يرى فهمي جدعان أن «رسائل التنوير» الفردانيَّة، تتطلَّب من العقل المفرد القيام بالواجب المطلوب منه وجوديّا، حيث أن هذه الرسائل؛ لا تنشد إلا المعرفة والفهم والتحليل والعقلنة والتحرير والنقد والاستشراف، وفق فضائل الرصانة والصدق والنقاء والنبل والأصالة.
تظل قضايا الثقافة والحضارة، والديني والسياسي، والقيم – خاصَّة العدل والحرية – والمسألة النسويَّة، وجدليّات التقليد والحداثة، الواردة في هذا الكتاب موضوع أنظار قديمة متجدِّدة في فكر فهمي جدعان، التي يعيد إنتاجها بصيغة (المجموع) كما يطلق عليها، عازيا أهميَّة «لم شمل هذه الألوان» من الخطاب وإذاعتها على الملأ في حقبة وصفها بـ«التراجع والتدلي» الفكري، والانهيارات العربيَّة الراهنة الفاجعة، مع تنبيه جدعان لضرورة الإحياء، وإلى «طلب دوام التنوير» معتبرا إيّاه القدر الذي ينتظرنا، والذي تجب استدامته.
يبدأ فهمي جدعان فتوحاته في مديح «الأصالة» التي يعني بها؛ «الفاعليَّة المنبثقة عن ذات فردانيَّة نقيَّة، خالصة، صافية، مستعدَّة لإنتاج وإنجاز أفعال فكريَّة مشخِّصة لأحوالها العميقة»، ويلهج جدعان بالمديح والثناء على الأصالة، وينبِّه بقوة على أنها المعيار القاطع في تقييم كل عمل ثقافي، التي تتقوَّم بالحريَّة الفرديَّة للعقل والخروج عن المألوف القائم، هذا التنقُّل الذي يسمّيه جدعان (الذات القاعديَّة) هو عمليَّة انتقال من القوَّة إلى الفعل الذي يولِّد الإبداع.
يحوي الإطار المرجعي التاريخي للأصالة في فكر جدعان؛ وجوها تمثِّل الحياة الثقافيَّة العربيَّة، يلخِّصها بثنائيّات الفكر والمعرفة، الآداب واللغة، الفن والقيم؛ يمتدُّ هذا الإطار زمنيّا من عصر النهضة العربي الحديث، وصولا إلى العقود التي نعيشها، ويقول جدعان في زمنية الأصالة: «حين نتجاوز عصر النهضة المبكر ونعبر أعتاب القرن العشرين وعقوده المتتالية؛ تزداد الأحوال والأعراض والرسوم وضوحا وتميّزا ودخولا في «زمن الأصالة»، وتحوّلاتها الضاربة في «اللاأصالة».
من المثقَّف إلى المفكِّر.. وبالعكس
ينتقل فهمي جدعان من مديح الأصالة إلى انتقالات المثقَّف إلى الفكر وبالعكس؛ مشفقا على حالة المثقَّف وما يواجهه من تصنيفات أو تقسيمات أصحاب «مقالات الرأي»؛ من مثقَّف عضوي، ومثقَّف معرفي تقليدي، ومثقَّف شبكي، وأن بعضهم يغلو في النقد والجرح ويجرِّد المثقّفين من أي قيمة، ويرى جدعان أن الالتزام بحدود العقل والعلم والمعرفة «المؤسّسة»، التي هي أقرب ما تكون إلى اليقين، هو ميزة (المفكر) وخاصته الرئيسية التي تجمع بين قواعد أساسية مركزية، وهي: العلم والفلسفة، والخبرة والمعرفة الشاملة، وأن المفكر العربي الحقيقي الأصيل هو من ينطلق بجهازه المعرفي الشامل الذي يَمتحُ بشكل خاص من العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومن التفكير العلمي والفلسفي في القضايا الجوهرية التي تغزو عالمه المشخص، وتطلب تفكرا عقليا موضوعيا، يفضي إلى إنارة هذه القضايا وتحليلها والبرهنة عليها بالأدلة والحجج الموثوقة – بقدر الإمكان – ويسهم في تأسيس وتشكيل استراتيجيات معرفية دقيقة – بقدر الإمكان – تفضي عند الأخذ بها وتطبيقها إلى إدراك تقدم حقيقي في جملة أحوال الوطن والمواطن والدولة. ينتقد فهمي جدعان حالة الإهمال التي يعاني منها المفكرون من قبل رجال الدولة والسياسة، ويؤكد على أن المفكر والفيلسوف، هما خير من يقدر على إنارة الدولة والمجتمع، والتنبيه على سُبُل إدراكِ أفضل العوالم الممكنة، ورد عوارض البوار وأفول إلى حدود الأمن والخروج من المأزق.
الوضع الحضاري عربيا وطلبات المستقبل
يصف فهمي جدعان الدولة العباسية ومدينتها بغداد، في المخيال العربي، بالـ»المجسد الأعظم» لما يحيل إليه مصطلح (الحضارة العربية- الإسلامية)، إذ لم تكن المظاهر الحضارية في إسبانيا الإسلامية وفي حواضر الخلافة الفاطمية وغيرها إلا امتدادات متفاوتة لهذه الحضارة. يقيم فهمي جدعان التجربة الحضارية التاريخية العربية، المقترنة اقترانا عضويا بالتراث من خلال أمرين:
الأول: أن المسار الحضاري العربي نفسه أدرك نهايته التاريخية بانهيار (الدولة الموحدة) وانسحاب (المدينة الجامعة)، وقد تقلبت المبادئ «الطابعة» لهذه الدوائر الحضارية بين معاني وطلبات وغائيات؛ الهيمنة والغنيمة، والشهوة والحكمة والجمال، والتقوى والمتعة والسلطة، أي بين رغائب الدنيا ومطامح الدين في معادلة سادرة شاردة.
الثاني: يؤكد جدعان بأن التطورات التاريخية المادية والمعنوية، وبخاصة الحديثة، قد تجاوزت وجبت مساحات واسعة من معطيات التراث: حيث أصبحت العلوم العقلية، التي كانت تشتمل على العلوم الفلسفية والطبيعية والرياضية، غير قادرة على الحياة؛ وتم تحديث أو استبدال أو إبداع نظم بيروقراطية وسياسية واقتصادية جديدة، وعلى الرغم من ذلك، يشير جدعان إلى أن قطاعات جليلة من التراث ظلت حاضرة حية فاعلة، على وجه التحديد في الآداب والفنون والعمران.. إلى جانب العلوم الدينية واللغوية، التي تغزوها اجتهادات التحديث وقراءات الحداثة ومناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية.
لا يجد فهمي جدعان أملا في قيام ما يسميه
مركب حضاري موحِد وموحَد جديد، بسبب غياب الدولة أو المدينة الموحدة الجامعة، ولأن
علينا أن نوطن أنفسنا على أن نتمثل الواقع تمثلا عمليا، أي في حدود «الدولة
الوطنية» الفردانية، وفي حدود واقع كوني تفرض فيه الحضارة الغربية الظافرة كامل
جهازها الحضاري في كل مكان.
يتأمل جدعان «الوضع الحضاري» لجماعات العرب في دولها
«الوطنية» الفردانية، ويحدد ظواهر تتجه بنا إلى المستقبل، وهي:
أولا: الافتقار الجماعي إلى مقومات الأسس المادية والتقنية والعلمية للحضارة، وأننا نعتمد في ذلك كله اعتمادا مطلقا على الحضارة الغربية؛ التي لا تعطي كل شيء أو لا تسمح بكل شيء، مع الانشغال الداخلي بحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.. وعلى الرغم من المعاني الرمزية الإيجابية التي أعلنت عن نفسها في «الانفجارات الشعبية» فقد شرعت الأبواب أيضا لقرن كامل على الأقل من أجل «إصلاح الخراب» الذي نجم.
ثانيا: الوضع الحضاري في كل المجتمعات العربية ودولها يشكو من غياب المبادئ المعززة للأساس المادي لما هو «حضاري» على وجه التحديد مبدأي: المعرفة والقيم، حيث أن الثروة والغنى – وإن فرضنا توافرهما – لا يصنعان وحدهما الحضارة والتقدم. لا يقصد جدعان بـ«المعرفة» ما يحمله تعبير الثقافة العامـــة السائرة، وإنما ما ينطوي عليه مجتـــمع المعرفة من استراتيجيات علمـــية وفلسفـــية مدققـــة في التكنـــولوجــــيا والاقتصاد والإعلام، ووعي العصر وتحولاتِه وإنتاج مشــاريع حقيقية فاعـــلة تعــــزز القواعد المادية والغائيات الكبرى لحياة المجتمع وتقدمه، ويكمن الخطر الأعظم من وجهة نظر جدعان في الأساس المعنوي، الثقافي، الباني للحضارة أو لما هو حضاري، وإلى أزمة القيم التي أرقَت وما زالت تؤرق فهمي جدعان، والتي لا تقتصر فقط على فوضاها، وإنما تكاد تفقد ما يسميه «سلم القيم».
ثالثا: يرى جدعان بأنه تُستبد بنا حالة من اللاأدرية والتضاد والغموض في شأن الغائية المنشودة من مشاريع النهضة والتحضر والتقدم، وفي شأن النظرة المركزية إلى العالم، ويطالب بمنظور يحرر الديني من السياسي، أو السياسي من الديني، ويضفي على الديني ماهية قيمية، أخلاقية، إنسانية عميقة، ومنظور لا يمكن إلا أن يوجهنا إلى طريق حضارية إنسانية، هي وحدها القادرة على التفاعل مع التطورات الحضارية الكونية العميقة، وإدراك وضع حضاري فاعل، إنساني، أخلاقي مُجْدٍ، آمن.
رابعا: يصف جدعان الوضع الحضاري العربي الراهن بحالة تضاد (Ambivalence) شديدة معقدة: في وجه أول يشخص هذا التضاد واقع التفكك والانفصال السياسي والدروب المتباعدة، أو المتنافرة؛ وفي وجه ثانٍ مقابل، يشخص واقع التواصل والتراسل والتماثل في الأنماط الحياتية.
الديني والسياسي
يؤكد جدعان أن مفهوم «دولة الخلافة» تم اصطناعه تاريخيا، وأنه لم يكن إلا شكلا من أشكال «شرعنة السياسي بالديني»، وأنه في الصورة التي يتم تداولها يعني «دولة دينية» أو ثيوقراطية، ويؤكد جدعان أن دين الإسلام في نصوصه التأسيسية وفي الأصول التي أطرته ليس ثيوقراطيا، وفي تقديره أن غائية دين الإسلام القصوى تكمن في مقاصده بالذات، وأن إنفاذ هذه المقاصد ليس متعلقا بدولة الخلافة أو بدولة دينية، وإنما بالدولة «العادلة» فقط، أيا كان القائمون عليها. وفي حدود علاقة الجماعات المسلمة ببلدان الهجرة؛ يدعو جدعان هذه الجماعات إلى أن تحيا دينها، تقويا وأخلاقيا واجتماعيا، وأن تبلور الصيغ الناجعة للاندماج في حدود «الدولة العادلة»، وألا تقبل أي صيغة من صيغ «الإسلام السياسي» وأن تنحصر في تجسيد المعنى الاعتقادي والأخلاقي لدين الإسلام.
في ما يتعلق بـ«إسلام للأزمنة الحديثة» يؤكد جدعان على أننا نستطيع اليوم أن نفتح باب الاجتهاد من جديد، وأن نتبين في (النصوص) مقاصد أخرى لم يتبينها أولئك السابقون، صريحة في بعض النصوص، باطنة خفية في «أصول بذرية» في نصوص أخرى: كالحرية، والعدل، والمساواة، والكرامة الإنسانية واحترام مركب النفس (الجسد)، والنزاهة، والاعتراف والمصلحة.. هذه المقاصد جميعا يراها جدعان مؤهلة وجديرة بأن تكون «معتبرة» في شرائع الدولة الحديثة.
يتساءل فهمي جدعان في هذا «المجموع» عن إمكانية قيام نِسوية إسلامية؟ مع التمييز بين «الإسلامي» و«المسلم» وكيف يكون ذلك ممكنا؟ ويجد أنه لا يوجد إصلاح بلا ثمن، لكن ثمن «التغيير الثوري» المتصلب لا يقارن بثمن «الإصلاح الراديكالي» الآمن، نسبيا، ويستخدم هنا مصطلح «الإصلاح الراديكالي» الذي عوّل عليه تعويلا عظيما في كتابه الأخير «مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة». ويرى أن أُس هذا المفهوم جدير بأن يستخدم في مشكل «النسوية الإسلامية»، حيث أنه أجدى وأنجع من الذهاب إلى منهج «التغيير الثوري» المتصلب العنيف، ويقوم هذا «الإصلاح الراديكالي» في المسألة النسوية الإسلامية على المبادئ التالية:
المبدأ الأول: إبستيمولوجي، معرفي، أي التحول الشجاع من قراءة النص الديني «المتشابه» قراءة حرفية، ظاهرية، مادية، إلى قراءته قراءة مستندة إلى منهج (التأويل)، أي إخراج النصوص «المركبة» من دلالتها المادية إلى دلالتها المجازية، وأن نتوسع في معنى التأويل، بحيث يطال الظروف والمعطيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولا يقف عند التأويل اللغوي المنحصر في الحقيقة والمجاز. المبدأ الثاني: الدفاع عن التمييز، في النص الديني بين «المعتقدات العقدية أو الإيمانية». والمبدأ الثالث: التحول من القراءة «الذرية» للنصوص الدينية إلى القراءة «الهولستية» لهذه النصوص، أي اعتماد مبدأ «المقاصدية» في الدين. والمبدأ الرابع: تأكيد الدفاع عن «تاريخية الأحكام» الفقهية، واعتبار أي حكم فقهي عمليا في حدود الظروف التاريخية التي نجم عنها، والمبدأ الأخير: هو «المصلحة» المرتبطة بإقامة العدل، وأنه حيثما ظهرت إمارات العدل فثم شرع الله.
ينتهي جدعان إلى أن قيام «نسوية إسلامية» في ظل هذه المبادئ، هو أمر ممكن، وأن النضال من أجل ذلك قمينٌ بأن يحقق «إصلاحا راديكاليا» وتقدما حقيقيا في المسألة النسوية العربية.
٭ القدس العربي