لا يأتي ذكر مفردة الإصلاح في مجال ما، إلا نتيجة حتميَّة وحلّ مطلوب لمعالجة أمر ما، إثر تعرّضه لمجموعة متغيّرات بلغت مع الزمن مرحلة لا بدّ معها من التغيّر، أو لافتقار الأساس لعوامل الحماية، أو لخلل تتضّح ملامحه جليَّة مع تطوّر العوامل السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، والذي بدوره يتحوّل إلى عقبة تحول دون مواكبته لاحتياجات المجتمع. لتدفعه تالياً إمّا للمغالاة في الرفض والتحرّر الخالي من أي ضوابط أخلاقيَّة ودينيَّة، أو إلى التطرّف المقيت الذي يتّصف بالجمود ورفض الآخر وتجريمه لمجرّد الاختلاف، لنحصد بيئة بمزيجٍ متضارب ومتناقض يعاني من فقدان حالة الوسطيَّة، فأمّا العلماني المنتفض ضدّ أي موروث سواء كان إيجابيّاً أو سلبيّاً، وإمّا متطرّف متشبّث بفكرٍ أو معتقد رافضاً لأي لغة للتفاهم أو التعايش السلمي مع من يخالفونه في انتمائه.
ولمحاولة إيجاد الحلول لا بدّ من وضع اليد على موضع الألم، وذلك بالعود إلى اللبنة
الأساسيَّة لمناهجنا الدينيَّة الدراسيَّة التي تعاني من كونها ذات طابع نمطي
وخالية من لغة التحفيز واستثارة التساؤلات، وتعاني أيضاً من جمود يجعل من المتلقّي
آلة حفظ صمّاء دون تحريض لقدراته الفكريَّة على المقارنة والبحث، لغة المسار
الواحد، فينتفي عند المتعلّم وجود مسارات أخرى تخدم الغاية السامية نفسها وإن كانت
لا تتقاطع معه بما يشاكله أو يشابهه.
المنهج الديني المتّبع في الغالب الأعمّ يسلّط الضوء على تشريعات مؤطّرة محدّدة وترتكز على فكرة الثواب والعقاب والوعيد لمن يخالفها، لذلك نجد أغلب هذه التشريعات ليس لها ارتباط بجوهر الدين، وإنّما بمن يفسّره على هواه، مستنداً إلى فكرة الحقيقة الواحدة المطلقة غير القابلة للتجديد أو حتى للنقاش، خالية من المرونة المطلوبة لتشهد ظاهرة الاصطدام بالواقع، إذ أنّ تلك المبادئ التي يرفض المساس بها كانت تناسب مرحلة تاريخيَّة معيَّنة لها أسبابها ومبرّراتها وبيئتها التي تناسب تشريعها.
ولكي يتمّ تحصين مجتمعاتنا ضدّ هذه الآفة الخطيرة وتقليل حجم الهوّة المتصدّعة، لا بد من حزمة إصلاحات شاملة لإعادة تحديث المناهج الدينيَّة المتّبعة، والابتعاد عن تعمّد سرد المعلومة الدينيَّة باللفظ الصعب والمبهم الذي يحتمل التأويلات، كذلك الابتعاد عن لغة التعصّب والعودة إلى علم الأصول الأساسي، والكفّ عن محاكمة الآخرين بناءً على أفكارهم ومعتقداتهم.. وهذا لا يعني إلغاء هويّتنا، وإنّما صقلها بما لا يتعارض مع المفاهيم الأساسيَّة.
بالمقابل فتح باب الاجتهاد والإجماع والقياس كأدوات متاحة لكل طالب علم متخصّص، وعدم حصرها برجل الدين وجعلها حكراً عليه، فتغدو بذلك الرقابة من الجميع على الجميع، ويغلق باب العبثيَّة في الإفتاء بسبب غياب الرقيب والمحاسب.
نتائج هذا الإصلاح تتّضح جليّاً على المدى الطويل وكنتائج متدرّجة، إذ إنَّ عمليَّة البناء كما يعلم الجميع. ليست بتلك السهولة وتحتاج إلى تضافر جهود كل الأطراف، على العكس من عمليَّة الهدم التي تحدث في طرفة عين.
نحن بحاجةٍ على إصلاح بفكر إسلامي مستنير يتّسقّ مع العقل، ويحقِّق الروح السمحاء
والمنهج الوسطي المعتدل الذي لا يعادي العلم والمرأة والأديان الأخرى، إضافة إلى
مزج العلم مع التشريع الإسلامي، والكفّ عن إلقاء التهم على الآخر، والابتعاد عن
نظريَّة المؤامرة.
بهذا فقط سنكون قادرين على تجاوز هذه الآفة الخطيرة التي تحصد شبابنا بفكرهم وأرواحهم.