نحو تدعيم وترقية المناهج التربويَّة
مقدِّمة:
يعدّ المنهج الدراسي من الركائز الأساسيَّة للتربية قديما وحديثا، إذ يتم عبره تحقيق الأهداف التي تسعى العمليَّة التعليميَّة لتحقيقها ارتباطا بالتربية في مداراتها المختلفة محليّا وقطريّا وإقليميّا ودوليّا، آخذين في الاعتبار أنّ التعليم نفسه من الوسائل الحاسمة في قضايا التنمية والتنوير وخططهما والتخطيط لهما ومن ثم تطويرهما الذي هو بالضرورة تطوير المجتمعات، ولأنّ التعليم النظامي بدأ في دول العالم الثالث مع الإدارات الاستعماريَّة للدول فقد ارتكز مفهوم المناهج الدراسيَّة على توظيف التعليم في مراحله المختلفة لصالح ترتيب الديوان الوظيفي وخلق كوادر وسيطة تسند إلىها مهام محدَّدة بقدر ما يخدم دولاب العمل الحكومي، مع بعض المواد الدراسيَّة التي تسهم في تفتيح الأفق لخلق فرص للابتكار الفردي وفقا لما عرفه المفهوم التقليدي للمناهج الدراسيَّة القائم على إتقان المادة الدراسيَّة بالاعتماد على التركيز العقلي للتلاميذ وفق مناخ توفّره المدرسة ونظام متكامل بقيادة كادر معدّ لهذه المهمَّة بغية تحقيق أفضل النتائج المنشودة، وما تحتمله طاقات الطلاب العقليَّة والجسميَّة وكل ذلك مرهون بالتطوّر الاجتماعي الذي يصحب المجتمع ككل في مراحل انتقاله الاقتصادي والثقافي وفق مقتضيات كل مرحلة، أمّا في ما بعد هذه المرحلة وبالرغم من الإرث الإداري الذي خلّفته النظم الاستعماريَّة إلا أن هنالك جهود وطنية استندت على المفاهيم الحديثة للتربية والتعليم خاصة بعد توسُّع فرص التعليم حتى شمل التعليم الجامعي حدثت هذه النقلات التي سنتعرض لها لاحقا وقبل ذلك نتوقف قليلا على المفاهيم الحديثة للمناهج الدراسيَّة والتي نجملها في بعض الإشارات بما يخدم أهداف هذه الدراسة:
يتكوَّن المنهج من الخبرات التي يفترض أن تصل للطلاب وتعنى بتنمية المهارات السلوكيَّة والوجدانيَّة للطلاب بما ينمي فيهم روح المواكبة لمتطلبات العصر فلذا نجد أن أبرز ملامح المناهج الحديثة الاعتماد على تنمية المهارات واستيعاب الطاقات العقليَّة والجسميَّة في إطار جماعي يعزِّز روح الجماعيَّة ويمهِّد لمناخ ديمقراطي مما يجعل المنهج الحديث أقرب إلى إحداث التغيير النوعي ويشكل محتوى المناهج الدراسيَّة في المفهوم الحديث للتربية حجر الزاوية في إحداث التنوير. استضاف المنهج الحديث مكمّلات أساسيَّة للمحتوى تضمّنت أساسيات في علم النفس والفلسفة والمناشط اللإبداعيَّة المختلفة، ولكن يبرز السؤال إلى أي مدى تخدم هذه المناهج قضايا التنوير، وحري بهذه الدراسة أن تجري فرضيّتها على حالة السودان.
1/ السودان بلد كبير ومترامي الأطراف يقع في إفريقيا جنوب الصحراء وقد استقلّ عن الحكم البريطاني المصري في الأول من يناير 1956م.
2/ الموقع الجغرافي للسودان، وعبور نهر النيل لأراضيه من الجنوب إلى الشمال، جعله على قدر فريد، وهو: أن يكون جسرا” بين شق القارة شمال الصحراء، الذي يعرف بأفريقيا البيضاء و تغلب عليه الهوية والثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، وشقها جنوب الصحراء و تغلب عليه الهويَّة الأفريقيَّة و ثقافاتها المحليَّة.
3/ مناهج التعليم في الفترة التي سبقت الاستعمار الإنجليزي المصري (1898-1956) لم يكن لها حظ يذكر من (النظامية) الحديثة الموجّهة، بل كانت قاصرة على التعليم الديني الذي يعني بالانسان وأخلاقه ولا يلتفت بالنواحي التي عنت بها مناهج التعليم الحديث كالتنوير العام بالهوية وبالبيئة المحيطة ومقتضيات التوافق والتعايش بين المكونات الإثنيَّة والدينيَّة المختلفة.
4/ بدخول السودان عهد الاستعمار الأوروبي في العام 1898 بدأت مظاهر التعليم النظامي الحديث تظهر شيئا” فشيئا فيه.. وكما هو معلوم من أن الرؤية الكلية لمناهج التعليم كانت قد تبلورت في أغلب انحاء العالم وتشتمل، بالإضافة إلى العلوم التطببقيَّة والمهنية البحتة، على الشق التنويري للطالب و الذي يتعلق بتاريخه ومعالم بيئته المحيطة وكيفية تفاعله معها، وتصل إلى التعريف بالعالم أجمعه تاريخا” وثقافة و فنا”.
* اقتصرت مناهج التعليم في السودان في الفترة ما بين 1892 و 1940 (تقريبا”) من الجوانب التنويرية للطالب، واتجهت بكلياتها إلى الجوانب المهنيَّة البحتة وذلك لخوف المستعمر أن ينتج الشق التنويري لمناهج التعليم اتّجاهات وطنيَّة تتعلَّق بالنضال وحركات التحرّر، على ذلك فقد أتجه المستعمر على تطبيق مناهج تعليميَّة ترتبط بإنتاج موظفين للخدمة المدنية يظلون بمثابة مساعدين فقط لرؤساهم المستعمرين والمصريّين (وكانت بريطانيا قد فرضت وصايتها على مصر في العام 1881)، وقد انصبَّت مناهج التعليم قبل الجامعي على تعليم مبادئ القراءة والكتابة باللغة الانجليزيَّة وعلم الرياضيات وبعض علوم الطبيعة، وخلَت تماما” من بعض العلوم الإنسانيَّة كالتاريخ والجغرافيا الأنثربولوجيا وغيرها، أمّا مناهج التعليم الجامعي (متمثلا” في كلية غردون التذكارية التي أنشئت في العام 1902) فقد انحصرت في ما يشبه المناهج المهنيَّة فاقتصرت على المدرسة الطبيَّة، وبعض المدارس المهنيَّة كالهندسة (التي تحتوي على الميكانيكا و البرادة و الخراطة)، ومدرسة (العرفاء) التي خطَّط لها أن تخرِّج معلّمين للرياضيات واللغة الإنجليزيَّة.
6/ برغم ان المناهج قد كان مخطّطا” لها أن تنتج موظّفين مساعدين للإنجليز فقط، إلا أن الانجليز لم يلتفتوا إلا أن التعليم الحديث حتما” سينتج عقولا” منفتحة ومتطلّعة إليه ومهيّأة لقبوله.
لذا يلاحظ أن الغردونيين الأوائل، وإن برزوا في المجالات المهنيَّة كأطباء ومهندسين وكتبة ومعلِّمي لغة، فإنه لم يكن لهم مساهمات تذكر في الحقل التنويري المعرفي، بل مال أكثرهم إلى التشبه بالإنجليز في مسلكهم وفي المهنيَّة في أدائهم دون كثير انشغال بوضع مناهج تعليم تنويريَّة، هذا بالإضافة إلى أنهم لم يصلوا لأن يكونوا من صناع سياسات التعليم ومناهجه في البلاد.
7/ في أوائل الأربعينيات في البلاد، بدأت أعداد كبيرة من الخريجين الذين تلقوا تعليمهم الجامعي خارج البلاد في العودة إلى السودان (وأغلبهم عاد بعد التخرُّج من مصر)، وقد أتاح لهم تعليمهم في مصر (كلية دار العلوم ونحوها) والجامعة الأمريكيَّة ببيروت الاطلاع والدراسة وفق مناهج تعليميَّة تنويريَّة متطورة، ومن هنا (فترة النصف الأول من الأربعينات) بدأت فكرة أن تكون هنالك مناهج تنويريَّة للمدارس، ثم بعد ذلك انداح معهم الغردونيون المتأخرون في هذا المسار.
8/ ثم شهدت الفترة منذ النصف الثاني من الأربعينيّات وبداية الخمسينيّات وصول خريجي البلاد من خريجي الأكاديميّات غير السودانيّة المسلّحين بالتنوير الأكاديمي المنفتح الخالي من قيود الاستعمار المتشدّدة، إلى الخبرات والمناصب الإداريَّة التي تمكنهم أن يكونوا صناعا” للمناهج التعليميَّة في المدارس السودانية، وكذلك تفاعل معهم الغردونيون لدواعي الوطنية وتبلور حركات الاستقلال في تلك الحقبة (نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات).
9/ على ذلك فقد بدأت ملامح التنوير المعرفي في المناهج تجد حظها من الظهور. أيضا” ساعد معهد التربية (بخت الرضا) الذي كان حديث النشأة (1934)
في تلك الفترة إلى رفد كوادر تخصَّصت في مناهج التعليم من المعلّمين الذين يمكّنهم استيعاب المنهج التنويري المعرفي الذي بتكامله مع المنهج الأكاديمي المهني يمكن أن ينتج خريجا” مكتمل الملامح لا هو بالمهني الجامد ولا هو بالأدبي الذي لا صلة له بالعلوم التطبيقية المجردة.
10/ وعلى ذلك بدأت مناهج التعليم التنويري في الوجود داخل المدارس إبان خمسينيّات وستينيّات القرن العشرين.
11/ أصبحت المدارس السودانيَّة تدرّس موادا” تتعلَّق بالهوية السودانيَّة والبيئة المتعلقة بها، ولأن السودان بلد متعدِّد الأعراق والبيئات والثقافات فقد سعت تلك المناهج إلى ايجاد ملامح للوحدة والاندماج بين أبناء الوطن الواحد رغم التباين، فأنت تجد منظومات أدبيَّة شعريَّة مدرجة في مواد اللغة العربية تتناول رحلات واقعيَّة وخياليَّة تتحدَّث عن مواطنين، في بيئات متعدِّدة وبأساليب للحياة مختلفة، يجمع بينهم الوطن الواحد الذي يتجلّى في روح القصيدة الموجودة بالمنهج. وكذلك فقد انتظم البلاد مسرح مدرسي حاول، وفق الإمكانات المتاحة، خلق ما يشبه الانفتاح الثقافي بين أبناء الوطن الواحد، ولكنه ظل محصورا” هكذا لا يطرق بجرأة على موضوع الهوية الموحّدة للوطن، ويرجع ذلك إلى أن الأجيال الأولي من المعلمين الذين جلهم من أبناء النيل (وسط وشمال البلاد)، رغم اجتهاداتهم وتجردهم، ولذا كان من البديهي أن تسيطر على مرجعياتهم ثقافة (الوسط النيلي) أكثر من دمج المكونات الثقافيَّة النيليَّة العربيَّة مع الافريقية (الدارفوريَّة والنوباويَّة وغيرها)، لذا فقد خلت المناهج من أداء متعمِّق بهذا الصدد، إلا من إشارات هي أقرب لمحاولة خلق موازنة أو إنها قد صدرت فقط من باب القول بوجود ما يشير إلى الإفريقانيَّة في المنهج المدرسي. كذلك فقد نشطت حركة الانتداب المدرسي (الذي تولت مدارس الأحفاد الريادة فيه) بين أقاليم السودان المختلفة لمحاولة خلق نوع من الاندماج و لكنها كانت ضعيفة إلى حد كبير بسبب قلة المدارس وضعف أعداد الطلاب أنفسهم في فترات الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات.
في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين دخلت في المناهج المدرسيَّة نزعة نحو العالميَّة بغرض تنوير الطالب السوداني بمحيطه العالمي ومحاولة خلق نوع من التفاعل مع العالم الخارجي جغرافيا وتاريخيا، فكثر في المناهج المدرسيَّة، سيما في التاريخ والجغرافيا، التناول لملامح العالم تاريخيّا”، وجغرافيّا حتى صار لدى طلاب المدارس معرفة معقولة بتاريخ العالم (القديم والحديث) من حوله بالإضافة إلى طبيعته الجغرافية كالتضاريس والزراعة والمناخ. وأيضا” في الآداب فقد احتوت المناهج على قصص الأدب العالمي ومسرحياته وأنشطته.
12/ في اوائل سبعينيات القرن الماضي ومع بروز أيدولوجيَّة القوميَّة العربيَّة ووصول منتسبيها إلى مواقع السلطة وصنع القرار فبدأ المنهج يتّجه عربيّا” مما أدى إلى انحسار الحضور العالمي في المناهج إلى حدّ كبير، وقد بلغ ذلك الأمر مداه في النصف الأول ثمانينات القرن الماضي.
13/ في نهاية ثمانينات القرن العشرين وصل دعاة الدولة الدينية إلى سدّة الحكم في السودان، ومنذ أوائل عهدهم في البلاد وضح أن الاتجاه يسير على حصر التوجّه المعرفي في السودان إلى ما يتعلق بالتاريخ، وانغلاق المناهج على التاريخ الديني، وإقفال الباب في وجه التفاعل المعرفي مع المحيط العالمي وكذلك إيقاف معالم التنوير المعرفي التفاعلي بين إثنيات وثقافات الداخل، لذلك لم يطول الزمن كثيرا” حتى أصبح طالب اليوم في السودان معزولا” بصورة شبه تامَّه عن محيطه العالمي، وكذلك دخلت البلاد في صراعات هويَّة ونزعات إثنيّة قبليَّة وهي تعاني منها منذ ما يقرب من الثلاثة عقود.
(14) خلاصة:
(أ) بعد وصول المستعمر الانجليزي إلى السودان في العام 1898 آثر المستعمر في بداياته أن تكون المناهج التعليميَّة منحصرة في الجوانب المهنيَّة، لذلك لم تؤدي المناهج دورها المعتاد في خلق هوية وحدوبة في البلاد وكان أهل البلاد من الإثنيات والثقافات المختلفة كالغرباء عن بعضهم في دولتهم.
(ب) ظل الأمر كذلك حتى الثلاثينات حيث بدأت هجرة السودانيين للتعليم في مؤسّسات تعليميَّة خارج البلاد وبالتالي خارج المناهج الاستعماريَّة المنغلقة.
(ج) عاد هؤلاء إلى البلاد في منتصف أوائل الأربعينات من القرن الماضي وحتى منتصفها، وبرغم انفتاحهم وعلمهم بفوائد وجدوى التنوير المعرفي في المناهج، إلا أنهم لم يكونوا في الوضع الوطيفي الذي يسمح لهم بفتح المناهج.
(د) في بداية الخمسينات من القرن الماضي وحتى منتصفها صار كثير منهم إلى مراكز صنع القرار المعرفي وتفاعل منهم حتى الذين تلقوا التعليم على المناهج الاستعماريَّة المنغلقة لأسباب تحرريَّة، ومن وضعت مناهج تعد جيدة لإحداث التنوير المعرفي المنشود.
(ه) تصاعد دور التنوير المعرفي المنهجي فبلغ مدا في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي.
(و) في مطلع سبعينات القرن الماضي ساهمت القوميَّة العربيَّة في اتِّجاه غلق المناهج إلى الشق العروبي دون الشق العالمي والشق المحلي.
(ز) بلغ التدهور مداه في متصف الثمانينات من القرن العشرين حتى انفلق تماما” في الفترة من 1989 إلى تاريخنا هذا على التنوير المعرفي الديني.
(و) أصبح التنوير المعرفي المنهجي في أدنى مستوياته مما أذكى نار صراع الهوية التي تعاني البلاد من ويلات الحروب والاحتقان الطائفي القبلي.
ومما تقدم نرى أن نموذج السودان إلى حد كبير لم تستقر فيه الموجهات الأساسيَّة لربط المناهج بالتنوير بل أصبح الفارق كبيرا بين نظريات المناهج وحقول تطبيقها جامعات كانت أو مدارس.
هذا الخلل كان ينبغي تداركه بالاستفادة من توظيف طاقات الطلاب عبر المناشط المختلفة وسوح الدراسة وتدريبهم على ممارسة العمل العام عبر جمعياتهم ومنظّماتهم المختلفة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.