النخبة الجامعيَّة العربيَّة بين التنوير والتقليد
لا يستطيع أي أحد الجزم بالقول إنَّ جامعاتنا العربيَّة قادرة على إنجاب نخب مثقَّفة قادرة على تبنّي ثقافة نقديَّة حقيقيَّة لا تنافق أحداً ولا تبرِّر سياسة أو قراراً مجحفا. ولا يقدر أحد منا أن يدّعي أنه قادر على الدفع نحو تغيير هذا الوضع العربي دون أن يضحّي بالعديد من مكتسباته ومصالحه الشخصيَّة؛ لأنه يعرف أن السلطة السياسيَّة والتعليميَّة في عالمنا العربي متوغِّلة في المجتمع كله، وبالتالي في جميع مؤسّساته، وحتى الجامعة ومراكز البحوث.
إنَّ القول إنَّ تعليمنا العالي بخير أو هو على الأقل في سكّته الصحيحة هو قول مجانب للصواب، لأنَّ جامعتنا العربيَّة ما زالت تحن إلى أساليب الماضي في التعليم، وخاصَّة في كليّات الآداب والعلوم الإنسانيَّة، التي ينبغي أن تكون مراكز للبحث العلمي وحريَّة الاختيار والبحث والإبداع، لكنها للأسف الشديد لم تعدْ تتجاوز تقنيات التعليم بالتلقين وإجهاد الطالب في التدريس التقليدي والحفظ وإرجاع المادَّة إلى صاحبها (الأستاذ). وإن دلَّ هذا على شيء إنما يدلُّ على أن مثل هذه الكليّات لم تستطع أن تتجاوز رهانها على التقليد والتلقين والتدريس بالطبشورة والممسحة، أو الحبر واللوحة، وكأنها مؤسّسات تعليميَّة من زمن قديم أو على الأقل ما زالت تحنُّ إليه.
التنوير: عصر العقل والنقد
لقد كان عصر العقل حقبة في التاريخ شدَّدَ فيها الفلاسفة على العقل باعتباره أفضل وسيلة لمعرفة الحقيقة. وقد بدأت حقبة عصر العقل في أوائل القرن السابع عشر الميلادي، واستمرَّت حتى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. كما يسمَّى عصر العقل بعصر التنوير، أو عصر العقلانيَّة. وقد شمل زعماء العصر عدّة فلاسفة فرنسيّين مثل: الماركيز دو كوندرسيه، ورينيه ديكارت، ودينيس ديدرو، وجان جاك روسو ، وفولتير، والفيلسوف الإنجليزي جون لوك.
اعتمد زعماء عصر العقل اعتماداً كبيراً على المنهج العلمي، بتشديده على التجريب والملاحظة الدقيقة. ولقد أحدثت هذه الحقبة تطوّرات مهمَّة عديدة في مجالات، مثل: علم التشريح، وعلم الفلك، والكيمياء، والرياضيات، والفيزياء. وقام فلاسفة عصر العقل بتصنيف المعرفة في موسوعات، وبتأسيس المعاهد العلميَّة. كما كان الفلاسفة يؤمنون بإمكانيَّة تطبيق المنهج العلمي على دراسة الطبيعة الإنسانيَّة. واستكشفوا بعض المواضيع في التربية، والقانون، والفلسفة، والسياسة؛ وهاجموا الطغيان، والظلم الاجتماعي، والخرافات والجهل. وقد أسهم الكثير من أفكارهم في اندلاع الثورتين الأمريكيَّة والفرنسيَّة في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. ولقد كانت وما زالت فلسفة التنوير التي تعتمد على العقل وتؤمن به وبقدرته على خلق مزيد من الإبداع وتحقيق نوع من التطوّر العلمي نتيجة مباشرة لأزمة الوعي التي هزَّت أوربا منذ عام 1680 حتى 1715 كما وصفها مؤرِّخ الأدب الفرنسي بول هازار، لم تتبلور بالفعل إلا في فرنسا بين 1745 و1785، حيث أخذت طابعاً علمانيّاً معادياً للكهنوت وللتعصّب الديني، وصبغة ماديَّة عقلانيَّة تنسف الأفكار المتخلّفة والخرافيَّة وتنهي سيطرة الميتافيزيقيَّة، “وتعطي الأولويَّة للتجربة، لتكرِّس العلم قيمة أساسيَّة، إضافة إلى ما حملته من رؤية جديدة للسلطة والقانون وحقوق الإنسان. ومع أن تأثيرها في سياسة المؤسّسات كان في البداية ضعيفاً، نجحت تماماً في بلورة النظريَّة السياسيَّة لدى النخبة المثقّفة. فهي لم تحدث ثورة، لكنها أنضجت الخطاب الثوري الذي طرح قيماً جديدة، مثل الحريَّة والمساواة التي ستكون أساس شعارات الثورة الفرنسيَّة لاحقاً”. فأين نحن اليوم من التنوير؟ وكيف نتجاوز، في زمن التطور التكنولوجي والعلمي والتقني، أساليب تعليميَّة عفا عنها الزمن؟ وهل بمقدورنا في ظل عقليّات قديمة أو متشبِّعة بالحنين إلى الماضي أن نبرح مكاننا ونخرج من عقليَّة الشيخ والمريد، أو المدرِّس والتلميذ المجتهد؟ أم أن زمننا ما زال بعيداً وعلينا الانتظار حتى وقت آخر؟
إنَّ التنوير كاختيار فكري وثقافي يتطلَّب منا الوقوف لوقت محدَّد من أجل مراجعة مواقفنا وأفكارنا وثقافتنا التي لا تستطيع تجاوز الماضي والانغمار فيه بأسلوب سمج، فالتنوير هو رهان التقدّم الحقيقي، يقول فولتير: “إنَّ التقدُّم هو القانون الباطني والمعنى الجوهري لتاريخ العالم، لأنّ الإنسان كائن عاقل، والعقل يدعوه إلى تحسين أحواله وتمكينه من الحياة السعيدة. يتجلَّى هذا في العلوم والفنون، وفي تهذيب الأخلاق، وفي إصلاح القوانين، وفي انتشار التجارة والصناعة”. فلا يتحقَّق التقدُّم أبداً دون إعمال العقل، وبالتالي تنوير الفكر والابتعاد ما أمكن عن كل ما يمنع ملكة التفكير من العمل والاجتهاد والإبداع.
حقيقة، وليس مراء، نقول إنَّ أغلب النخب العربيَّة لم تعدْ تؤمن بالتغيير اليوم، لأنّها أصبحت تفكِّر بمنطق الربح والخسارة. الثنائيَّة التي قد تحقِّق لها البقاء أو الفناء. ولذلك يصعب أن نجد لدى هذه النخب قناعات بالتضحية من أجل التفكير في تطوير المجتمع ونقد سلوكاته وأفكاره الخرافية أو على الأقل تنبيهه إليها. بل، إننا وبشيء من الحسرة، أن هناك بعضاً من هذه النخب ما زالت تؤمن بالخرافة وتكرِّس الشعوذة وتدافع عنها بكل الوسائل مستمدَّة قناعاتها الفكريَّة من التراث الفكري الديني البعيد كل البعد عن الدين وتعاليمه الحقيقيَّة. وإنه ليحز في النفس أن تعيش نخبنا الجامعيَّة على هذا الوهم معتقدة أنها تحافظ على الدين وشرائعه، بينما هي تحاربه من حيث لا تدري. فعن أي تنوير نتحدَّث عند مثل هؤلاء؟
إنَّ التنوير قرين للحريَّة الفكريَّة والسياسيَّة، وبالتالي لا يمكننا أن نفصل بين عناوين الانتفاضات العربيَّة الأخيرة وبين فكر التنوير الذي يرتبط بالحريَّة ويقترن بها اقتراناً بارزاً على كافة الأصعدة. يقول تيراسون: “إنني لا أعرف أخلاقاً عامّة مدنيَّة أو دينيَّة من غير موقف جدي من الحريَّة”. كما أنَّ الاقتصادي الإنجليزي آدم سميث الذي جعل لمذهبه الاقتصادي شعاراً قائماً على الحريَّة مفاده: (دعه يعمل، اتركه يمر). والحريَّة أساس العقد الاجتماعي محدّداً في ذلك أهم مبادئه الخاصَّة. يقول كانط: “إنني أعترف بأنني لا أفهم جيداً هذا القول الذي يردّده قوم عقلاء: هذا شعب ليس ناضجاً للحريَّة، ففي فرض مثل هذا لن تأتي الحريَّة مطلقاً، ولأنه لا يمكن أن يكون الإنسان ناضجاً للحريَّة إن لم يكن قد عرف الحريَّة من قبل”. وتبقى للحريَّة موطناً أساسيّاً لدى المجتمع الحرّ وبالتالي لدى الفكر الحرّ ومن يمثّله خير تمثيل. وفي هذا الإطار نتساءل: هل فعلاً لدينا نخب جامعيَّة ومثقّفة حقيقيَّة يمكنها أن تتبنَّى هذا الطرح دون مركَّب نقص أو تخوّف من تبعات ذلك؟
سؤال التراث الديني ومنطق الثابت والمتحوّل
إن التّشكيك في المؤسّسات الدّينية، ارتبط مع مفكِّري عصر التّنوير باستدعاء الحريّة الدينيّة في عبادة ما يشاؤون وما يعتقدون. تقول سوزان بهذا الخصوص: “لقد سعى مفكِّرو عصر التنوير بشدّة إلى الحدِّ من القوَّة السياسيّة للدين المُنظم في محاولة للحدّ من الحروب الدينيّة المتعصّبة” التسامح الديني للتّنوير له علاقة مع تركيز الحركة على الحريّة الشخصيّة. هذا المفهوم يقول إنَّ الله أو الطّبيعة قد منحت للبشر كلّ الحقوق الأساسيّة وأنّ للبشر حريّة التصرّف دون تقييد قمعي. تشرحُ سوزان الأمر بقولها: “شدّدَ هؤلاء الفلاسفة على أنّ الحكومة لا سلطة لها على ضميرِ الفرد. للأفرادِ حقوقهم، وجميع الناس سواسية كما أنّ السلطة السياسيَّة الشرعيَّة تُبنى على موافقة الشعب وهي مُجبرة على أن تكون مُمَثِّلةً لرغبته”.
وإذا ما تتبّعنا موقف التنوير من الدين، وجدنا أنّ هنالك أكثر من اتجاه فكري وتيّار وموقف، فهنالك من دون شك تيار مادّي ميكانيكي ملحد يمثّله في فرنسا بشكل خاصّ فلاسفة أمثال دالمبير، وهلفثيوس، ودو لاميتري، وهنالك تيّار عقلي مؤلّه أو ربوبي (déisme) قال به نيوتن، وهو مذهب يرى أنّ الله لا سبيل إلى معرفته إلا بالمناهج العقليَّة، وبخاصَّة ما سمّاه العلَّة العظمى الأولى، وأنّ الله مصمِّم الكون وواضع نظامه. وقد وظّف هذا التصور علماء الدين والفكر على السواء، فاستعمله الأسقف جوزيف بتلر في كتابه: المماثلة في الدين بين الطبيعي والدين المنزَّل، وحاول البرهنة على أنّ مبادئ الدين المنزّل ومجرى الطبيعة متشابهان بما يكفي لإثبات صانع واحد لكليهما. كما استعمل هذا المذهب فولتير وروسو في نقدهما للمسيحيَّة الكاثوليكيَّة، وبخاصَّة في موضوع التعصُّب. ويعتبر التيار الربوبي تياراً غالباً على تصوّر النخب للدين، لأننا نقرؤه عند مختلف فلاسفة ومفكري وكتّاب عصر التنوير سواء في فرنسا أو إنجلترا أو ألمانيا. إنَّ التفكير في مثل هذا الأمر يقود المفكِّر إلى الوقوف على أهميَّة البحث العلمي والتفكير النقدي الذي ينبغي على النخب الجامعيَّة أن تعمل عليه وتنتج في إطاره أفكاراً ومعرفة جديدة تختلف كل الاختلاف عن الرؤية التقليديَّة والمتطرِّفة والرجعيَّة التي لا تنطبق مع تعاليم الدين الحقيقيَّة التي تدعو إلى الاجتهاد والخلق والإبداع في إطار من الشفافيَّة الفكريَّة والعلميَّة البارزة.
لقد كان للعلوم الإنسانيَّة في الغرب دور كبير وأساسي في تبنّي استراتيجيَّة فكريَّة ونقديَّة وعلميَّة لخلق نوع من التحوّل على مستوى الفكر وأنماط الحياة في عصر كانت الكنيسة تسيطر على كل شيء وتتحكَّم في كل صغيرة وكبيرة، حيث برز في الأفق آنذاك فكر نقدي استطاع أن يغيِّر من التعاطي مع الفكر الديني وسيطرته على أساليب الحياة وبيع الأوهام إلى الناس باسم الله وباسم الدين. فلولا جرأة المفكِّر الغربي وانخراطه الكلي في موجة البحث العلمي ومجابهة الفكر الديني المتحجِّر والمتطرِّف بحقيقته ومحاربة فكره المتشدِّد الذي يستمدّ سلطته من مقولات بعيدة كل البعد عن ما سنّه الله من شرائع دينيَّة، لما كان للتقدّم الذي حقَّقه الغرب على جميع المستويات وجود. ولذلك، علينا حقيقة، أن نجابه فكرنا الديني المتغطرس والذي يستمدّ شرعيّته من مقولات دينيَّة ما أنزل الله بها من سلطان واعتبارها مجرّد اجتهادات بشريَّة قد تصيب وقد تخطئ. ومن دون ذلك لن نتطوّر ولن نتقدَّم إلى الأمام، خاصَّة وأن بعض رجال الدين الذين يعتقدون [أنهم معصومون من الخطأ، وأن كل ما يقولونه لا يدخله الباطل من بين يديه ولا من خلفه] ما زالوا يسيطرون على الساحة ويتحكّمون في رقاب الناس ويستغلّون سذاجتهم وجهلهم بالدين وتعاليمه الحقيقيَّة وشرائعه التي أنزلها الله وأتى بها رسولنا، والتي تعتبر التسامح والتعايش والسلام والحبّ من أهم مبادئها. من دون ذلك يصعب علينا مبارحة مكاننا أو حتى التفكير في إيجاد طريق سالكة نحو التطوّر العلمي والفكري. إنَّ الكرة في ملعب النخب الجامعيَّة التي لها دور كبير وأساسي في توجيه الطلبة ودفعهم إلى البحث العلمي وتبنّي السؤال والفكر النقدي الذي يعتبر الوسيلة الوحيدة نحو التقدّم والتطور.
المراجع والمصادر:
- أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ، مؤسّسة الثقافة الجامعية، القاهرة، مصر، 1975.
- بول هازار، الفكر الأوروبي في القرن الثامن عشر، ترجمة: محمد غلاب، دار الحداثة، بيروت، لبنان، (د- ت).
- الزواوي بغورة، “موقف من التنوير”، موقع مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، مقال منشور بتاريخ: 28 سبتمبر 2016، رابط المقال:هنا
- الموسوعة العلميَّة: المعرفة، رابط المقال: من هنا
- وليد سايس، “تأثير عصر التنوير على تطوّر التفكير العلمي”، موقع: أنا أصدِّق العلم، بتاريخ: 21 غشت 2016، رابط الموقع: هنا
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.