التنويريسلايدرفكر وفلسفة

مقاربة عبد الله العروي لأنماط الوعي العربي

مقدّمة:

يعدّ الكاتب المغربي عبد الله العروي أحد المفكّرين الذين سعوا جاهدين في كتاباتهم إلى الإجابة عن السّؤال النّهضوي: لماذا تقدّم الغرب وتأخّر المسلمون؟ وفي إطار إجابته عنه تأكّد له أنّه يتعذّر أو يستحيل تخطّي التّخلف الحضاري وبناء النّهضة الحضارية العربية المنشودة، دون مشروع شامل يمسّ جميع جوانب الحياة، حيث يرى في القطع مع التّراث أو بدرجة أقلّ إعادة قراءته الأفق المساعد على ما يسمح بتقليص الفوارق القائمة بيننا وبين الأخر المتقدّم، وتحصيل ما يؤهّلنا للانخراط الفاعل في مجتمعنا وفي حاضرنا. ولقد اعتبر العروي أنّ المدخل المناسب لذلك يتمثل في انجاز ثورة ثقافية تمكّننا من تأسيس وعي تاريخي حضاري جديد يقطع بالضرورة مع أشكال تاريخية وممارسات فكرية أصبحت عائقاً في وجه التّجديد والتقدّم. فبواسطة هذه الثّورة الثقافية سنتمكّن من تحقيق الخطوة الأولى  نحو التقدّم والحداثة على حدّ تعبيره، وهو الأمر الذي كان سببا مباشرا في تأليفه لكتاب “الإيديولوجيّة العربيّة المعاصرة”، والذي سعى من خلاله إلى دراسة المنطق العام للوعي الإيديولوجي قصد تبيّن أشكال الوعي التي منعت الفكر العربي من أن يجد النّظرية الموضوعية التي تسمح له بفهم واقعه فهما موضوعيا، وبالتّأثير في هذا الواقع في اتجاه تغيير يسير به نحو تجاوز التّأخر التّاريخي، حيت إنّ العروي في هذا الكتاب قام بمهمة تشخيص الوعي العربي السّائد من خلال ثلاثة نماذج، إذ وقف على كلّ نموذج على حدة، ووقف أيضا على الهفوات التي وقع فيها كلّ صنف من هذه الأصناف ومكامن ضعفه.

معيقات التّقدّم في العالم العربيّ وأنماط الوعي المعاصر:

لقد عمل العروي جاهدا في مختلف مؤلّفاته على بيان مكامن الخلل التي اعترت الوعي العربي بالرّاهن، وبتاريخيّته، وهو ما يعني أنّ المنطلق في النّقد الإيديولوجي هو إعادة النّظر في وعينا بالواقع، وتشخيص مكامن الخلل فيه؛ لذلك كان تفكيك العروي لمواقف داعيّة الأصالة، ورجل السّياسة، ورجل التّقنية، محاولة لبيان ما يعتري فهمهم للواقع، من قلق وغموض غالبا ما يقف عائقا أمام بلورة فهم معقول للواقع. ولا أدلّ على ذلك من اعتقاده أنّه خلف تلك الدّعاوى جميعها، على اختلافها وتباين مواقفها من الإصلاح، يثوي موقف واحد ووحيد تمثله الماركسية، وهذا يعني أنّ هذه الأخيرة تشكّل الموقف الإيديولولجي اللاواعي بالنّسبة إلى المثقف العربي[1].

مقالات ذات صلة

إنّ المتتبّع لأعمال العروي الفكرية سيلاحظ أنّها تدور حول كيفية تجاوز التّخلف الذي لحق الأمّة الإسلاميّة، وقبل أن يطرح إجاباته لتجاوز أزمة الفكر العربيّ عمل العروي على تصنيف الأيديولوجيّة العربيّة منذ منتصف القرن التّاسع عشر إلى الآن، كما عمل على نقد الثقافات التي تستند في مرجعيّتها إلى التّراث والتّقليد، وكذا الثقافات التي تعتمد آلية الانتقاء والتّوفيق. ولهذا يرى أنّ العرب منذ تلك المرحلة وإلى اليوم يطرحون على أنفسهم سؤالا واحدا يظلّ هو نفسه، من هو الآخر ومن أنا؟[2]، ليجيب أنّ الآخر بالنسبة للعرب دائما هو اسم غامض ودقيق في نفس الوقت؛ فقد ظلّ الوعي العربيّ لفترة طويلة ينظر للآخر على أنّه أوروبا المسيحيّة وريثة الحروب الصّليبيّة والانحطاط الخلقي والرّجال المخنّثين، حتّى صار هذا الآخر مادّة للشّتائم[3]، من هنا يميّز العروي في الأيديولوجية العربيّة المعاصرة بين ثلاث كيفيات رئيسة لفهم القضيّة الأساسيّة للمجتمع العربيّ :أوّلها يكمن في الأيمان الدّيني، وثانيها يكمن في التّنظيم السّياسي، أمّا ثالثها فيكمن في النّشاط العلميّ والتّقني. هذه الاتّجاهات الرّئيسيّة الثّلاثة هي التي شكّلت وعي الذّات والهويّة؛ فالاتّجاه الأوّل السّلفي أو الدّيني يرمز إليه بالشّيخ محمّد عبده، والاتّجاه الثّاني اللبرالي يرمز إليه بلطفي السيّد، أمّا الاتجاه الثالث التّقني فيرمز إليه بسلامة موسى. فهذه الاتّجاهات الثلاثة هي التي تشكّل الوعي العربيّ المعاصر، والتي كان يرمي العروي من خلال تصنيفها إلى أن يرسم حدودها الفكريّة، أو قصورها النّظري الذي لم يمكّنها من استيعاب الدّرس التّاريخي.

1- الدّاعية السّلفي ووهم الصّراع بين الشّرق والغرب:

         الدّاعيّة السّلفي (الشّيخ): يمثّل النّمط الأوّل من وعينا العربيّ والذي أرجع تأخّرنا التّاريخي إلى ابتعادنا عن قيّم العقل والحرّية التي أقرّها الإسلام، في اعتقاده، قبل أن يتبنّاها الغرب، والتي أصبحت –أي هذه القيّم-  اليوم أساس قوّته وتفوّقه، رابطاً بذلك نهضتنا بالعودة إلى هذه القيّم الإسلاميّة الأصليّة، والتي كانت في نظره أساس تقدّمنا في الماضي قبل أن يضيق بها استبدادنا وتحجبها عنّا ظلاميتنا.

كما أنّ هذا النّمط من الوعي يرى بأنّ تخلف أمّتنا راجع بالأساس إلى الابتعاد عن أقوال السّلف الصّالح؛ باعتبار أقوالهم وأفعالهم وأفهامهم أو تأويلاتهم هي التّأويل الصّحيح، هذا التّأويل يضرب حسب العروي بمبادئ الحداثة عرض الحائط، فهو يسعى إلى “التّنكر للفرد، إعطاء قيمة المحكوم لصالح الحاكم، تقديس الماضي واحتقار المستقبل، إضفاء القداسة على الحاكم باعتباره ظلّ الله في الأرض، تمييز الأفراد على  ما هو ديني، محاكمة الفرد باسم الإرادة الإلهيّة –القضاء والقدر-، إقامة الاقتصاد على مفهوم الرّزق واعتباره مقادير إلهية”[4]. هذا التّأويل حسب العروي لا يزال سائدا ويفسّر بأنّ كلّ ما يأتي من الغرب بدعة، وكلّ بدعة في النّار، فالشّيخ حسب العروي يعيش ازدواجية على مستوى الشّخصية؛ يسبّ الغرب من جهة ويستفيد من منتجاته من جهة أخرى.

         فالشّيخ إذن أو رجل الدّين لا ينفكّ يرى التّعارض بين الغرب والشّرق في إطار تقليدي، أي كنزاع بين النّصرانية والإسلام، فيواصل سجالا دام أكثر من ألف ومائتين سنة على ضفّتي المتوسّط من الشّرق العربي إلى الأندلس، فالشّيخ يتوهّم بأنّ هذه المجابهة القديمة بين الإسلام والمسيحيّة هي التي ستستمر،و يرى العروي أنّ محمّد عبده هو الشّخصية الملائمة التي تمثّل وعي الشّيخ؛ فهو لا يستسلم لأقوال الغرب عندما يسمع منها أنّ تفوّق أوروبا المسيحيّة على الإسلام ناتج عن تعصّب هذا الأخير، إذ يعود إلى النّصوص محاولا أن يستخرج منها معاني التّسامح، مستمرا في دفاعه عن هويّته لكن من خلال الهجوم على الآخر، “فيؤكّد أنّ غاليليه سجن، وأنّ ديكارت أهين، وأنّ روسو أضطهد، وأنّ جوردانو برونو عُذّب بالنّار إلى أن أزهقت روحه لأنّه قدّم العقل على ما تقتضيه مصلحة الدّولة، فهذا الوعي يستنكر هذه الفظائع ويناجي نفسه: كيف يجرؤ النّصارى أن يذكروا كلمة التّسامح بعد أن ارتكبوا هذه الجرائم كلّها. يقول هذا وهو ساه عمّا فعله الخليفة المتوكّل بالمعتزلة والمرابطون بكتب الغزالي وفقهاء الموحّدين بابن رشد”[5]، فالشّيخ في نظر العروي يتعامل مع التّاريخ بانتقائيّة؛ فهو لا يرى فيه إلا انفتاح المأمون على الفلسفة اليونانيّة وعقلانيّة المعتزلة، لينتهي به الأمر إلى اعتبار العقل إلى جانب الإسلام والتّعصب إلى جانب المسيحيّة.

لكنّ الشّيخ أو رجل الدّين عندما يطرح عليه السّؤال التّاريخي التّالي: إذا كان العقل هو حقاً إلى جانب الإسلام، والتّعصب إلى جانب المسيحيّة فكيف نفسّر ازدهار هذا الأخير وتدهور الأوّل؟ يجيب العروي بالقول: إنّه عندما تفرض على رجل الدّين القراءة التّاريخية لذاته بعيداً عن الانتقائية، فإنّه يتذكّر نكبة ابن رشد وتقيّة إخوان الصّفا وعزلة الفارابي، حينها يعيد القراءة  ويتذكّر جميع الحيّل التي أجبرت العقل العربي أن يمارس تلك الازدواجيّة حتّى يفلت من العقاب، لكنّه – أي رجل الدّين- يستمرّ في الانتقائيّة واللاتاريخيّة فينتهي إلى الإقرار بأنّ مشكلات وضعف المجتمع العربيّ يكمن في عدم الفهم السّليم للعقيدة وعدم تطبيقها في الواقع والسّلوك، وبذلك فإنّ الأجوبة عن الحاضر دائماً تأتي عنده من الماضي، من النصّ، فبالنّسبة له أمّ المشكلات في المجتمع العربي تتعلّق بالعقيدة الدّينية[6].

         هكذا إذن يؤوّل الشّيخ التّاريخ، محاولا استعادة توازنه بهذه العمليّة التّعديليّة البسيطة لتنتظم أفكاره من جديد، ويتحقّق مرّة أخرى ما وعد الله به عباده المتّقين. “ورؤية الشّيخ هذه لا تزال تؤثّر في المجتمع على توالي الأجيال. كانت في أوائل حركة النّهضة موضوع إجماع، ثم فقدت رويدا رويدا جاذبيّتها، إلا أنّها لا تزال منتشرة بين جماعات يعتبرها البعض منّا تقليديّة أو متخلّفة”[7].

هكذا إذن نرى العروي ينتقد هذه الرّؤية أو الدّعوة؛ والتي يسمّيها بالفكر المحافظ والرّجعي السّائد، معتبرا بأنّ الارتباط بحقيقة مضت قد انتهى عهدها، وهي الآن سبب التّخلف، وكلّ مناداة بالرّجوع لهذا الأصل تقف عائقا أمام التّقدم، لأنّ الغرور بذلك السّراب وعدم رؤية الانفصام الواقعي يبقي حتما الذّهن العربيّ مفصولا عن واقعه، متخلّفا عنه، بسبب اعتبارنا أنّ الوفاء للأصل حقيقة واقعيّة، مع أنّه في الحقيقة أصبح حنينا رومانسيّا مند أزمان متباعدة، هذا قول صريح وواضح يلخّص لنا فيه العروي موقفه من كلّ ما هو سلفي، فهو يؤكّد لنا بأنّ هذا النّمط من الوعي هو نمط لا تاريخي، لأنّ كلّ ارتباط بأصل موهوم هو دعوة لا تاريخيّة كما يقول هيغل، كما أنّ تحليله لتلك الشّخصية مبتغاه هو انفصال الخصوصيّة عن الأصالة؛ فالأولى متحرّكة ومتطوّرة، والثّانية ثابتة متحجّرة ملتفتة إلى الماضي.

2- الدّاعية الليبرالي وضرورة الإصلاح السّياسي:

الدّاعية الليبرالي (السّياسي) في نظر العروي هوالذي اعتلى منبر الدّعوة إلى النّهضة، بعد رجل الدّين، مؤكّداً أنّ شروط النّهضة وتجاوز التّأخر يقوم على الإصلاح السّياسي، معتبرا أنّ قيم العقل والحرّية العقلية، على أهمّيتها وضرورتها، لا تنجب نهضة ولا تدرك حداثة في ظلّ الاستبداد السّياسي، وأنّ قيّم الدّيمقراطية والحرّية السّياسية التي بنيّت عليها نظم الحكم الحديثة هي شرط نهضتنا الضّروري بل هي أساس أيّة حداثة عربية مرجوّة.

إذن هذا النّمط من الوعي العربيّ يرى أنّ السّبب الحقيقي وراء تخلّفنا هو “الاستبداد، والاستبداد طارئ على المسلمين وعلى العرب، لا مانع لنا إذن من أن نستدرك ما فاتنا، ولا يزال أمامنا مستقبل، بالدّيمقراطية سنعود من جديد إلى مسرح التّاريخ، هذا ما تبارى في التّعبير عنه، يوما بعد يوم الخطباء، كلّهم يمدحون الحرّية المبدعة. يعود الكثيرون بذاكرتهم اليوم، بعد السّنين التي مضت ولم تحقّق شيئا من تلك الوعود البرّاقة، فيغمرهم الأسى كما لو طلعوا على وجه شابّ خانه القدر”[8].

ويرى العروي أنّ هذا الشّكل من الوعي يعرف الآخر بصورة أفضل من الاتجاه السّابق (الدّيني)، لأنّه يدرس التّاريخ الغربيّ في ذاته وينتهي الأمر به إلى الإقرار بغياب العقل عن المسيحيّة، غير أنّه ليس غائباً عن أوروبا التي خلقت له التّربة الصالحة للازدهار. وفي الحقيقة، فإنّ رجل الدّين هو الذي مهّد لهذه العقلانيّة التي تبنّاها لاحقاً الدّاعيّة الليبرالي، بحسب العروي، فرجل الدّين من خلال سجاله بين الإسلام والمسيحيّة، والحجج التي ساقها ضدّ الكنيسة، وتلك التي كان يجدها في فلسفة عصر الأنوار، كانت قد مهّدت الطريق أمام العقل العربي كي يأخذ بها[9].

فالوعي السّياسي إذن كنمط من التّفكير رَهَنَ شروط النّهضة وإدراك الحداثة بالإصلاح السّياسي، مؤكّدا أنّ التّخلف والانحطاط الذي تعيشه المجتمعات العربية في حاضرها سببه هو الاستبداد السّياسي، فقد وجد داعية السّياسة في فساد الحكم واستبداد الحكّام علّة تأخّرنا، وأنّ السّبيل للنّهضة وتجاوز التّأخر التّاريخي الحاصل في المجتمعات العربيّة هو تبنّي الدّيمقراطيّة والحرّية السّياسية التي بنيّت عليها نظم الحكم الحديثة، وعلى خلاف ما سار عليه المصلح الدّيني من الدّفاع عن الاعتقاد بوجود سابق للقيّم في التّراث الإسلامي والتي اعتقد بأنّ التّخلي عنها هو السّبب فيما آلت إليه الأمّة من تأخّر شامل، فإنّ داعية السّياسة سلك مسارا آخر في نظر العروي حاول من خلاله نفي أيّ تعارض بين القيّم التي بنيّت عليها أنظمة الحكم الحديثة من ديمقراطية وحرّية سياسيّة وبين الإسلام، بل يرى أنّ الشّرع لا يفرض على المسلمين أيّ نظام سياسي بعينه، وبالتّالي يمكن للمسلمين أن يختاروا أيّ نظام، لأنّ الشّريعة الإسلامية ستتكيّف معه، وبهذا ينتهي التّحليل عند رجل السّياسة الذي حلّ محلّ رجل الدّين إلى القول بأنّ سبب انحطاطنا هو استبداد قديم، ودواءه يكمن عند روسو ومونتيسكيو، وبالدّيمقراطية، والحرّية ونشر التّعليم. وبعبارة أخرى فإنّه – أي داعية السّياسة- يرى أنّ مشكلات المجتمع العربيّ تتعلّق بالتّنظيم السّياسي الكفيل بتأطير وتوجيه الشّعوب نحو الحرّية والتّقدم، وليست في عدم تطبيق الشّريعة، “إنّها في الاستبداد الطويل التي خضعت له الشّعوب العربيّة، ففي ظلّه لا يمكن للحياة أن تزدهر، ولا للثقافة أن ترتقي، ولا للحضارة أن تتطوّر. لقد وجد داعية السّياسة، إذن، في فساد الحكم واستبداد الحاكم علّة تأخّرنا، وفي ديمقراطية الغرب وحرّياته السّياسية آلية تحرّرنا من سلطة الفرد الواحد، وتحرير إنساننا من معطلات الجهل وكوابح الفعل الإنساني الحرّ ومعيقات النّهوض بالمجتمع. وبهذه الرّؤية الجزئية اللاتاريخية، استطاع الزّعيم السّياسي أن ينفي عن العقيدة الإسلامية سبب انحطاطنا، فسبب الانحطاط هو الاستبداد، والاستبداد طارئ على المسلمين وعلى العرب”[10].

3- داعية التقنية والدّعوة إلى التّحلل من كلّ أثقال التّاريخ:

داعية التّقنية (التّقني) هو ثالث أشكال الوعي العربي، يقوم تفكيره على اختزال قوّة الغرب في علمه التّطبيقي ومنافع صناعته، مقللاً من شأن إصلاحاته الدّينية وثوراته السّياسية، ومن أثرها على خلق تقدّمه وبناء قوّته، وهو، أي داعية التّقنية، إذ يرفض أفكار رجل الدّين وداعية السّياسية، التي ربطت تقدّم الغرب بدينه الخالي من الأوهام، أو بدولته البريئة من الاستبداد، يذكّر مواطنيه دائماً بمثال اليابان، الذي نجح بنظره، في اكتساب أسرار قوة الغرب في ظل الاستعباد والبعد عن ديانة التّوحيد، يقول العروي: “كثيرا ما يستدلّ داعية التّقنية في مقالاته بما حقّقه اليابان، هل يوجد دين أبعد من صفاء التّوحيد، وتاريخ أعنف وأشرس وشعب أكثر ميلا للخضوع من اليابان الإقطاعي؟ فلماذا استطاع اليابانيون في فترة قصيرة أن يتفوّقوا على أمم كثيرة من الجنسين الأبيض والأصفر؟، لأنّهم قصدوا إلى سرّ الحضارة الغربية”[11]. هكذا يفسّر داعية التّقنية التّأخر التّاريخي للمجتمع العربي، بالقوّة الصّناعية والعلم التّطبيقي للغرب ساخرا من أوهام الشّيخ والسّياسي الليبرالي، معتبرا إعادة نقد التّاريخ الإسلاميّ وإعادة تأويله عمل غير فعّال، وبالتّدريج يغيب عن ذهن داعيّة التّقنية ماضي العرب وقضاياه، ولم يعد يتساءل عن سبب انحطاط العرب وتأخّرهم التّاريخي، لأنّها في نظره أسئلة جوفاء، فشعاره هو التّقنية ولا شيء آخر، وهو كما يقول العروي “يظنّ أنّه تجاوز موقف من سبقه في حين أنّه قفز وحطّ في أحضان الغرب متخفّفا من كلّ أثقال التّاريخ، لم يزد في ذهنه –أي الغرب- وضوحا بقدر ما زادت ثقافته غموضا”[12].

لقد حصر داعية التّقنية، بحسب العروي، التّفاوت التّاريخي، والهوّة الحضارية الفاصلة بيننا وبين الغرب في الصّناعة ومكوّناتها العلميّة والتّقنية، وليس في شيء آخر، مستبعداً بذلك، كما يقول، أهميّة نقد التّاريخ الإسلامي ودواعي إعادة تفسير المعتقد الدّيني وتأويله، التي دعا إليها رجل الدّين وداعيّة السّياسة، لأنّ ذلك كلّه لا يقرّر في نظر داعية التّقنية، قوّة الأمم ولا يحدّد ضعفها. وبهذا المنطق، يبدأ الماضي العربيّ وحقائقه التّاريخية والحضارية يغيب عن تفكيره، ولم يعد يتأسّف كسابقيه –أي الدّاعية السّلفي والدّاعية الليبرالي- عن أمجاد العرب، ويتساءل عن علّة انحطاطهم، بل يعدّ كلّ ذلك أسئلة بلا معنى، شعاره هو التّقنية وحقيقة مستقبلنا مشروطة بها، كامنة في سرّها.

خاتمة:

في ختام هذه الدّراسة لا بدّ أن نشير إلى أنّ عبد الله العروي بعد أن بيّن هذه الأنماط الثلاثة أكّد بأنّ كلّ نمط من هذه الأنماط يرتبط  بطبقة معيّنة، فوعي الشّيخ الذي مثّل له بمحمّد عبده، مرتبط بالمجتمع الخاضع للاستعمار، ووعي السّياسي الليبرالي الذي مثّل له بلطفي السيّد مرتبط بالطبقة البورجوازيّة المتولّدة عن تفكّك النّخبة القديمة، وأخيرا وعي داعية  التّقنية الذي مثّل له  بشخص سلامة موسى يتناغم مع منطق الدّولة القوميّة التي تسيطر فيها البورجوازية الصّغيرة، كما أنّ هذه الأنماط الثلاثة هي التي تكرّس العقم الثّقافي الملازم للثّقافة العربيّة المعاصرة، ممّا يؤدّي في آخر المطاف إلى تحجّر الذّهنية العربيّة ويضاعف في النّهاية من مستويات التّأخر في مختلف جوانب الحياة.

الهوامش:


[1]– انظر: نبيل فازيز، عبد الله العروي؛ المشروع الفكري ووحدة المتن: ملاحظات على هامش حوار العروي مع مجلة النهضة، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الرباط، بتاريخ: 27 مارس 2015، ص:7.

[2]– انظر: عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1995، ص: 28.

[3]– نفسه، ص: 29.

[4]– كمال عبد اللطيف، درس العروي في الدفاع عن الفكر التاريخي – الحداثي، سلسلة المعرفة للجميع، رقم 11، دجنبر 1999، ص 74- 75.

[5] – عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص: 40.

[6]– انظر: محمد خالد الشياب، لا تاريخية الوعي التاريخي وسبل تخطي تأخره عند عبد الله العروي، المجلة الأردنية للعلوم الاجتماعية، المجلد 10، العدد 1، 2017، ص: 65.

[7]– عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص: 42.

[8]– عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص: 45.

[9]– انظر: محمد نور الدين جباب، إشكالية الهوية والمغايرة في الفكر العربي المعاصر، رسالة دكتوراه، جامعة الجزائر، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم الفلسفة، 2005، ص: 70.

[10]– محمد خالد الشياب، لا تاريخية الوعي التاريخي وسبل تخطي تأخره عند عبد الله العروي، ص: 66.

[11] – عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص: 47.

[12]– نفسه، ص: 48.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة