التنوير أساسه نور الإيمان بالله، والعلم والمعرفة ونور العقل والقلب والبصيرة، ووعي وإدارة الفرد للفهم الرشيد للدين في الحياة، والتفوُّق في ميادين العمل والعلم والعطاء. ويقوم التنوير على استقلال الإدارة والرأي والشورى والفكر لملكة العقل المبدع؛ ليدير الأمور بشكل سليم وصحيح نحو التقدُّم لتطوير وازدهار المجتمع وبناء حضارته في كافة الميادين والمجالات في توازن دقيق ومتكامل وفق الإمكانيّات والمعطيات، وإشاعة قيم الخير والمحبَّة والسماحة والتعاون والتضامن في المجتمع.
والتنوير يبعث الروح التحرّريَّة التي تخطف التشاؤميَّة والإحباط واليأس لتصبح منتجة مبدعة وتتَّسم بالشجاعة الكافية لاستخدام العقل لمواجهة تفكير الأوهام والافكار المتطرّفة وانحراف الفكر وفتحة لآفاق جديدة من المعرفة والاكتشاف، وتقييم الأمور بنصابها، وليكون بمثابة فلسفة شعبيَّة ( جماهيرية ) تكون بديلاً لفلسفة طبقة الفئة المحدودة من أصحاب النفوذ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؛ أي أن التنوير هو خروج الإنسان من مقصورة عجزه الذي اقترفه في حقّ نفسه من خلال استخدامه لعقله، وأن لا يكون ذلك العقل بتوجيه من إنسان آخر؛ حيث يعزى ذلك بسبب القصور إلى الكسل والجبن، وعدم المشاركة المجتمعيَّة، وعدم إفصاح الرؤية له وتقاعسه عن تحقيق أي انجاز ملموس يعود بالخير على مجتمعه ووطنه، فتكاسل الناس عن الاعتماد على أنفسهم في التفكير أدَّى من جهة إلى تقاعسهم وانطوائهم، ومن جهة أخرى هيأ الفرصة لدى كثير من الجهات صاحبة أجندات خاصة داخليَّة أو خارجيَّة لاستغلالهم بطريقة أو بأخرى.
إن كثيراً من المحللين والخبراء والعلماء لا يؤيِّدون طريق الثورة كطريق سليم للإصلاح أو كطريق للانتقال من وضع سيء إلى وضع أصح وأسلم ( على ضوء ما حدث في العديد من الدول من صراعات وحروب ودمار )؛ لأن هؤلاء الخبراء والمحللين يرون بأن تغيُّر اتجاه العقول من الاعتماد على الغير أو جهات خارجيَّة بسبب أو لآخر من أجل الاستقلال الذاتي، أمر لا ينفع فيه ولا جدوى إيجابيَّة منه؛ لأنهم يعتبرون أن التحوّل المفاجئ كالذي حدث في حالة الثورات في العديد من الدول تنتج عنها صراع قوى سياسية وقوى متطرَّفة وقوى ذات مصالح خاصَّة وقوى خارجيَّة متضاربة على السلطة وبالتالي على خيرات تلك البلدان، لتتفاقم فيها حالة عدم الاستقرار وانعدام الأمن وزيادة الدمار والقتل والتشرُّد والتشتُّت والتقسيم والتفتيت وتدخّلات من جهات خارجيَّة متعدِّدة تزيد من الوضع سوءاً، وإنما يتعيَّن على ذلك مدى أهميَّة التربية الفكريَّة والعقليَّة المسؤولة والتي تقع على عاتق كافة الجهات المعنيَّة حكوميَّة وأهليَّة.
وهنا نجد مدى أهميّة الحريَّة المسؤولة والملتزمة بوصفها مطلباً ضرورياً لنشأة التنوير وديمومته واستمراريته بشكل سليم وصحيح. والمقصود بمفهوم الحريَّة هو الاستخدام العلني للعقل في كافة الأمور سياسيَّة واجتماعيَّة وغيرها والاستخدام الوظيفي، وأن إطاعة القانون لا تعني إلغاء الحريّة الفرديَّة بل على العكس تدعمها وتقويها طالما كانت القوانين مقرَّة وصادره عن الأفراد بوصفهم فاعلين وواعين في المجتمع أو من يمثّلهم في مجالسهم النيابيَّة والشعبيَّة المجتمعيَّة ( بلديات وغيرها ) على أن يكون الاختيار الأمثل والأنسب لا الفوقي وعلى مبدأ تحقيق المصالح والمكتسبات الشخصيَّة فتلك القوانين تعتبرها الحكومات من تلك المجالس، وإن كان هناك خلل ما؛ وهو تغوّل القوانين على الحريَّة الخاصَّة والفرديَّة والجور على حقوق المواطنين، فإن الخلل يكون بتلك المجالس وآليّة ومبدأ انتخابها واختيارها وفوزها وعدم القدرة فيما بعد على توجيه مسارها بحال انحرافه.
إن الفكر التنويري يسير في نفس اتّجاه سريان المستقبل من حيث توسيع الرقعة البشريَّة التي تتمتَّع بما كان مقصوراً فقط على فئة محدودة من أبناء الشعب، وهي الفئة التي تتمتَّع بالقوة والنفوذ وأوجه الكمال في معطيات عالميَّة لا تؤيِّد هذا الفارق وهذا الخلل والتباعد الطبقي والذي تعتبره سبب رئيسي من أسباب الصراعات في المجتمعات.
إذن فإن السير إلى الأمام في اتّجاه المستقبل، يعني ويجب أن يقلِّل ويقلِّص الفارق بين عدد من يتمتّعون بهذه الامتيازات والنفوذ والسلطة المطلقة وبين القاعدة الشعبيَّة وحتى نسير باتّجاه الإنسانيّة في تقدّمها إلى الأمام والأكثر عدالة مجتمعيَّة وإنسانيَّة، وأن تتمّ المواجهة والتصدّي لعدالة المنفعة الشخصيَّة والمحسوبيَّة والشلليَّة وحتى لا نعاني من أزمات وتراجع وصدامات طبقيةَّ وحتى لا تكون هناك طبقة أو فئة من المسؤولين أو أصحاب النفوذ تستعبد فئة أخرى تحت مسمَّى عدالة العبوديَّة، وحتى لا يكون هناك حضور للأفكار الرجعيَّة أو للفكر التنظيمي المتطرِّف أو أي تمدّد أفقي لهم مع انتشار تأثيراتهم بين عامَّة الناس، خاصَّة بالمناطق الأقل حظاً والفقيرة والتي فيها نسبة البطالة عالية وهؤلاء يشكِّلون الغالبيَّة والتي لم تطال مناطقهم أي تنمية أو أي نوع من أنواع تحسين الظروف المعيشيَّة أو الاستقرار المعيشي لتلبية متطلبات الحياة الضروريَّة لنجد في لحظة ما تغلغل موجات التطرّف والفكر الرجعي في النفوس اليائسة والتي لم تجد من يعتني بها أو يعيرها أو يعطيها أي اهتمام ولتقتصر زيارة الجهات المعنيَّة حكوميَّة وأهليَّة وقطاع خاص عاملة بتلك المنطقة (استثمارات ) على بيع الأحلام والأوهام وانتشار لتجار الأديان وأصحاب المصالح الآنيَّة والوقتيَّة وهكذا يبقى الصراع الذي لا ينتهي بين الفكر التنويري والفكر الرجعي بين الصعود والنزول وأي فكر يغلب الفكر الآخر يكون تأثيره أكبر وأشمل سواء إيجابيّاً أو سلبيّاً وكثيراً من الأبراج تهاوت من ضربات الزلازل عندما يسود الفكر الرجعي ولا يجد من يتصدَّى له.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.