يعيش العالم جلّه وضعاً مأساويّاً خطيراً لم نعهده من قبل، لو أخذنا بعين الاعتبار حالة التمدُّن والتطوُّر الحضاري، لكن يبدو أنّنا عدنا أدراجنا إلى عالم العصبيَّة والتعصُّب لكن بنسخة جديدة، مبنيَّة على التشدُّد الفكري والإيديولوجي، وهو تشدُّد لم تخلُ منه ديانة من الديانات، ففي كل ديانة نجد أتباعاً لديهم تفكيراً ورؤية خاصَّة في تعاملهم مع الآخر المختلف، وهو ما يصطلح عليه بالحركات أو الجماعات الأصوليَّة. ولتقديم صورة أوضح عن الأصوليَّة، اخترتُ التوقُّف عند مقاربة المفكِّر عبد الرحمن منيف وقراءته الخاصَّة لها.
بدأ المفكر عبد الرحمن منيف حديثه بمقدِّمة بالغة الأهمّيَّة؛ وهي مقولتهُ في أنّهُ يفترض أن يبقى الدين، أي دين، في إطار الاعتقاد الخاصّ والشخصي، وحين يتوجَّه إلى الآخرين يفترض أن يبقى في نطاق القيم الأخلاقيَّة، أمَّا إذا تحوَّل إلى عملٍ سياسي فيصبح عندئذ ذريعة لسلب حرّيَّة الإنسان وإرغامه على الامتثال، كما يصبح وسيلة لقهر الآخرين وتبرير استغلالهم في الكثير من الأحيان.
يرى منيف هنا، أنَّه إذا كانت نزعة التديُّن لدى كثيرين نابعة من الاعتقاد، فإنَّها لدى آخرين أقرب إلى العادة، وأياً كانت دوافع هذه النزعة، يجب ألا تتحوَّل إلى أداة لجعل التماثل أو الخضوع قانوناً إلزاميّا، أو صيغة تعني الجميع بنفس الشكل أو بنفس المقدار سواء من حيث الاعتقاد أو من حيث الطقوس. كما أنَّ وجود هذا النزعة لا يبيح تحويل الدين ذاته إلى سلطة تتجاوز حقّ الإنسان في الاختيار الحر، أو شكلاً من أشكال العصبيَّة والتعصُّب. معتبرا هذا الأخير “في المرحلة الراهنة، ظاهرة عالميَّة أكثر من مراحل سابقة، وهذا التعصُّب يأخذ أشكالاً متعدّدة: تعصّب قومي، إثني، ديني، مذهبي؛ كما يأخذ شكل مواجهة علنيَّة، وبعض الأحيان عنيفة، بين الأغنياء والفقراء في كل مجتمع، وبين الدول الغنيَّة والدول الفقيرة على مستوى العالم، بما في ذلك التضيِّيق على الهجرة والعمالة”.
لذلك حسب منيف من الخطأ عزل الظاهرة الأصوليَّة التي تجتاح مناطق عديدة في العالم الإسلامي عن الظاهرة العامَّة التي تجتاح مناطق أخرى، أو عزلها عن أسبابها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. يقول هنا “إذا كانت ظاهرة الأصوليَّة الإسلاميَّة، السياسيَّة تحديدا، تستوقف النظر، وتتطلَّب التحليل والتفسير، فإنَّ ظاهرة الأصوليَّة اليهوديَّة لا تموِّه نفسها ولا تخفي عدوانيّتها، كما أن تعبيراتها العمليَّة شديدة الظهور تجاه العرب في الأراضي المحتلَّة بشكلٍ خاص، إضافة إلى ما تولده من صراع لا يخلو من العنف بعض الأحيان بين اليهود أنفسهم”.
ولم يهمل المفكِّر منيف الأصوليَّة المسيحيَّة كذلك، فقد اعتبر أنَّ هذه الأصوليَّة التي تقودها الكنيسة الكاثوليكيَّة، لها تجلّيات عديدة، ذكر منها: أوّلاً؛ موقف الفاتيكان تجاه رجال الدين المسيحيّين الذين ساندوا الفقراء في أمريكا اللاتينيَّة، ووقفوا في وجه الديكتاتوريَّات التي رعتها وساندتها الولايات المتَّحدة؛ وثانياً؛ موقف الكنيسة تجاه المعسكر الاشتراكي، بداية من بولونيا، منذ مطلع الثمانينات، والجهد لم يهدأ في مناوأة هذا النظام، وتبنِّي خصومه إلى الدرجة القصوى، وقد تمَّ هذا بالاتِّفاق والتنسيق مع أكثر الجهات رجعيَّة في الدول الغربيَّة النافذة. هذان الموقفان حسب منيف “يدلّان بوضوح على أنَّ الأصوليَّة المسيحيَّة تلعبُ دورا مؤثّرا، في المجال السياسي تحديدا، وبالتالي فإنَّ ظاهرة الأصوليَّة الإسلاميَّة، التي تركَّز عليها الأضواء في الوقت الحاضر لها ما يماثلها في المجتمعات والمؤسَّسات الأخرى”.
وهنا يتوقَّف المفكِّر منيف مع نقطة مهمَّة جديرة بالذكر، وهي أنَّ الأصوليَّة الإسلاميَّة السياسيَّة، والشقّ المعتمد على العنف تحديدا، كانت موضع تبنٍّ ودعم من الغرب في مراحل عديدة، ولقد أخذ الدعم أشكالاً متعدِّدة: سياسيّاً وماليّاً وإعلاميّا، وبعض الأحيان عسكريّا. ولعل المثل الأفغاني يؤكِّد ذلك، ممَّا يشير إلى أنَّ الدول الغربيَّة تحدِّد موقفها من التيار الأصولي استنادا إلى الفائدة أو الضرر الذي يطال مصالحها، وليس إلى موقفٍ مبدئي تجاه هذا التيار. وبتعبير أدق إنَّ الدول الغربيَّة، في مراحل متعدِّدة، ولا تزال إلى الآن، تتبنَّى وتدعم أنظمة واتِّجاهات أصوليَّة” هذا الدعم لم يأتِ من فراغ، وإنما هو راجع بالدرجة الأولى إلى المصلحة.
بعد هذه الصورة الإجماليَّة عن الأصوليَّة بشكل عام، يرى المفكِّر منيف أنَّ الأصوليَّة الإسلاميَّة رغم أنّها موجودة منذ وقت مبكِّر، إلا أنَّها الآن أقوى من أي وقتٍ مضى. ومن جملة ما يفسِّر ذلك هو “غياب التيارات الأخرى، والمصاعب والعراقيل التي وضعت في وجهها، وكان الغرب، خلال مراحل متعدِّدة، يقود حربا بشكل مباشر، أو من خلال دعم الحكومات الرجعيَّة والديكتاتوريَّة، لمحاربة التيارات الديمقراطيَّة والتقدّميَّة، ممَّا أفسح المجال أمام التيارات الأصوليَّة لأن تقوى وتسيطر”. وقد تعزَّزت هذه الحالة حسب منيف بسقوط الاتِّحاد السوفيتي، وما رافق هذا السقوط من حملة إعلاميَّة غربيَّة تقول باستحالة وجود فرص أو إمكانيَّة للتيّار الديمقراطي كي يكون حلّا بديلا للنظم الرجعيَّة القائمة، ممّا يفسح المجال لأن يعتبر التيار الأصولي نفسه بديلاً وحيدا.
في مواجهة وضع مثل هذا حسب منيف وجدت الأصوليَّة مناخا ملائما للعمل والتأثير وزيادة في القوَّة، خاصَّة وأنَّ سياسة الدول الغربيَّة طوال عقود متواصلة، اتَّسمت بضيق الأفق والأنانيَّة، وأيضا مناوأة الطموحات المشروعة لشعوب المنطقة، ولعلّ موقفها المتحيِّز والظالم تجاه القضايا الأساسيَّة، كالنفط والقضيَّة الفلسطينيَّة والتحرُّر الاقتصادي، أفسح المجال أمام الحركات الأصوليَّة كي تطرح نفسها كأفق واحتمال للتحرّر السياسي والاقتصادي. وهنا يعلِّق منيف قائلا “إن جزءا كبيرا من الحرب الدائرة الآن في أنحاء متعدِّدة من العالم حرب شعارات لكسب مواقع، ولو مؤقّتا، من أجل اصطفاف جديد. وهذه الحرب تمارسها، تقريبا كل الأطراف، بغض النظر عن وجود استراتيجيَّة بعيدة الأمد أم لا. إذ المهم قهر الخصم الآن، أو تجريده من أهمّ الأدوات والوسائل التي يملكها أو يلجأ إليها، دون حساب للنتائج التي يمكن أن تترتَّب عليها في فترات لاحقة”.
إذن، إذا كانت الظاهرة الأصوليَّة الإسلاميَّة، تبدو، بالنسبة للبعض مفاجئة، وتتميَّز بالعنف والتعصُّب، فلا يمكن عزل هذه الظاهرة عن المناخ العالمي السائد، وعن الأحداث التي تقع في مناطق عديدة، وردود الأفعال التي تولدها.
وهنا يتوقَّف المفكِّر منيف مع حرّيَّة الرأي، حيث ذهب إلى القول بإنَّ حرَّيَّة الرأي في مجتمعات عديدة هي نتاج للتوازن الذي حصل في هذه المجتمعات، وهي تعبير عن الحاجة من ناحية وعن توفُّر الوسائل لتلبيتها سلميّاً وعقلانيّاً وطوعيّا، من ناحية ثانية. أمَّا واقع المجتمعات الإسلاميَّة فإنَّ الأمر يختلف كثيرا عن ذلك، وهذا ما جعل الحركة الأصوليَّة، في جانب منها، رد فعل لفشل ما هو سياسي القائمة، ولعجز القوى والأحزاب العلمانيَّة عن أن تكون بديلا. إضافة إلى أنَّ الحركة الأصوليَّة تعتبر نفسها حالة رفض واحتجاج على السياسة الغربيَّة الظالمة المتَّبعة تجاه المنطقة، كما تعتبر موقفها دفاعا عن الهويَّة وخصوصيَّة المنطقة وشعوبها. وقد عدَّ منيف أنَّ هذه الحركة ليس لها برامج سوى مخاطبة العواطف قائلا “ولأنَّ الحركة الأصوليَّة تعتمد على تحريك عواطف الناس واستثارتهم وحشدهم ضدّ الفساد والرشوة والتفسُّخ… فإنّها تلجأ إلى التعبئة العاطفيَّة، وإلى الشعارات، لا إلى العقل والبرامج السياسيَّة، في هذه التعبئة. كما تلجأ إلى محاولة إسكات أي صوت أو رأي مخالف لها بالعنف والإلغاء”.
ومن هنا فالحركة الأصوليَّة، ترى أن الصراع ليس بين مذاهب فكريَّة أو برامج سياسيَّة، وإنما هو بين الإيمان والإلحاد، بين مؤمنين وعصاة. وإذا جاز اللجوء إلى المنطق والإقناع في مرحلة معيَّنة، فمن أجل إعادة العصاة إلى الطريق القويم، وحين تعذَّر إقناعهم فعندئذ يجوز لها، بل من واجبها، أن تلجأ إلى كل الوسائل، بما فيها العنف. وهذا الأمر مرتبط بالتربية داخل الحركة الأصوليَّة، فهي حركة لها تراتبيَّة معيّنة، يقول المفكِّر منيف “إنَّ الإفتاء وإعطاء الرأي يختصّ بهما عدد محدود من الجماعة، وعلى الآخرين الامتثال وتنفيذ ما يطلب إليهم. وهؤلاء الذين أعفوا أنفسهم مهمَّة الاجتهاد أو إعمال العقل، أو كانوا في مرتبة لا تتيح لهم ذلك، عليهم أن يلتزموا بالأوامر، وأن يبذلوا أقصى الجهد والطاعة لتنفيذها بحماس، بغض النظر عن الهدف أو الشخص المستهدف، وبغض النظر عن النتائج التي تترتَّب عليها.
بعد هذه النظرة حول الحركة الأصولية وخطورتها، نخلص إلى أنَّنا مطالبون الآن بضرورة إنتاج خطاب إسلامي وسطي كما جاءت به الرسالة السمحة، بعيداً عن خطاب التشدُّد والتعصُّب المفضي إلى العنف والتدمير، وهذا الأمر يتطلَّب الانطلاق من التعليم بدءا من المدرسة وصولا إلى الجامعة، إذ ذاك يمكننا محاصرة خطاب الغلو الذي يستغلّه الحاقدون لتشويه ديننا وتعاليمه الحنيفة السمحة الوسطيَّة من جهة، وتسليط الضوء على ما في الأمم الأخرى من متشدِّدين وكشف أطروحاتهم المعادية للغير من جهة ثانية.