عندما نستعرض مشاريع إصلاح الفكر الديني الإسلامي في المناطق الناطقة العربية، سواء أكانت مشاريع فردية أم جماعية، منتظمة أو مبعثرة، فإنّ التوجه السائد العام لها، يميل نحو طريقٍ واحد؛ نقد الفكر الديني، أي نقد المنتج الإنساني المعرفي للدين، وفي قليل من الأحيان كانت تأخذ شكل السجال بين أفكار وأفكار أخرى، سواء أكانت منتجات السابقين مع السابقين، أو منتجات المعاصرين للسابقين، أي أنَّ السجال تركز في مجملهِ على المنتوج الإنساني في فهم الدين، أو لما فهمه الإنسان من الرسالة الدينية، وهذا كله يندرج تحت محاولات تنوير الفكر الديني، وهو جهد مهم وضروري، إلا أن الأهم المغفل عنه، هو تنوير التفكير الديني عبر تجديد منهجية العقل في الفهم الديني.
الجهود المبذولة في عملية الإصلاح الديني، ذهبت في مجملها إلى عملية تزيين للنتائج التي يُعتقَد بأنها الأنسب لكل مرحلة من مراحل الإصلاح، ومحاولة لمحو النتائج الأخرى التي لا تتماشى وعصرنا، أو ثقافتنا. وكأننا في ذلك، نقوم بدور صاحب معمل القماش، الذي يمتلك آلة تصنع له يومياً أمتار من القماش، إلا أن كل متر منها؛ يحوي مجموعة من الثقوب، مما يُجبِر صاحب المعمل على استقدام عشرات العاملين لترقيع الثقوب وخياطتها من وراء تلك الآلة، مع العلم أنه كان بمقدور صاحب المعمل توفير المال والوقت والجهد؛ فقط بإصلاح تلك الآلة.
من مثال الآلة والمنتج، نصل إلى نتيجة هامة تساعدنا في استدراك أنفسنا والانتقال من مرحلة تنوير الجهد السابق، إلى تنوير الجهد المعاصر للحاضر والمستقبل معاً، في عملية الفهم الديني للإسلام، حيث سيكون من الصعب علينا التقدم ونحن ننظر إلى الخلف والأسفل فقط، نحن نحتاج إلى الضوء ولو قليلاً أمامنا، لنخطو بشكل منتظم وأسرع في عالمنا ومحيطنا، ولكن السؤال العملي في ذلك، هو كيف يكون ذلك؟
يبدأ ذلك من منهجية التفكير الديني، والانطلاق من المنهجية الفردية في الإنتاج، لا من المعرفة الإنسانية الموروثة للدين، المنهجية التي تحتاج إلى تجديد في طريقة العمل، تجديد المنهجية كأداة للتفكير وليست وسيلة له، والسؤال الآن؛ هو كيف تُجدد المنهجية في التفكير الديني الإسلامي؟
سأسعى للإجابة على ذلك من خلال ثلاثة منطلقات؛ ستعمل على تنوير ثنائي للفكر المستقبلي للدين، والتفكير الديني الآني في الإسلام:
أولاً: القراءة كقيمة كونية:
عادة ما يبدأ المؤمن عمله بالبسملة؛ بسم الله يأكل، بسم الله يسافر، {…} الخ، أي أنّ اسم الله يسبق الفعل، وإذا نظرنا إلى مفتاح الرسالة الإسلامية من خلال النص القرآني، فإننا لا نجدها تبدأ (باسم ربك إقراً)، وإنما تبدأ بــ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) في التدليل، وبعيداً عن التفسير، نجد أن هناك تقديم للفعل على الاسم، تقديم لفعل القراءة على اسم الله، وهذا مؤشر معرفي هام؛ بأنه من غير الممكن أن تبدأ المعرفة الكونية لله ورسالته دون البدء بالقراءة، ولابد في هذا المدلول، انّ نميّز بين أفعال الاستجابة المختلفة للنص، والتمييز بينها وبين القراءة، حيث أننا وبينما نجد اتفاق عام على استحالة ترادف الكلمات في النص؛ نصل إلى اختلاف الوظيفة لكلمات؛ القراءة، التلاوة، الترتيل.
بناء على ما سبق، نستنتج بأن القراءة هي الأداة الرئيسية للفهم، وهي التي تثبت الإعجاز الكوني لله، والقراءة هنا هي بناء معرفي مشترك بين المخاطِب والمخاطَب؛ تعطي النص القرآني كونية الحاضر المستمر، والفهم المتغير للنص، انطلاقاً من الترتيب الزمني الكوني الرابع في سورة الرحمن (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)، هذا البيان، لا يمكن أن يأتي بالمشاركة، أو بتجاهل الإله، أو النيابة عنه في عقل البيان، ويأتي فقط بالقراءة الفردانية، التي سأبدأ الحديث عنها بسؤال للعصف الذهني، وهو؛ ماهي نسبة المخاطبة الفردية بين الله والإنسان في النص؟ وماهي النسبة الجماعية؟
ثانياً: الفردانية كأداة كونية:
عند مراجعة تاريخ الفكر الديني الإسلامي، ورصد التقدم والتراجع في عملية التنوير، نجد أن التراجع كان كبيراً في زمن التقليد، بينما لم يتراجع زمن التجديد، الزمن الذي نشط به الاجتهاد الفردي عبر تجدّد القراءة المعاصرة للفكر الإسلامي، صحيح أن القراءة الفردية للنص – بما هي بناء كوني مشترك – قد تأتي بنتائج مختلفة أو غير متجانسة، إلا أنّ العقل الديني القارئ الناقد المتجدد؛ لا خوف عليه من الضلالة والانقياد – كما هو عليه خلال الفترة القصيرة الماضية والحالية – علينا أنّ نتأكد دائماً، بأن العقل المسلم، هو في مرحلة انتفاء الوساطة، وعلينا أن نتدارك الخطأ الكبير الذي يمارسه هذا العقل بتجاهله للإله، وأن ننطلق من منهجية التفكير العقلانية في فهم النص، (أَفَلَا يَعْقِلُونَ) ولتدّليل على الفردانية العقلية كمنهجية، هو وسيلة الإقناع المختلفة لكل رسالة دينية من عند الله، حيث يقول القرآن:
(وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ۚ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)، كان ومازال العقل القبلي – بالمعنى الخلدوني للكلمة – يحتاج إلى المعجزة الحسية للخضوع والإنصات، لأن هذا العقل القبلي مكبَّل بالتقاليد والأعراف المجتمعية التي تعيق حركته وحريته، والتي تحرمه من التفكير بحرية. مع رسالة النبي محمّد، وكأن الله يقول لنا بأنكم وصلتم لمرحلة أصبحتم فيها تعقلون، وهذا التعقل؛ أوصلنا إلى المكانة العليا في تعلّم البيان.
بعد وفاة النبي محمد؛ لا وصاية على العقل لأحد، هذا هو أهم مبدأ للتنوير الإسلامي
إذا كان شعار الأنوار أو التنوير لدى كانط هو أن تمتلك الشجاعة في استخدام عقلك، فإني أجد شعار التنوير الإسلامي، هو أن تمتلك الشجاعة في التدين وحدك. وأن تسترد نورك الخاص لتنير حقائق الوجود. فالتنوير الإسلامي، هو عملية الانتقال الشجاع من وصاية إشراف العقل الآخر، إلى نور الذات الكونية لمنفعة الإنسان في إنتاج المعرفة والثقافة الإيجابية.
ثالثا: المزامنة المتغيرة:
هل يمكن للعقل الديني الذي فكر في زمن ما، هو الذي يمتلك المشروعية للتفكير بدلاً عني في الزمن الحالي؟
يحتوي المصحف الكريم على آيات قرآنية كونية ثابتة لا تتغير، إلا أنها تحتاج منّا قراءة فردانية متجددة لها، ويحوي المصحف كذلك خطاب الله للنبي محمَّد، حول قضايا تطلبت الضرورة الفصل الإلهي فيها، هذه القضايا التي كانت قبل 14 قرن مضى، تعكس الحياة القديمة التي زامنت نزول رسالة الإسلام الإنسانية وقتها، وتثبت نجاح النبي محمّد في الوجود الكوني للمسلم المؤمن، وخطابات إلهية إخبارية للنبي حول الرسائل السابقة وما أحاط بكل منها من متاعب وصراعات للأنبياء وأقوامهم.
على العقل المسلم، أن يعيد قراءته الدائمة للنص الديني، ويربط تلك القراءة بنتائج الوجود، لأن القراءة المتغيرة – وهنا أقصد بالمزامنة – أمر ضروري للبقاء والوجود، حيث أن التطور والتقدم، هو نعمة ربانية، واختلاف نتائج القراءات السابقة للنص؛ هي دليل على أن النتائج ستبقى تتغير.
لا يمكن لأي عقل ديني أنّ يتواءم مع الحاضر، دون موازنة بين الماضي والحاضر، مع ضرورة تغليب جزء الاستيعاب والتحليل على جزء الذاكرة والحفظ؛ لأن الجزء الأخير متخلف عن الآخر، ومنشغل أكثر مما يجب، وبالتالي لا يحقق التوازن، ويجهد وظائف دون أخرى. بالتالي، يكون نور العقل الديني؛ في الحاضر والمستقبل، وصرف المزيد من الجهد والوقت في أشغال الماضي، سيعمل بالضرورة على ظلمة الحاضر، وربما المستقبل.
ختاماً:
ميزة الإنسان هي أنه يفكر ويتفكَّر، كونياً نجد النص القرآني يقول بالتفكير “وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”، وفلسفياً؛ أنا أفكر أنا إذاً موجود، هكذا قال ديكارت، إذاً؛ من لم يستخدم فكره بطريقة حيوية خلّاقة، لا يمكن أن يمارس وجوده.
إذا بقي العقل الديني متمسكاً بالترديد، فإننا سنبقى أصحاب توكيلات فكرية، فالعقل الديني لن يكون منتجاً، مادامت آلته الإنتاجية أسيرة لأمجاد الماضي، باكيةً على أطلاله.
نحن الآن، نشهد عصراً، تتصارع به القوى المختلفة، والدين هو أحد أدوات هذا الصراع. إذا ما سارعنا في تحديد هويتنا، فلن يكون لدينا حضور في المستقبل، وسيأتي يوماً، يتحدث عنّا العالم، كما نتحدث عن الهنود الحمر الآن.
التنوير بمعنى حرية العقل في التفكير، هو ليس امتيازاً لأوروبا، أو الغرب عموماً، بل هو مشاعُ إنسانيُ كوني موجود دائماً، واستخدام الأدوات الكونية السابقة، ستساعد العقل الديني المسلم على الانتقال من التدين الزائف، إلى التدين الحيوي، وستعمل عملية التدين الفردية؛ على التحرر من العقل الجمعي المظلم، والتفرد بتديّن يقبل ويحترم التفكير الحر الآخر، في عملية عودة لكونية الاختلاف عوض الخلاف، وحدها المنطلقات السابقة؛ القراءة والفردانية، يمكنها تخليص الدين الإسلامي من الاستغلال السياسي له.