحاولة أسلمة المؤسّسات والاستئثار بالمغانم وفشل التعامل مع الاقتصاد لم يكن خافياً. ليس هذا فحسب، بل لم يتمكّن الإخوان من وضع مؤشّرات أوّليَّة تعكس الرؤى العميقة لحداثة سياسيَّة مفقودة في بلداننا واستيعاب واقع مدني جديد لم يكن أثناء حكم مبارك.. دون أن نقترح الحل العسكري الحالي وفرضيته المربكة.
وللأحزاب الإسلاميَّة السياسيّة- من جميع المكوّنات الإسلاميَّة- الباع الأطول في العراق الجديد، التي تتداول الديمقراطيَّة اسماً، وفعليّاً يتمّ البناء المدني على أسسٍ خاطئة، إذ لا توجد مؤسّسات سياسيَّة، بل هناك سلطة ومحاصصة مقيتة قائمة على توزيع الوزارات والهيئات لهذا الحزب أو تلك الجماعة، ما أدّى إلى عدم القدرة لأحداث الشفافيَّة المطلوبة والمساءلة.
فالعراق يحتلّ
الرقم 3 في التقرير الأخير لقائمة منظّمة الشفافيَّة العالميَّة الخاصّ بالفساد،
بالمقابل النظام والطبقة السياسيَّة غير واعين لواقع اجتماعي وسياسي يتكوّن بعيداً
عن الصورة المألوفة لعراق صدام.
أمّا تونس التي ما زلنا نعوّل على تجربتها وبداية الطريق لدستور توافقي، فإنَّ
هامش الحرّيَّة فيها ما زال محدوداً لعدم إحداث أسس التحوّل المدني، أهمّ مقوّمات
الديمقراطيَّة، وما يقابلها من اغتيالات، بلعيد مثالاً لا حصراً، وتعثّر التخطيط
الاقتصادي، إضافة إلى أنّها ساحة مضطربة تبحث عن هويّتها الجديدة. وحالة الفوضى
العارمة في ليبيا وعدم تبلور سلطة تستند إلى دعائم شعبيَّة واسعة.
وكشفت تجربة السودان قبل ذلك عن غياب المؤسّسات السياسيَّة وعدم القدرة على إدارة دولة حديثة.
قطاع غزة يعيش واقعاً ميزة الفشل المتجذِّر والخراب المحقّق كمرحلة انتقاليَّة صعبة تتطلّب عدّة عوامل لتفسيرها لعلّ أبرزها:
الاستبداد ومحاصرة الحراك المدني وعدم ترجمة سعته لعقلنة المسالك السياسيَّة في عزل المنتقدين او الضغط على المنافسين، والاعتقاد دينيّاً أنهم خلفاء الله وقدسيَّة وجهة نظرهم، ممّا قاد إلى التشدّد أو التمايز. وقد عيرنا عن هذا الرأي في العدد 15 من مجلّة الراصد الصادرة في شتاء 2012.
ولعلّ الاستمرار في طرح الشعارات كـ “الإسلام هو الحلّ” أو “مجتمع ودولة” التي أصبحت مقولات مقدّسة ومقنّنة لمرحلة تجسّد واقعاً جديداً، فطبيعة الشعارات في تسطيح العقل واختزال تفاصيل المحتوى لتقود عمليّاً لمقاربة آيدولوجيَّة، ما تمّ فصل الثورات العربيَّة عن أهدافها الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة وربطها بأدلجة أحزاب الإسلام السياسي. ففي عصر المعرفة هل بالإمكان أن يكون هناك شيء اسمه “رعية” أو “عامّة الناس”؟
في ظل ثورة المعلوماتيَّة، يصل الفرد رقم هائل من المعلومات والمعارف في دقائق، بينما ما زال دور الإسلام السياسي يتمثَّل في جعل الفرد ينظر لذاته بصفته مستهلكاً وليس معطاءً أو دون قيمة تجربته المجتمعيَّة.. لذا تنبع الحاجة إلى وجود مرشد يقرِّر له ويختار عنه، حيث العقل قاصر عن تدبير الفرد لشؤونه.
فالأولى بناء قدرات الأفراد ومهاراتهم عبر الوعي الذاتي والجذري وتواصل الذات/ الآخر لبناء شفافيَّة مع الذات والآخر بدل الوعي الشكلي والفوقي. وهنا تنبع اهمّيّة العمل المؤسّساتي الحديث وبرامج العمل وتخطيط مشاريعها.
والعامل الأهمّ هو مدنيَّة الدولة مفهوماً ومحتوى. فالحاجة إلى دور الدولة لتنظيم علاقتها مع المجتمع وتكوين الرابط الاجتماعي بين الأفراد مدنيّاً واجتماعيّاً وليس عقائديّاً، ما يمكّنها إدارة التعدّد والتنوّع وتوفير الضمانة القانونيَّة للسلطة والتعامل مع المواطنين على أساس مفهوم المواطنة وليس الرعية.
تعاني مجتمعات المنطقة العربيَّة من مشاكل عدّة لملفّات محليَّة وإقليميَّة ودوليَّة ما يتطلّب الإتيان بمشروعٍ مجتمعي- ثقافي متحضّر، يميّزها عن المشروع الاقتصادي التركي أو المشروع السياسي الإيراني، وباستراتيجيّات فاعلة الرؤى، واضحة الأفق مع بوصلة عمل يكون قلبها الإنسان وقيمته وكرامته وعطاؤه.
من الضروري عدم الوقوع في الإحباط في هذه المرحلة الانتقاليَّة المربكة التي تحتاج تحوّلاتها الحضاريَّة التعدّديَّة لسنين طويلة، تأخذ قسطها من المسيرة التاريخيَّة، حتى تصل مستوى الطموح والنضوج.