تعيش الدول العربية على إيقاع فجوة رقمية غائرة تنعكس على مساهمتها في الإنتاج المعرفي العالمي وتوزيعه وبالتالي في خطِّ التقدُّم الحضاري العالمي. إنَّ الفجوة هذه تحتِّم على تلك الدول بأن تظل مستهلكة لما ينتجه غيرها من معارف في جميع المجالات المعرفية والعلمية. لكن عندما نتأمل هذه النتائج نجدها مرهونة بمقدِّمات تعود جذورها إلى ستينات القرن الماضي أي مع مرحلة الاستقلال السياسي لجل تلك الدول، ترى ما هي العوامل الكامنة خلف تلك الفجوة المعرفية والتي انعكست عن التوزيع العالمي للمعرفة؟
إنَّ الفجوة المعرفية والعلمية التي تعيشها جل الدول العربية مقارنة مع غيرها من الدول المتقدِّمة، والتي ستنعكس على التوزيع العالمي للمعرفة، نتيجة مجموعة من العوامل منها على وجه التحديد ما يمكن تسميته بسياسة الأولويات التي نهجتها جل الدول بعد “استقلالها” حيث عمدت إلى الاهتمام بإشباع الحاجات الضرورية للمجتمع في تلك اللحظة الحرجة وهي المتمثِّلة في التعليم والصحَّة والطرق والموانئ، جاعلة بذلك أهمّ محرِّك ومورد لردم تلك الهوَّة وهو المتعلِّق برقمنة المجال أي ما يتعلَّق بالإعلام والاتِّصال في عداد ما هو ثانوي. والخطير هو أنَّ هذا المنطق لم يكن بالخلفية التي تبدو نبيلة وإنما بتأمّلنا لتلك اللحظة نجد أنَّ الهاجس الذي حكم جعل الإعلام والاتِّصال في خانة المجالات الثانوية وليس ما هو آني وملح هو “توظيفها لأغراض “بناء مقوّمات الدولة الوطنية” التي كانت إحدى أولويات إدماج الأفراد والجماعات والمجالات الجغرافية عبر مراقبتها وضبط حلّها وترحالها”[1]، واضح إذن، أنَّ الغرض من سياسة الأولويات ليس كما هو واضح في الظاهر من خلال التسمية، وإنما هو في العمق إرادة تشكيل مجال منضبط بعيدا عن التشويش الذي تسبّبه وسائل الإعلام والتواصل، كما يمكننا القول إنَّ الدول الاستعمارية وسعيا منها إلى تكريس التبعية والهيمنة كانت مضطرة لخلق تلك الفجوة بينها وبين الدول المستقلَّة حديثا لتضمن الوجود الرمزي والثقافي، وهو ما نراه واضح المعالم على مستوى المعارف المستهلكة داخل المجال المستقل، والمفروض – بحكم الهيمنة المعرفية والثقافية عليها- وهو ما يمكننا أن نعبِّر عنه بالاستعمار الجديد، استعمار المعرفة والثقافة، وهو الذي تعاني منه اليوم جل الدول المستقلَّة والدول العربية على وجه التحديد.
إنَّ التوزيع العالمي للمعرفة الذي يظهر في شكله الحالي هيمنة للدول الغربية، حيث هي مصدر جل الحقائق العلمية والعرفية وحتى الخرافية والكاذبة منها، في الوقت الذي تستهلك فيه الدول العربية تحديدا ما يتم إنتاجه، لم يكن صدفة، وإنما كان مخطّطا له من قبل الدول التي كانت تستعمرها ولكن بطريقة “ذكية” و”لبقة” حيث وجّهتها للمجالات ذات الأولوية بحسبها في الوقت الذي صرفت انتباهها عن أحد مصادر القوة وهي ما يتعلَّق بالإعلام والاتّصال التي ستتحكَّم في التوزيع العالمي للمعرفة، لكن قبول الدول “المستقلَّة” لم يكن من منطلق السذاجة، وإنما لأنَّ ذلك كان لها فيه منفعة ومصلحة مباشرة لما يمكن أن نسمّيهم “حرّاس النفوذ الاستعماري”، فهم لم يكونوا مستعدّين لمواجهة نتائج وسائل الاتِّصال والتواصل وانفتاحها، لأنهم كانوا منشغلين بتأمين مراكز النفوذ. لكن التاريخ أحيانا لا يسير وفق ما يليق ورغبات الأفراد بل “يمكر بهم” بحسب تعبير الفيلسوف الألماني “فريديريك هيجل” فيرمي بهم رميا خارج المتوقَّع والمخطَّط له كما ترمى قشور الفاكهة بعد أن تصل إلى من يستهلكها، وذلك ما ظهر جليا في الربيع العربي ولو بشكل نسبي.
إنَّ غياب العرب على خارطة التوزيع العالمي للمعرفة تتحمَّل مسؤوليته هي بدرجة أولى، وذلك لأنها أكَّدت في مناسبات عدَّة عبر حكَّامها وممثّليها أنَّ هاجسها الأساسي هو سلطتها السياسية ونفوذها الاقتصادي والاجتماعي وليس إدارة شؤون مواطنيها بشكل عادل وديموقراطي. لكن في الوقت نفسه لا يمكننا إغفال مساهمة الدول المستعمرة والرأسمالية في ذلك وإرادتها في تكريس وضع “اللاتوازن المعرفي” الذي نعيش على إيقاعه اليوم. لكن الحقيقة التي لا يمكن أن ننكرها اليوم وهي أنَّ المساهمة في التوزيع المعرفي العالمي اليوم محكوم بما للدولة من قوة على “رقمنة” مجالها وتوجيهه لبناء الإنسان وليس توجيه ما تملكه من وسائل – على قلتها – لتدميره، وتحقيق غاية واحدة وهي تكريس التخلُّف والاستبداد والهيمنة والتغريب، وليس كذلك وليس ما تملكه من خيرات طبيعية. لذلك آن الأوان لكي تنهض الدول العربية بمجالها الرقمي والإعلامي وتطويره لصالح الإنسان.
___________
[1] . د. يحيى اليحياوي، العرب والتكنولوجيا والتوزيع العالمي للمعرفة، دار الكتب الوطنية بنغازي- ليبيا، الطبعة الأولى 2006، ص، 116.