ندور على مواقع
التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونيَّة والقنوات الإخباريَّة فنجد الشيء نفسه:
العرب مستنفرون وحائرون، خائفون من كرة نار تتدحرج بينهم. وبدل أن ينشغلوا بالحلول
تراهم مشغولين بالكراهيّات ولعبة اللوم. فتتساءل: من أين نبدأ، ذهنيّاً على الأقل؟
في تصورنا لحلول المعضلات التي تحاصر معظم المجتمعات العربيَّة في هذه اللحظة
التاريخيَّة العاصفة.
هل نبدأ من وصف الواقع بدقّة وتفصيل، أعداد الضحايا، طبيعة الصراعات، جذور الفتن،
تحديد الأصدقاء والأعداء؟
هل نبدأ من فرز العواطف والانحيازات … مع أو ضدّ؟ هل نبدأ من مخاوفنا، أطماعنا،
أم أحلامنا؟
هل نبدأ من الخرافة أم العلم؟ هل نبدأ من الاستراتيجي أم الآني أم المتوسّط؟
الجواب ليس عسيراً، هو غائب فحسب لأنّنا مشوّشون. تشوّشنا الأحداث التي تصرُّ على
أن تسبقنا، ونصرُّ على أن لا نكون جزءاً من صناعتها.
مشوّشون لأننا نلجأ إلى الجامد (التراث) لتفسير المتحرِّك (التاريخ). لأننا نلجأ
إلى الماضي لصناعة المستقبل. ولأننا ننكمش إلى التبرير بدل الانفتاح على النقد.
الجواب ليس عسيراً. اختبرته أمم قبلنا فأنقذت نفسها في تدافع شرس حول البقاء ذوي صلة في عالم متحوّل باستمرار.
الجواب هو أن نبدأ من حيث نقف. من مكاننا الآن في هذه اللحظة. أي بداية أخرى هي حلم يقظة.
فأين يقف عرب العراق، الشام، الخليج، النيل، المغرب العربي، ومعهم ملايين المشرّدين والمهاجرين الآن؟
نحن معلّقون.
معلّقون بين صورتين: مجتمعات محافظة تتعثّر بتفاصيل تقاليدها فتختلف عن العالم بقرون،
ومجتمعات مستحدثة تتسابق مع أمم متقدّمة في مظاهر الحداثة وتركض في عراء ثقافي
وفكري فادح نحو مستقبل ناطحات السحاب والحكومات الإلكترونيَّة.
بين قصتين: إحداهما أن العرب ضحيّة مستمرة لمؤامرات لا تنتهي تستهدفهم لأنهم مركز العالم، الثانية أن العرب أمّة انتهت صلاحيتها الحضاريَّة بالكامل وتوشك على الانقراض.
بين تاريخين: واحد ليروي قصة أمجاد ذهبيّة لأسلاف استثنائيين لم يأتهم الباطل من أي مكان لا بد من العودة لسيرتهم الأولى، وآخر يستدعي مسيرة آلام ودماء وصراعات وكراهية ومكر وحروب مقدّسة بين الأهل لا بد أن تظل نارها مستعرة حتى آخر الزمان.
بين مصيرين: الذهاب نحو انفصال تام عن مسيرة الإنسان على الأرض وبناء نموذج للهوية الكبرى بالضدّ من هذه المسيرة تحدّد ملامحه قصص تاريخيّة متناقضة، ويلغي أي تنوع أو الهرولة المرتبكة نحو نماذج محليَّة غارقة بذاتها المتضخمة وأوهامها عن النفس والعالم.
معلّقون بين
عاطفتين: غضب أعمى أو عبثيّة تائهة.
الخطوة الأولى هي أن نخرج من حالة التعليق هذه، أن نحسم خيارات المستقبل الكبرى،
والعين التي نقرأ بها الماضي، أن نحدّد مصالحنا المشتركة، ومصير تنوعنا الثري.
ثمّ أن نبدأ ونصب أعيننا مسار ومثل أعلى.
وبدل أن نستمر في البكاء على الأطلال، لنتسابق مع الزمن في تحديد المثل الأعلى لحركة مجتمعاتنا. وكيف يساهم هذا المثل في شفاء جروح التاريخ، وشحذ الهمم وجمع المتفرق.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.