بعد عشرة كتب في الرواية والقصَّة القصيرة والحوارات الإبداعيَّة، أصدر الأديب الأردني يحيى القيسي كتابه البحثي الأول بعنوان “ابن عربي في الفتح المكّي: الانتقاص من القدر المحمّدي” وذلك عن مؤسَّسة أونيكس للتواصل الفكري في ويلز البريطانيَّة.
ينشغل هذا الكتاب كما جاء على غلافه الخلفي بمراجعة جريئة لنتاج الصوفي الشهير الشيخ محيي الدين ابن عربي في سفره الضخم “الفتوحات المكيَّة” إضافة إلى كتبه الأخرى، مثل: التجليّات، فصوص الحكم، الرسائل، وغيرها، وهي مراجعة تتأمَّل النصوص لسبر أغوارها فيما يتعلق بمعرفة الشيخ الأكبر الأكيدة بالحقيقة المحمّدية، وكيف تناقضت كشوفاته الروحيَّة مع النقولات من النصوص التي وصلته في كتب الأحاديث التي رآها صحيحة تماماً، إضافة إلى ما وصله من نتاج المتصوّفة السابقين عليه، وهذا ما قاد بالتالي إلى أن يقع في الكثير من الأخطاء بحقّ النبي العظيم، وقد ضمّ الكتاب بعد المقدَّمة خمسة فصول تناولت سيرة الشيخ وتلامذته وكتبه وشيوخه إضافة إلى ملاحظات مؤلِّف الكتاب على هذه السيرة، وجاء الفصل الثاني ليناقش الحقيقة المحمَّدية بين الطعن والتقديس، وتناول الفصل الثالث أمثلة على الأخطاء والخطايا التي أوردها ابن العربي بحقّ النبي، كما انشغل الفصل الرابع بمقارنة ابن عربي نفسه بالنبي، أمَّا الفصل الأخير فقد رصد وقوعه في فخّ مسألة “الفاضل والمفضول”، وانتهى الكتاب بخاتمة وثبت بالمراجع والمصادر وتعريف بالمؤلِّف.
الكتاب كما جاء في مفتتحه، نتاج سنوات طويلة من التأمُّل في التجربة الصوفيَّة الإسلاميَّة والانغماس في البحث والقراءة لمنجز ابن عربي تحديداً، وهو يقدِّم قراءة محايدة له دون الوقوع تحت سطوة التضخيم والتقديس للشيخ. ولم يكن هدفها انتقاده وتتبُّع هفواته بل جاءت كمحاولة للفهم والتأمُّل، وقد أورد المؤلِّف بالشواهد الواضحة والدامغة من السفر الضخم في هذه الدراسة وهو “الفتح المكي” ما يصيب المرء بالصدمة لحجم الإساءات التي طالت الذات المحمّديَّة في محاولة تبريريَّة من الشيخ لقبول الأحاديث المنسوبة للنبي على علاتها دون عرضها على القرآن الكريم والعصمة النبويَّة، كما انشغل الشيخ بإيراد كشوفاته الروحيَّة في محاولة منه للتوفيق بين النقل والكشف فوقع في الأخطاء كما أشار القيسي، ومن ذلك إيمان ابن عربي بوجود شيطان يسيطر على النبي ويأمره، وأنّه عبس في وجه أعمى، ويخاف أن يتبدَّل قلبه في الإيمان، ويشتم ويلعن، ويرغو كما البعير حينما ينزل عليه الوحي، وأن نبي الله إبراهيم أفضل منه، وموسى أكثر رأفة ورحمة بقومه منه، وأنّ جبريل أعلى منه مرتبة وأكثر علماً، وأنّ بعض الصحابة يسبقونه إلى الجنّة وأعلى في المراتب عند الله منه، وأنّه خالف ربّه وصلى على منافق، وأن الله أمره بقتال الناس، وأنه يحبّ النساء متَّبعاً شهواته،.. وغير ذلك كثير.
أمّا المسألة الأخرى فهي قيام ابن عربي بمقارنة معجزات النبي بما جرى معه شخصيّاً، بحيث بدت هذه المعجزات أمراً عادياًّ للنبي، ولا تكاد توجد معجزة أو خصوصيَّة للنبي إلا وهي موجودة عن الشيخ نفسه على شكل كرامة وأكثرها وضوحاً المعراج السماوي الذي ناله بطريقة مشابهة تقريباً لما جرى مع النبي بل أحياناً أكثر قوَّة وسطوعاً، إضافة الى تسبيح الحصى في كفه، وقدرته على الرؤية من خلف ظهره، وطيرانه في الهواء، ومخاطبته من قبل الله كفاحاً، الخ.
كما ناقش الباحث أيضاً في كتابه الجديد موضوع قناعة الشيخ الأكيدة بقاعدة “الفاضل والمفضول” التي أخذها من شيخه الصوفي الأندلسي ابن قسي، وهي تشير إلى أنّ الفاضل أي النبي قد يكون هناك من هو أعلى منه من المفضولين أي بعض صحابته مثل عمر بن الخطاب مثلاً عبر ما سمي بموافقات الله لعمر ومخالفته للنبي نفسه في بعض المسائل مثل أسرى بدر والحجاب، وهو أمر خطير كما يوضح الباحث أنّه ينتقص من الجانبين الروحي والجسدي للنبي أي في باطنه الحقّ وظاهره الخلق.
الكتاب جاء في 350 صفحة من القطع الكبير ويضم الكثير من التفاصيل في هذه الموضوعات وغيرها، وهو كما يعتبره مؤلّفه، الجزء الأول، من سلسلة من المراجعات لـ “الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر” كما وصفه مريدوه والذي وقع في ظنه أنّه المهدي المنتظر أو ختم الولاية المحمَّديَّة حتى سنوات حياته الأخيرة، وربما هذا الظن ما جرّ عليه فكرة الانتقاص من النبيّ العظيم، لأنه يرى أنّ خاتم الولاية يأخذ مباشرة من الله تماماً كما حصل لآخر الرسل، ويرى القيسي أن تصديق ابن عربي للمرويّات المنسوبة إلى النبي ومقارنتها بكشوفه الروحيَّة التي يرى أنها معصومة عن الخطأ، قاده إلى الوقوع في مثل هذه المخالفات والإساءات غير المقبولة من صوفي كبير مثله، وبدت محاولته لتبريرها واهية وغير مقنعة.
يذكر أن الأديب والباحث يحيى القيسي لديه تجربة طويلة في الصحافة الأدبيَّة والإدارة الثقافيَّة في تونس والأردن والإمارات، ويعمل حالياً مديراً للنشر في مؤسسة أونيكس للتواصل الفكري في بريطانيا، وينشغل بقراءة الفكر الديني والتصوّف الإسلامي منذ سنوات طويلة، أمّا في جانبه الأدبي فهو يؤمن بالرواية العرفانيَّة حيث انشغلت أعماله كلها بالماورائيَّات والروحانيَّات والتصوّف.