أصل الخلل في تعثُّر مشروع الإسلام السياسي
ما أن أحرق البوعزيزي جسده في بلدته التونسيَّة النائية حتى انطلقت تموّجات لإعصار عاطفي اجتاح غير بلد عربي مؤذناً بمرحلة اختلط فيها ما هو اجتماعي مدني بما هو ديني ليفرز توليفة من الحراك انفرطت لاحقاً أو تكاد، أطلَّ الإسلاميّون من مخابئهم أو زنازينهم على مشهدٍ لم يقرّروه، بل لم يشتركوا لأوّل وهلة في جزئيّاته تاركين للشباب المعطّل واليائس أن يتلقّى صفعة البوليس السرّي في دول المنظّمات السرّيَّة العربيَّة ليأتوا لاحقاً لقطف الثمار بعد أن تكون الطغمة الحاكمة قد استسلمت لواقعة الحراك باعتباره حقيقة ملموسة، وبعد أن تكون الثورة المنزوعة الرأس قد نضجت إلى مستوى لا يبقى عليهم فيه إلا التوثّب والارتقاء على مناكبها.
كحقيقة واقعة صار الإسلاميّون ومن دون تحضيرات يتصدّرون المشهد السياسي في أكثر من بلدٍ عربي (تونس، ليبيا، مصر، اليمن، فضلاً عن العراق الذي سبق هذه البلدان بتغيير عنيف من الخارج) قفزت قوى الإسلام السياسي إلى قمّة السلطة في هذه البلدان نتيجة لحراكٍ شعبيّ، في الوقت الذي أوصل انقلاب عسكري إسلاميي السودان للحكم منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي. ورغم تعدّد الوسائل إلا أنَّ هذا الأمر لا يتقاطع مع جوهر وهدف الإسلاميّين، فالأمر سيّان النتيجة هي ذاتها.. السلطة، ولكن.. ما هي سيناريوهات مرحلة ما بعد الفوز.
تتدرّج أطياف التأثير الذي أحدثه وصول الإسلاميّين للحكم تبعاً للبلد الذي يحكمونه، رغم أنهم في المطلق أثبتوا تخبّطاً واضحاً في توجيه دفَّة الأحداث والتعاطي مع الأزمات المختلفة والتي كانوا يواجهونها بعقليَّة القضاء والقدر أحياناً أو بنظريَّة المؤامرة أحياناً أخرى، ولو أخذنا بالتحليل الموضوعي مسيرة التنظيمات الإسلاميَّة لوجدنا أنّ المشهد السوداني مثلاً كان أقرب إلى التسوية على مستوى التمرّد الجنوبي قبل وصول الإسلاميّين إلى الحكم والذين التزموا (وبتعنّت) بتطبيق أحكام الشريعة الإسلاميَّة والتي أعلنها نميري من قبلهم عام 1984 عند ركوبه موجة دينيَّة للمزايدة ضدّ خصومه، وتناسى النظام الحالي حقيقة وجود الكثير من غير المسلمين ممّن سيعتبرون ذلك بمثابة الترخيص لهم بالانجذاب أكثر نحو مشروع الانفصال الذي يمكن أن يحمي الهويَّة والذي عجَّل به الإسلاميّون ليشطروا البلد العربي الأكبر جغرافيّاً وليحملوا معهم إلى التاريخ هذه المنقبة في فترتهم التي بدأوها بحربٍ وانهوها بانفصال.
حرص إسلاميّو العراق منذ اليوم الأوّل لوصولهم إلى السلطة على تثبيت واقع الأرقام والحصص وتغليبه على أي مشروع وطني جامع، ورغم ما يتخلّل لقاءات المجاملة الإعلاميَّة من كلماتٍ برّاقة من قبيل الأخوة الإسلاميَّة والوحدة الوطنيَّة، إلا أنَّ مشاريعهم كانت تدفع بسرعة نحو التقسيم والشرذمة مكرّسة واقع التخندق المذهبي والذي صار حالة عراقيَّة ماثلة ينزف فيها العراق يوميّاً أغلى ما لديه.
أمّا إسلاميّو فلسطين فبمجرّد تمكّنهم من حيازة بضعة كيلومترات على أرض غزة سرعان ما ضاقوا بفكرة الحكومة الجامعة ليعلنوا الانفصال عن حكومة رام الله مقدّمين أفضل خدمة للعدو من خلال تقويضهم لحالة التوافق الفلسطيني ومقدّمين سابقة على اقتتال الفلسطينيين ضد بعضهم متخطّين كل الخطوط الحمراء التي تمليها الحالة الفلسطينيَّة.
تجربة إسلاميّي مصر لها دلالات عديدة أهمّها أنَّ جماعة الإخوان المسلمين هي الأم الولود لكل الحركات الإسلاميَّة، وتعدّ مركز قيادة التنظيم العالمي للإخوان، وبمسيرة من العمل السرّي تناهز الثمانين عاماً تكون الجماعة الأقدر (نظريّاً) على ملء الفراغ بعد حقبة العسكر الذين حكموا مصر منذ العام 1952 حتى الإطاحة بنظام مبارك عام 2011، لكن المفاجئة الأكثر دوياً وتأسيساً على هذه الميزات التي يتفرّد بها إخوان مصر وجدوا أنفسهم أصغر من مشروع الدولة الذي أتقنوا معارضته والإيحاء نظريّاً بعقمه البنيوي من خلال ترديدهم لمشروع (الإسلام هو الحل) والذي صدقته جماهيرهم بفعل تخبّطات النظام السياسي الفاسد.
وهنا ظهر الخواء وبانت علامات العجز عن حل أي من إشكاليّات المجتمع أو وضع مقاربة واقعيَّة لاختناقاته المتعدّدة، فضلاً عن عجزهم عن إرسال رسائل مطمئنة للفرقاء السياسيّين ولشرائح المجتمع وتيّاراته المختلفة عن انحياز مشروعهم السياسي للثوابت الوطنيَّة من قبيل وحدة التراب ووحدة الأمّة والديمقراطيَّة ومدنيَّة الدولة وفصل السلطات والتي قدّموا لأجلها ما يكفي من إشارات غير مطمئنة لكلِّ الأطراف ليجعلوها تتحدّ لاحقاً امام الخيار الأصعب المتمثِّل باللجوء إلى العسكر.
قد تكون تونس حالة مغايرة لما أوردناه من تجارب إسلامويَّة للحكم في بلدان عربيَّة أخرى، لكنها لا تخلو من حملها لنفس التقاطيع التي تميّز هذا الخط السياسي والذي يفتقر إلى النضج والواقعيَّة والذي يعتمد الخطاب العاطفي دونما تركيز على البرامج التي تنتشل المواطن العربي المحبط من أزماته المزمنة، إذ لم يكن إخوان تونس أكثر حكمة أو ديمقراطيَّة من سواهم في بلدان أخرى، لكنهم استشعروا الخطر الداهم والمتمثِّل بإسقاط حكم العسكر في مصر، فضلاً عن تنامي حالة الغليان الشعبي ضدّ سياسات النهضة والتي مثّلت السرداق الذي احتمت تحتها جماعات العنف والتكفير، ما أجبرهم على تقديم تنازلات للأطراف السياسيَّة الأخرى في مرحلتي تشكيل الحكومة أو التوافق على الدستور من أجل حماية ما تبقّى من رصيدهم.
يتّضح لنا مما تقدّم عجز التنظيمات الإسلاميَّة في دول ما يعرف بالربيع عن الإتيان بنموذج متسامح غير متأثّر بعقد التاريخ يؤمن انتقالاً مجتمعيّاً سلساً لمرحلة ما بعد الثورة وينتج دولة تتّضح فيها المعايير وتتماثل فيها فرص الحياة الكريمة لكل المواطنين. ورغم الأخذ بالاعتبار أنّ لكل نظريَّة سياسيَّة سقف زمني ومدّة للصلاحيَّة، إلا أنَّ السرعة التي تهاوى فيها مشروع الإسلام السياسي في المنطقة العربيَّة يستدعي مراجعة حقيقيَّة حول أصل الخلل ومكامنه سواء كان في أصل النظريَّة أو في تفاصيل المشروع، الأمر الذي يحمله الواقع إلى منظّري مشروع الدولة الدينيَّة والذي يتحتّم على من ظل منهم على قيد الحياة أن يقدّم تفسيراً وليس تبريراً لهذا الواقع الذي نعيشه.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.