طرقت سمعي كلمة الصوفيَّة أوّل مرة حين كنت في مقتبل العمر.. وظلَّت عالقة في
ذاكرتي بأنَّ أتباعها يؤثرون لبس الصوف الخشن للتقشّف والزهد.. وتبيَّن لي لغويّاً
فيما بعد إنها إحدى المعاني التي قيلت في الأثر بشأن الصوفيَّة. والتي تشير أيضاً
إلى الصفاء، أو من الصفة، إذ أنَّ التصوّف يعني الإنصاف بمحاسن الأخلاق وترك
المذموم منها. والصوفيَّة هي منهج أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الخالق، أي
الوصول إلى معرفته والعلم به وذلك عن طريق الاجتهاد في العبادات واجتناب المنهيّات،
وتربية النفس وتطهير القلب.
وكم من مفارقة جميلة عندما تعرّفت على العرفان من صديق لي يدعى عرفان في بداية مشوار حياتي. والعرفان في الاصطلاح عبارة عن المعرفة الحاصلة عن طريق المشاهدة القلبيَّة، لا بواسطة العقل ولا التجربة الحسّيَّة .. فهو العلم بالله تعالى واسمائه وصفاته وتجلّياته. فالتصوّف والعرفان هما سلوك وتعبّد وزهد وروحانيَّة حقيقيَّة تتوالد مراراً وتتسامى علوّاً.
وينبري السؤال
الجوهري، وهو هل روحانيّات التعبّد والتنسّك التي اتّسعت مؤخّراً بتقاليدها
وعاداتها الموروثة تمثِّل البديل المغاير للعنف الذي تشهده المنطقة في أكثر من
بقعة؟
ربّما تصحّ الإجابة هنا بنعم.. ولكن كيف تفسِّر انغماس بعض فرق الصوفيَّة
كالنقشبنديَّة في أعمال القتل والإرهاب والتطهير العرقي، مع إعلان تحالفها مع داعش
في الموصل؟
ممّا لا شكّ فيه أنَّ الجماعات السلفيَّة والوهابيَّة قد نشرت الرعب والقتل والدمار وأضعفت وحدة المسلمين في ظلّ قراءة مثلومة واستنتاج خاطئ لنهج الإسلام وتعاليمه، حيث أعلنوا أنَّ الله وحده له الحقَّ في البتّ في المسائل التي تهمّ مصير المجتمع المسلم، لكنّهم برعوا في الوقت ذاته بتكفير الآخر المختلف، دينيّاً، ومذهبيّاً، نهجاً، وقراءة.
لكن مواصلة القول براحة ودعة بأنّ هذا ليس من الإسلام ومن دون أدنى وعي للمحتوى الذهني لهذه المجاميع التي تكرَّر ظهورها على مرّ العصور، لا يخفّف من وطأة الأزمة وشدّتها، بعدما زحف الرعب إلى قلوب الناس وشاعت صور القتل البشعة وحزّ الرؤوس وحرق الأحياء وسبي النساء، إلى جانب نهب وتدمير التاريخ الإنساني في محاولة لإحداث الصدمة وترويع الأبرياء وبسط سلطة القهر والظلاميَّة.
أعتقد أنَّ الروحانيَّة والتديّن (قل الدين إن شئت) على اختلافِ واضح، فالأوّل هو الاعتقاد النافذ من معرفة الذات وطهارة القلب وتزكية النفوس وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الدنيويَّة والأبديَّة. ومن عرف ذاته فقد عرف ربّه، الروحانيَّة هي الحياة والولادة التي تتجدّد وتلد كل لحظة من حياتنا عمليَّة التسامي والترافع، بينما الثاني هو مناسك وتقاليد موروثة غلب عليها طابع العادات والأعراف والأدلجة الخالية من نقاء القلب الباعث للطاقة الروحيَّة وكشف الجوانب المضيئة والمظلمة في النفس الإنسانيَّة.
أمّا التطرّف فيمثّل فقداناً للتوازن الداخلي وبدلاً من إعلان الحرب لتعزيز ذلك التوازن ونماء الطاقة الروحيَّة عن طريق القلب والوعي.. أعن الوهابيّون والسلفيّون الحرب على الآخر باستخدامهم المفرط للطاقة الجسديَّة، مولدين بذلك موجات من الدمار والعنف. وكما قيل إذا مات القلب ذهبت الرحمة وإذا مات العقل ذهبت الحكمة وبالتالي موت الضمير وفناء كل شيء.
إنها سحابة ذاتيَّة داخليّة قاتمة يتركّز قوامها في حلقةٍ مفرغة من الحقد منتجة في النهاية الفناء للذات والآخر، وشتّان بين حياة مقبلة على المستقبل، وموت بغير حقّ.
وتنبع هنا أهمّيَّة قراءة الذات وهيام القلب في روحانيّات شباب مسلمي وعرب المستقبل حتى يتسنّى لهم المعرفة الحقيقيَّة لقيمة مرادفات أمثال التصوّف والعرفان عندما تصل مسامعهم للمرّة الأولى.