تعتبر النزاعات الدائرة اليوم في المنطقة بمثابة صراعات مجتمعيَّة وإيديولوجيَّة، قد تأخذُ أشكالاً متعدّدة، في طائفيتها أو مذهبيتها أو أثنيتها، لكنّها تبقى في نهاية المطاف أزمة تشكيل مجتمعيَّة فيما يتعلّق بنسيجها وتعدديتها وصلاتها وأفكارها، كغياب المواطنة الحقَّة وإشكالات التعامل في الصلات العضويَّة بين أفراد المجتمع، أو في إدارة التعدديّة والاختلافات القائمة حولنا أو في قراءة الأفكار الموجود واستقبال الجديدة منها، إن وجدت، بشفافيَّة وسلام وموضوعيَّة وأنسنة، بعيداً عن العنف والخراب.
وفضلاً عمّا تقدَّم من تشكّلات مجتمعيَّة غابرة، فهناك تغيرات جيوسياسيَّة وجيوستراتيجيَّة في العالم ستنعكس على المنطقة وستجعل، ونقولها بحزن شديد، من الصراعات والعنف هي الأسوأ على الأمد القصير، لذا يتطلَّب من الجميع فرز الأمور ووعي الأحداث والتفكّر عميقاً للنظر بعين ثاقبة صوب مستقبل هذه الأمَّة، إذ هناك مخرجان لا ثالث لهما، إمّا التدهور والخراب، الصومال مثالاً لا حصراً، أو إعادة تشكّل مجتمعاتنا، كما حصل في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، لسلك طريق الارتقاء، ولعل المثال الأقرب لواقعنا هو كوريا. فبعد حربها (1950-1953 ) جسّدت كوريا الجنوبيَّة مثالاً رائداً للنمو والتطور ليس أقلها في مستوى دخل فردها الذي يقدّر في حدود 33 ألف دولار سنويّاً، وعلى مستوى عمق المؤسّسات الحديثة من ناحية العمل والهيكليّة، إلى الدرجة التي أصبحت فيها شركاتها الاقتصاديّة والتجاريَّة عابرة للقارات، على سبيل المثال “سامسونغ” في الإلكترونيّات و”هونداي” في صناعة السيارات، ومنافستها للشركات الغربيَّة المتعدّدة الجنسيَّة. وفي المقابل تلاحظ كوريا الشماليَّة ووضعها الاقتصادي المتدني ودخل الفرد فيها لا يتجاوز 1800 دولار في العام والتضخم النقدي والمجاعات التي أودت بحياة الملايين من مواطنيها قبل بضعة سنين، ناهيك عن مؤسّسات عمل فاشلة، وفقر البنى التحتيَّة وأمّا الاستبداد فحدّث ولا حرج.
لذا التفكّر، بعد الرؤى الثاقبة، حول كيفيّة إعادة تنظيم أمور العمل وتوزيع الموارد وتطوير هيكليّة المؤسّسات كخطوات أوليَّة لإعادة تشكيل مجتمعاتنا نحو الانسجام مع الإيقاع المحلّي والإقليمي والدولي. ونظرة تأمليّة عميقة حول مفهوم المواطنة من وجهة نظر منطقيَّة وعصريَّة وإنسانيَّة لا يمكن أن يكون قوامها مستنداً على مفاهيم قضى عليها الدهر. فالقرآن يحفل بأكثر من 200 آية شريفة حول الاختلاف التام، كما تركّز آياته على التساوي في آدمية الإنسان وكرامته، إذ أن قيمة كل مواطن في كرامته وعطائه. وهذا يصبّ في الأمر الثاني فيما يتعلّق بالتشكّل المجتمعي حول إعادة تشكيل وتوزيع وتجدّد الموارد البشريّة والماديّة. والأمر بطبيعته سيولد فرصاً أكثر في الحركة وفسح مساحات أكبر في العمل، وتكون المشاركة أكثر انسجاماً مع الواقع على الأرض، ودور كل هذا في إفراز قيادات ونشاط وظيفي وأسواق ومنافسة على أشدها، والحاجة هنا لعمل المؤسّسات الحديثة، بأشكالها السياسيَّة والاقتصاديّة والمجتمعيَّة والثقافيّة والقانونيَّة والقضائيَّة في تنظيم وتمدين التنافس، وجعل الصراع بين مكونات التشكّل الجديد مدنيّاً وسلميّاً، لحماية المكتسبات والحقوق ومنع الاحتكار أو الهيمنة والاستئثار بالفرص والمبادرات والموارد والأسواق، كذلك تشكيل الدولة ومؤسّساتها الاقتصاديَّة والثقافيَّة على أسس جديدة وشفّافة وفاعلة. والأمل في ديناميات التشكّل المرتقب هو الحؤول دون بروز تجمعات ومكونات، كحال اليوم، ظاهرها حديث ومحتواها يعج بقيم العشيرة والمذهب، مستخدمة كل الوسائل الحديثة في مأسسة وضعها للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها.
التشكّل المجتمعي الجديد ضرورة قصوى
لمستقبلنا حتى لا تتحوّل دول، أو ما تبقّى منها، في العراق وسوريا واليمن وليبيا
… إلى شلل كامل يتبعها انهيار مديد بانتظار صوماليّات وطالبانيّات وداعشيّات أو
قاعديّات مقبلة.