التنويريتربية وتعليمسلايدر

التواضع المعرفي طريق الحل الفلسفي لمحاربة العنف

أضع بعض الملاحظات القصيرة على ضوء العديد من حوادث العنف التي يشهدها العالم وبوتيرة مستمرَّة، كما حدث في كثير من الدول التي تشهد مظاهر العنف، والبعض منها على نحوٍ يومي. العنوان المقترح، يبدو سهلاً من النظرة الأولى، إلا أنّه يطرح تحدّياً جدّيّاً لكل محلّل ينوي الغوص في هذا المجال.

الفلسفة بالحدّ الأدنى كما يفهمها الكاتب ويستخدمها في تأمّلاته، هي ليست نوعاً من “اللعب الكلامي” او “طريقة علاجيَّة” أو “نشاطاً نظيراً لحل الكلمات المتقاطعة” أو “بذل جهد في سبيل توضيح الإيهامات الدلاليَّة” بل هي جهد أصيل من أجل معالجة القضايا الحقيقيَّة التي تنشأ عن طريق المواجهة مع الأبعاد المختلفة للحقائق (حقائق طبيعيَّة أم كانت من منشأ اجتماعي) ويتمّ القيام بهذا الجهد بهدف الوصول إلى طرق حل مناسبة للقضايا التي تمّت الإشارة إليها، مع العلم أنّ الوصول إلى النجاح في هذا الطريق غير مضمون مسبقاً.

العنف، كما أفهمه، وبغض النظر عن تجلّياته وأشكاله وأقسامه المتنوّعة يترافق ظاهريّاً مع استخدام القوّة من قبل كائن، بهدف تهميش أو توجيه الضرر أو إبادة إمكانيّات مادّيّة ومعنويَّة لكائنٍ آخر. الإمكانّيّات المادّيَّة والمعنويَّة المشار إليها من ضمنها الجسد، النسيج المادّي، الشخصيّة، الكرامة، الهويَّة، الإرادة، والوجود المعنوي.

إذا اعتبرنا أنّ الهدف الذي أشرنا إليه في المقطع أعلاه هو هدف قريب وأوّلي للعنف، يمكن أن نعتبر أنَّ أنواع الهدف والنوايا الثانويَّة أيضاً هي مترافقة مع ما ينتج عن أعمال العنف، ومن بين هذه الأهداف يمكن الإشارة إلى البحث عن السلطة المادّيَّة، الاستعلاء الأيدولوجي، الغطرسة الماليَّة والاقتصادّيَّة، والشهرة والرغبة باكتساب الاسم والاعتبار وغيرها من الأهداف.

ما ينتج عن العنف يمكن أن يظهر بأشكال مختلفة، صريحة وظاهرة، أو مخفيَّة ومغطّاة بأشكالٍ متنوّعة، من بينها اللساني واللفظي، والنفسي والروحي والفيزيائي والمادّي، ومن قبل فاعلين مختلفين سوى كانوا أشخاصاً أو مؤسّسات، وفي مجالات وأماكن مختلفة تبدأ بالأسرة ومحيط الدراسة، وصولاً إلى العلاقات بين الحكومات ومواطنيها، وإلى ساحة العلاقات بين الشعوب والحكومات.

ورغم أنه يمكننا دراسة العنف كونه ظاهرة حقيقيَّة ذات أبعاد عديدة من خلال الاستفادة من العلوم التجريبيَّة المعاصرة من بينها علم الاجتماع، علم الجرائم، علم النفس، وعلم الإنسان. لكن من وجهة نظر فلسفيَّة لعلّه بطريقةٍ حدسيَّة يمكن أن نطرح هذه النظريَّة بحثاً عن عنصر ضروريّ لازم (رغم أنه ليس كافياً) بالنسبة لجميع السلوكيّات العنفيَّة على كل مستوى، ومن حيث كل فاعل (أفراد أو مؤسّسات) من وجهة نظر وتوجّه يعتبره الفلاسفة الناقدون ذات التوجّه العقلي تحت عنوان وجهة نظر “التفسير المبرّر[1]“.

الفرد أو المؤسّسة التي تعتبر نفسها مبرّرة بالدلالة الضمنيَّة تجد كل الآخرين في طريقٍ غير صحيح، ولهذا فأنها تعتبر نفسها محقَّة، ولكي تعيدهم إلى الطريق الصحيح والصواب يمكنها الاستفادة من أي أداة لا سيما التوسّل إلى العنف، يترافق التفسير المبرّر من أي أداة لا سيما التوسّل إلى العنف، يترافق التفسير المبرّر عادة مع “اليقين” بصحّة وجهة النظر أو موقف الفاعل (سواء أفراد أو مؤسّسات) واليقين يمكن أن يصبح الأرضيَّة من أجل اتخاذ طريق علاجيَّة جازمة، والطريق بين الجزم واستخدام العنف ليس على مسافةٍ كبيرة.

البعد الآخر الذي يستفاد منه في التفسير المبرّر والذي يمهّد للعنف هو الالتزام بوجهة نظر حول الحقيقة والتي يعبّر عنها تحت عنوان “الحقيقة الظاهرة للعيان”. أولئك الذين يلتزمون بوجهة النظر هذه يعتقدون بأنّ الحقيقة ظاهرة عندهم. أمّا الذين يعجزون عن “رؤية” الحقيقة فإنهم يفتقدون إلى السعة الموجودة عند ممتلكي الحقيقة، هؤلاء الأفراد يعتبرون أنفسهم من يمتلك نوعاً من البصيرة ووجهة النظر، مقابل الآخرين الذين يعتبرونهم فاقدين لهكذا وجهة نظر وبصيرة، وأنَّ التوسّل للعنف ليس مسموحاً فيه بحسب، بل هو أمر ضروري.

بما أنّ التفسير المبرّر يعطي للشخص وعداً بالوصول إلى المعرفة المبرّرة والحتميَّة واليقينيَّة من خلال امتلاك هكذا معرفة، فإن البعد الذي يبقى لديه هو الدخول إلى ساحة العمل… وفي هذه الساحة أيضاً تعتبر الإرادة هي قطب الرحى للأمور كافّة. الإرادة أيضاً بما أنها تعتبر نفسها مبرّرة وعلى هذا الأساس تعتبر نفسها غنيَّة عن إعادة النظر في آرائها وأفكارها وتقوم باستخدامها بشكلٍ جازم.

إذا كان الحدس المقترح أعلاه في سبيل إصابة الواقع عندها تكون الإجابة على السؤال في عنوان المقالة: كيف بإمكان الفلسفة المساعدة في محاربة العنف؟ يمكن أن نوضّح إنه إذا قام الفلاسفة بتعليم هذه المسألة لمخاطبيهم، كما اهتمّ بذلك النقّاد ذوو التوجّه العقلاني، بحيث أنّ التفسير المبرّر هو غير ممكن أساساً بأي شكل ونحو وفي أي قالب ونمط كان وذلك استناداً إلى هذا السبب البسيط، وهو أن كل وجه لتبرير ادّعاء أو موقف يتمّ تقديمه هو أيضاً بحاجة إلى تبرير آخر، وعلى هذا الأساس يأتي التسلسل غير المتناهي، كما أن نظريَّة الحقيقة الظاهرة للعيان هي غير صحيحة، والحقيقة هي متاع بعيد المنال ولا يمكن التقرّب منها سوى عبر بذل الجهد والاجتهاد، بأسلوب حدسي، وأنّ التوجّه الإرادي في غياب استخدام العقل الذي لا يعتبر نفسه مبرراً، يؤدّي إلى تبعات خطيرة، عندها تتأمّن الفرصة من أجل ترويج وقبول ما يسمّيه النقّاد العقلانيّون “التواضع المعرفي”.

التواضع المعرفي قام بتوضيحه أحد علماء المعرفة البارزين في القرن العشرين في قالب العبارة الآتية: “من الممكن أن أكون أنا على خطأ وأنتم على صواب، ولكن كلانا يمكننا أن نقترب أكثر من معرفة الحقيقة من خلال بذل الجهد[2]“.

إذا كانت علّة العلل المعرفيَّة للعنف وفقاً لما ذكر في الحدس المقترح هي التوجهات التبريريَّة، عندها يكون هناك أسلوب أساسي للمواجهة الجذريَّة ضدّ العنف بجميع أشكاله وأنواعه، ومن قبل أي فاعل، وتوجيه التحذير في وجه “الاستكبار المعرفي”. لكن يجب القول بحزن أنّ الأكثريَّة الساحقة للفلسفة المتداولة لا تزال تقرع طبول التفسير المبرّر وتستخدم أساليب تبريريَّة من أجل تثبيت آرائها[3]. رغم أن ليس جميع الفلاسفة الذين يبرّرون قد قاموا بجهودٍ كثيرة، خاصّة في مجال فلسفة الأخلاق لكي يمنعوا نشوء العنف أو يقلّلوا من أبعاده، لكن الحقيقة أن التفسير المبرّر يصبح الممهّد للقبول بجزم بهذا الأمر، حيث أنَّ ” فرداً على صواب وآخرين على غير صواب”. لذا فإن الترويج لوجهات نظر تبريريَّة خاصَّة بين من لا يأنس بدراساتٍ انتقاديَّة يمكن أن يساعد على تسهيل نشوء العنف.

إنّ التوجّه العقلي الناقد يعتبر التبرير عملاً غير صحيح، ويعتبر اليقين أمرا غير معرفي، ويعتبر التوجه الإرادي الأعمى مصدراً للخطر، وأن التواضع المعرفي وظيفة أخلاقيَّة أساسيَّة، مؤكّداً في ذات الوقت أن الطريق نحو النمو النظري والمعنوي في قالبٍ حضاري يصبح ممكناً عندما تتراجع السيوف (رمز العنف الفيزيائي) أمام تقدّم الانتقادات العقلانيَّة على الساحة الفكريَّة، وأن يقوم الأفراد بتقييم أفكارهم بشكلٍ نقدي بدلاً من التهام بعضهم البعض، وبهذا الأسلوب يعطون الإمكانيَّة لأنفسهم وللآخرين بعد أخذ العبرة من الأخطار التي تظهر عبر الانتقاد، أن يخطو خطوة جديدة في طريق الوصول إلى الحقيقة وبناء عالم أفضل.

يؤكِّد النقّاد العقلانيّون أنّه لا يوجد طريق لتحسين الأمور سوى القبول بهذه النقطة، حيث أن جهل كل منا لا نهاية له، وأن خلافاتنا المعرفيَّة في القضايا العامّة يجب أن توضع في النقد من قبل الجميع، لكي نفتح طريقاً أحياناً في ظل الحكمة الجماعيَّة، مهما كان صغيراً، باتّجاه الحقيقة الموضوعة أمامنا. لكن حتى العمل بفتوى الحكمة الجماعيَّة يجب أن لا نضع سلاح النقد جانباً وأن لا ننسى التواضع المعرفي.
ويلفت النقّاد ذاتهم إلى نقطة مهمّة، وهي أن جميع الأفراد يطالبون بالاستماع على الاستدلالات من أي صنف وانتخاب أفضله، بل يدخلون إلى الميدان معتمدين على توجّهاتهم الجزميَّة بهدف التدمير الفيزيائي للذين يقدّمون الاستدلال. في هكذا حالات، وفقط في هذه الحالات، يكون الدفاع عن حرمة العقل والاستدلال عبر الاعتماد على الأدوات التي تليق بمواجهة التهديد الفيزيائي، وهي الفتوى التي يصادق عليها العقل.


[1] Justificationist viewpoint and justified attitude

[2] كارل بوبر، أسطورة الإطار العام: في الدفاع عن العلم والعقلانيَّة، طهران: دار نشر طرح نو، 1384 ه. ش.

[3] قدّم الكاتب مقالة تحت عنوان “اليقين الاعتقادي عامل مؤثِّر في العنف الديني والعلماني على الساحة السياسيَّة” في مؤتمر عقد العام الماضي في جامعة لايدن تحت عنوان: “العنف السياسي: ما بعد المواجهة بين الديني والعلماني”.

ما ذكر في هذا المختصر يرتكز إلى حدّ ما على استدلال قدم في تلك المقالة التي من المقرّر أن تصدر، إلى جانب مقالات أخرى، في المؤتمر الذي عقد في جامعة لايدن ضمن سلسلة إصدارات ادينبور.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة