البدو لا يعيرون أهمّيَّة لعامل الوقت في الحاضر أو المستقبل نظراً إلى الأفق اللانهائي لوسع وتمدّد الصحراء، وكذلك لحنينهم الشديد إلى الماضي، ما هو أمامهم محجوب وغير معروف، لذا هم غير قادرين على قراءة أو توقُّع المستقبل، وبالتالي لا شيء سوى الدوران في الماضي والتماهي معه، كصفة أساسيَّة من حياة البدو الرحّل.
الطابع التكويني هذا يتجلَّى في بداوة السلوك والقيم والحياة والنظرة للعالم، ولذا
فالجوهر النفسي لمصطلح “السلفيَّة” المشتقَّة من الكلمة العربيَّة،
السلف، ويعني الأوّل أو السابق، حيث يتمّ استخدامها للإشارة من قبل المسلمين الذين
يرحلون إلى الوراء في التاريخ الإسلامي المبكّر في بحثهم عن الرموز، معتبرين تلك
الحقبة على شكل سلسلة ثابتة من الأطر التي تصوّر المجتمع المثالي الذي يتوجّب نسخ
ظروفه الاجتماعيَّة والسياسيَّة بكل تفاصيله الدقيقة.
وبعبارة أخرى، فإنّ السلفيّين- الوهابيّين الذين يعيشون في حقبةٍ زمنيَّة قائمة على المثل المتخيّلة كالخلافة، وتعليمات ابن تيمية ومحمد عبد الوهاب، والعديد من الرموز الأخرى. وعلى حدّ تعبير المفكِّر الإسلامي المعاصر، ضياء الدين سردار: “عقليَّة المتطرّفين هي غير تاريخيَّة. تمقت التاريخ وتستنزفه من كل إنسانيّته وأي محتوى إنساني”. وقد انعكس هذا على الموجة الأولى من الاستبداد الثقافي للخوارج عند الدعوة للقراءة الحرفيَّة وتجريد النصّ من أي معنى أو سياق. عاشوا خلال السنوات الأولى للإسلام وقتلوا، كما هو موثّق، الخليفتين الثالث والرابع من الخلافة الراشدة. وكان تصميمهم على قتل أي شخص لا يتّفقّ معهم.
اعتقد الخوارج أنَّ التاريخ قد توقّف بعد وفاة النبي محد صلى الله عليه وسلّم وما تبعه بعد ذلك، قولهم المشهور “الحكم لله وحده” وهم وحدهم لهم الحقّ في ترجمة الحكم. ولتحقيق هذه الغاية، عاثوا فساداً باستهدافهم الأبرياء، بمن فيهم النساء والأطفال. والسؤال الذي ينبري جليّاً بين طيّات الحدث هو: لماذا الأولين أفضل من الآخرين.. ألا يتناقض هكذا منطق مع العدالة الإلهيَّة والسنن الحياتيَّة والتاريخيَّة، ثمّ أليس الحديث الموثّق للرسول: ” طوبى للغرباء ..” ويعني مسلمي المستقبل ويصفهم بالإخوان مقارنة بمرادف الصحابة لوصف معاصري الرسول من المسلمين؟
النظرة المقدّسة للسابق تبعها منطق أفضليَّة علوم الأوّلين التي أصبحت ثقافة وانعكاسات كل ذلك على الثقافة والحياة والأدب وبالتالي المكان. ولا نقصد الرسول والقرآن يقول: ولكم في رسول الله أسوة حسنة” أو الخلفاء الراشدين، وإنّما ذهنيَّة الامتثال في القدوة ماضياً وليس حاضراً أو مستقبلاً. وقد يسأل القارئ ما علاقة هذا الموضع بثقافة المكان، والجواب أنّ كثيراً من الممارسات والتفاسير اليوم وفي بقاعٍ شتّى من العالم الإسلامي الشاسعة متأثّرة شكلاً ومحتوى بثقافة المسلمين العرب وقبائلهم في الجزيرة في فترة الأجيال الثلاثة الأولى على أساس أنها الإسلام الكامل والمتكامل والخاتم لكل الحقائق… أي إسلام الجزيرة العربيَّة ولفترة معيّنة من الزمن، مع إهمال تامّ لفهم مكانهم وبالتالي ابتكار ثقافتهم.. أي تغليب ماضٍ معيّن من الجزيرة العربيَّة على كافة الأماكن المختلفة في العالم الإسلامي. وما نراه اليوم امتثال كامل لكافة فصائل العنف المسلّحة في طول العالم الإسلامي وعرضه، المطبق لحذافير البداوة الوهّابيَّة، على أساس أنّها الإسلام الكامل، بينما واقع الحال هي تطبيق لأعراف وعادات قبائل شبه الجزيرة العربيَّة، كقول الرسول “اتركوها، أي القبليَّة، فإنّها نتنة” في مطلع الإسلام مطعمة بشيء من التيميَّة والوهابيَّة فيما بعد!
لم يتمكَّن الإسلام أن يصبح حضارة كبيرة إلا عند خروجه من شبه الجزيرة العربيَّة ووصوله إلى بلاد الشامّ وتبلوره كحضارة عالميَّة في العراق.. ومثّلت المنطقتان الأخيرتان مراكز الحضارات السابقة وجسّدت النشاط الحضري. دمشق كأقدم مدينة في العالم أو دور أكد وسومر وبابل في تمهيد القيم المدنيَّة لأوّل مرّة في تاريخ القاموس البشري أو حضارة بغداد فيما بعد. وما مجاميع العنف اليوم ذات المرجعيَّة الوهّابيَّة السعوديَّة في المعتقد والتفكير والقيم وما شابه إلا محاولة لإرجاع المسلمين إلى الفترة البدويَّة الأولى لمهد الإسلام.
فالعلاقة كما يبدو وثيقة بين تآكل المدن وارتفاع نسبة الإرهاب والتطرّف … بادية الصحراء مرتع خصب لداعش وأمثالها، هل هي مجرد الصدفة وجود القاعدة في صحراء الجزائر ومالي (المدنيَّة المتآكلة) أو حركة بوكو حرام في براري نيجيريا أو الشباب المسلم في صحاري الصومال أو وجود داعش في الرمادي والموصل (على أطراف الصحراء) أو في المنطقة الشرقيَّة من سوريا أو في مدينة الزرقاء الصحراويَّة في الأردن ودورها في مركزيَّة منظّري ونشطاء القاعدة وداعش… فالخطر بهذه المجاميع الجهاديَّة ليس بنيتها التنظيميَّة، ولكن حالة الوعي التي تمثّلها مكوّناً وباء سياسيّاً ينهش المنطقة غير مكترث بجغرافيتها طالما يحقّق فترة تاريخيَّة معيّنة يسود فيها الإسلام البدوي.