(1) البَحثُ عَن مَعنى
أدركُ تماما، أنَّ السؤال: لماذا ترسم؟ يخرجُ عن سياقِ المنطق أوّلا، والفنّ ثانيا، والشَّغف ثالثا، والحواسّ رابعاً وخامساً وعاشرا؛ لأنَّ ابتكارَ الجمالِ غايةٌ أعلى من غايةِ البحثِ عن معنى.
إذاً، ما الذي أخوض فيه هنا؟
أنزعُ عن الجمال الفني دور “المفعول به” المنصوب بالإطار على جدارٍ في غرفة الطعام، وأعيد له حقّه بتناول وجبة العشاء أمام الطاولة مثل أيِّ “فاعلٍ” مرفوع بالاستشراف والرؤيا، رغم إيماني المطلق بأنَّ الدعوة إلى دورٍ إيجابي للفن، تخالف مبدأ “الفن من أجل الفن”، لكن ألم يفعل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز(1925-1995) الأمر نفسه، عندما طالبَ بنقل الفلسفة من طوبائيَّة البحث عن الحقيقة إلى حيِّزِ أدوات البحث؟
والحقيقة، أنَّ فكرة الجمال الفنّي الفاعل/ القائد/ المزارع/ المفكّر/ المعلِّم/الفيلسوف/ الطبيب الجرّاح/ المهندس/ …الخ، لفت إليها الرَّسام البلجيكي رينيه ماغريت(1898-1967)، عندما قال: “يجب أن يخدم الرَّسم أي شيءٍ آخر غير الرَّسم”؛ وهي المقولة التي نرغب باختبارها عبر جولةٍ سريعة على ثلاث محطّات، أو لوحات رسمها رينيه ماغريت، لنقرِّر بعدها إن كان الجمال الفنيّ يصلح للاستخدام بوصفه قوَّة فاعِلة ومؤثّرة قادرة على رصد وتحليل الظواهر، واقتراح الحلول لها، أم أنَّ علينا التعامل معه بمنطق العصفور الملوَّن والقفص.
وسواء كان طرحنا قابلاً للتطبيق أو للنسيان، فإنَّ مسؤوليّتنا تحتِّم عَلينا أن ننتصر للجمال على حسابِ البشاعة، ولن يحدث هذا إلا إذا اتّفقنا على ضرورة استنهاض همَّة “ضمير الفن”؛ لإعادة ترميم وجه العالم.
وقبل أن ننتقل في جولتنا تلك، أودُّ الإشارة إلى أنني قصدت تجاهل التعريف بسيرة الرسّام البلجيكي رينيه ماغريت، لأنَّهُ ليس مدار البحث بل لوحاته أو أحجياته المهمومة بالمأزق الإنساني؛ ثلاث منها على وجه الدقَّة.
(2) المشكلة… “خيانة الصُّوَر؛ هذا ليس غليونا”
في (1928-1929) رسم رينيه ماغريت لوحته “خيانة الصّور” بأسلوبٍ كلاسيكي، جعلها تبدو أقرب ما تكون إلى الصورة الفوتوغرافيَّة، وهي عبارة عن رقعة يتوسّطها غليون، وكتب تحتها بالفرنسيَّة: “هذا ليس غليونا”.
كيف نستطيع أن “نقرأ” (الصّورة /اللوحة) في ظلِّ العبارة “التحريضيَّة” التي أحرجنا بها ممثِّل السورياليّة البلجيكيّة؟
القراءة الأولى تقترح أنَّ الأشياء ليست كما تبدو عليه، وهي القراءة التي يدلُّنا عليها “ماغريت” نفسه وهو يقول متهكِّما: “الغليون الشهير. لم يتوقفوا عن انتقادي، ومع ذلك، هل تستطيعون حشوها بالتبغ؟ إنّها صورة. لذا، إذا كتبتُ تحتَ لوحتي: (هذه ليست غليونا) هل كذبت؟”.
فالمتأمِّل في اللوحة يدركُ ببساطة، أنَّ ماغريت لم يكذب، وأنَّ الصّورة – أي صورة- كيانٌ “مُختلَق” لا ينتمي إلى جنس الكيان الأصل.
وفي محاولة لتفسير هذه الظاهرة – الخلط بين الصورة والأصل- يرى الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل (1872-1970)/ (ما وراء المعنى والحقيقة) أنّنا–جميعا- نبدأُ من “الواقعيَّة السَّاذجة”؛ أي من عقيدة أنَّ الأشياء هي ما تبدو عليه.
وفي قراءةٍ ثانية نخلُصُ إلى أنّنا لا نستطيع رؤية الظّاهر بشكلٍ حقيقي وكامل، ولكن: ” أن يكون الفنّ ظاهرا، إذاً، فإنَّ له ظاهراً خاصّاً به، وليس ظاهراً بحتا”؛ بتعبير الفيلسوف الألماني “هيغل” (1770-183).
الصّورة خادعة، ولها زوايا متعدِّدة، ونظرتنا البشريّة محدودة ومن السّهل التأثير عليها والتلاعب بها، ولا نبذلُ – في المقابل- أيّة جهود لرؤية الأشياء على شكلها الحقيقي، أو رؤيتها كاملة أو من زوايا أخرى؛ “لأنّهُ من السهل أن تنظر إلى العالم من نافذةٍ واحدة” بحسب رينيه ماغريت، وهذه المحصِّلة وتداعياتها هي مشكلة البشريّة والسبب الرئيس في الجحيم الذي عِشناه. الجحيم الذي نعيشهُ الآن.
وقبل أن يعترض أحدكم على اختزال مشكلتنا بـ”خيانة الصّور”، فلنتذكَّر أنَّ الصورة الفنيّة أو ظاهرها، وهي القابلة للقياس الكمّي- بشكلٍ أو بآخر- تخونُ غالباً أو أحيانا، فما بالكم بالأفكار والمبادئ والعقائد والإيديولوجيّات والرغبات والعادات والتقاليد …الخ، وهي النسبيّة غير القابلة للقياس؟
(3) السّبب … ” ابن الإنسان”
لوحة” ابن الإنسان” (1964) عبارة عن “بورتريه” لرجلٍ بمعطفٍ أسود وقبَّعة مستديرة، وقميص أبيض، يقفُ تحتَ سماءٍ غائمة وأمام سورٍ منخفض لا يحجب البحر، لكن انتظروا؛ لن يتركنا صاحب اللغزويّة الفنيّة “رينيه غاريت”، نستمتعُ بالمشهد دون أن يدسَّ لنا “عقبة” صغيرة بحجم تفَّاحةٍ خضراء طازجة تغطّي أكبر مساحة ممكنة من وجهه.
اللوحة بعنوانها اللافت وتفّاحتها “المستفزّة” أثارت الكثير من القراءات، منها؛ اعتقاد بعضهم أنَّ عنوانها قد يكون مستمدّاً من الإنجيل، أي أنَّ ابن الإنسان هو آدم عليه السَّلام، ما يقود إلى معنى يشير إلى استمرار خطيئته بأكل الفاكهة المحرّمة التي حذّرهُ منها، بدليل الملابس العصريّة التي يرتديها، وهناك أيضاً ما لمَّحَ إليه ماغريت عندما قال: ” كلّ شيءٍ نراهُ يخفي خلفه شيئاً آخر، والإنسان يتوق على الدوام إلى رؤية ما يختفي وراء ما يراه”.
إلا أنَّني أميلُ إلى القراءة التي تقول، إنّ فكرة الإنسان عن العالم مقتصرة، فحسب، على ما يشاهده أمامه، وأنّ ما يراه في الواقع ليس أكثر من انعكاسٍ لنفسه وأفكاره ومعتقداته وخيالاته الخاصّة، حيث تطرح اللوحة السؤال الورطة: هل نرى العالم على حقيقته، أم أنّنا نبتكر صورةً مزيّفة للواقع تشبهُ عقلنا الباطن؟ أو – بمعنى آخر- هل نرى العالم على حقيقته أم كما نحبُّ أن نراه؛ بما يتوافق مع مصالحنا ومعتقداتنا وأحلامنا وعاداتنا ورغباتنا وطموحاتنا… الخ؟
ماذا يعني كل هذا؟ وكيف نستطيع تبرير إطلاق وصف “السَّبب” على لوحةٍ رسمها فنّان قال منذ البداية إنّ الرّسم لا ينشغل بالرّسم فقط؟
الأمر بهذه البساطة؛ أنا وأنت نختلفُ في وجهات النَّظر؛ لأنّنا لا نرى الأمور بنفس الطّريقة. كلُّ صاحبِ مُعتقَّد يختلف مع أصحاب المُعتقدات الأخرى؛ لأنّ العالم الذي يصبو إلى إخضاعه لمصلحته، يختلفُ عن العالم الذي يحاول الآخرون تطويعه، كذلك الدول وكلّ القوى العظمى.
باختصار:
أنْتَ تهدرُ دمي، يا شريكي، لأنّكَ تحسَبُ الوردةَ في يدي، بندقيَّة.
وأحسَبُ دمك، ماء.
(4) الحلّ … “إمبراطوريّة النُّور”
ما زال الجمال الفنيّ يقودنا في هذه المغامرة، منذُ القبض على مشكلة البشريَّة في (خيانة الصُّور: هذا ليس غليونا)، وتشريحها في ( ابن الإنسان)، إلى هذه النهاية المقترحة لعالمٍ عنوانه (إمبراطوريّة النُّور).
في واحدة من أجمل لوحات رينيه ماغريت وأكثرها شاعريَّة “إمبراطوريّة الضُّوء” أو “إمبراطوريّة النور”/(1950)، يقول الجمال الفنيّ كلمته؛ إذ يقدِّمُ للبشريَّة أنموذجاً للتعايش بين المتناقضات أو “الرُّؤى المختلفة”، فاللوحة في نصفها السفلي عبارة عن مشهدٍ ليليّ لبيوتٍ أنيقة وادعة تغفو في شارعٍ هادئ، فيما الضُّوء يلقي بتدرّجاته وظلاله على المكان، أمّا نصف اللوحة العلويّ فهو مشهد نهاريّ لسماءٍ مُثقَلة بالسُّحُب.
عالم “ماغريت” المُتخيَّل، أو مدينته الفاضلة يقترح/تقترح علينا إمكانيَّة جمع الأضداد تحت سقفٍ واحد أو سماءٍ واحدة؛ الليل والنّهار. العتمة والنُّور. السَّكينة والغضَب، ولا ينسى في لوحته إن يبرِزَ “تدرّجات الضُّوء”؛ في إشارةٍ منهُ إلى الاتِّجاهات الوسطيّة، وهو ينقل لنا هذه المفارقة كي نتمكَّن من لمس سقف أحلامنا العالي، حيث أنّ الإنسان غير قادر على إدراك أو قبول ما يجهله.
هل نستطيع جمع التناقضات (الأفكار، والمعتقدات، والعادات، والرّغبات، و…الخ) في عالمٍ واحد؟
نعم، أنا وأنت، الرّجل والمرأة، الأخذ والعطاء، الشيخوخة والطّفولة، الخير والشرّ، القوّة والضّعف،الفرح والحزن، الضّحك والبُكاء، الحياة والموت.
نحنُ ، يا شريكي، نحمل ضدّنا داخلنا، حيث يتَّخِذ كلّ ضدّ معناهُ مِن ضدّه؛ فلماذا نضيقُ بِنا في كونٍ فسيح ومتعدِّد يتَّسِعُ للجميع؟
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.