دائما ما كانت قضيَّة التعليم محلّ اهتمام من المجتمع بمختلف طبقاته ومستوياته، تتفاوت أسباب الاهتمام به حسب طبيعة المكان والزمان بين السعي للمكانة الاجتماعيَّة، أو الرغبة في الحصول على عمل، أو لاتّخاذه سبيلًا للتفوّق العلمي أو العسكري أو طلبًا للمعرفة.. إلخ. ولفترة كبيرة ارتبط تعليم المواد العلميّة المختلفة بالسلطة أو الحكومة باعتبارها المصدر الأساسي لهذه الخدمة، لكن مع زيادة المعارف وتشعّبها، وتطوّر التكنولوجيا وازدياد سهولة الوصول للمعلومة، وزيادة الوعي والثقافة، ومقابلة ذلك بجمود أو بطء في التعليم الحكومي وعدم مواكبته للعصر وتأثّره برؤى وتوجّهات الحكومة وغيرها من العيوب والقيود التي ألمَّت به، بدأ الظهور لقوى فاعلة أخرى في مجال التعليم تحاول إيجاد مساحة للتأثير والتعويض والتغيير. منها ما ظهر بشكل خاصّ استثماري متمثّلاً بالمدارس الخاصَّة التي تعد بجودة تعليمية أعلى، إضافة لكثافة عدديَّة أقل والاهتمام بالأنشطة والخدمات أكثر.
ومنها ما ظهر بدافع تنموي وتغييري في شكل المجتمع المدني بأنواعه ومؤسّساته المختلفة، قائمًا بأدوار عديدة ومختلفة، تتباين من حيث اهتمامها وتركيزها ما بين العمل على تأهيل المدرّسين، وتوفير فرص للمحرومين من التعليم سواء ببناء المدارس بالمناطق الفقيرة أو توفير الدعم المالي للمحتاجين للالتحاق بالمدارس القريبة، وتتّجه بعض نشاطات المجتمع المدني خارج إطار التعليم الرسمي لتعويض النقص به وتكميله عن الطريق السعي لإكساب المتعلّمين بعض مهارات العصر كالبرمجة أو المهارات الشخصيَّة والإداريَّة، أو للمساعدة في التأهيل لسوق العمل بتوفير الدورات التدريبيَّة الفنيَّة والأكاديميَّة والعمليّة لسدّ الفجوة ما بين التعليم الرسمي وسوق العمل.
بينما يتّجه جزء آخر لا لدعم التعليم الرسمي ولا لتكميله، لكن لمحاولة إحلال محلّه وتوفير بدائل له -سواء كان السبب ناتج عن عيوبه وسوء جودته، أو عدم إمكانيَّة توفيره كما في حالة اللاجئين على سبيل المثال- فتظهر أشكال وأساليب مختلفة للتعليم مثل تلك التي تقوم على التعليم الإلكتروني الذي يقوم على الدورات والكورسات التعليميَّة الكاملة على الإنترنت أو “التعليم المدمج” الذي يحاول الدمج ما بين استخدام التكنولوجيا، والتعليم الإلكتروني، وبين التعليم غير الإلكتروني بأنشطته واستراتيجيّاته المختلفة، والذي يضمن للمجتمع المدني توفير تعليم ذي جودة عالية دون موارد كثيرة، وسهولة تقديمه وتوصيله للمناطق المختلفة. وأيضًا هناك من يدعم ويروّج للتعليم المنزلي خارج إطار المدرسة تمامًا، وهناك أيضا “التعليم الموجَّه ذاتيًّا” الذي يقود فيه المتعلّم رحلته التعليميَّة.
كل هذه الأشكال من التعليم غير النظامي الذي يقدّمه المجتمع المدني تضمن تنوّع الأساليب والطرق التعليميَّة، التي بدورها تضمن الحرية في اختيار المنهج والأسلوب المناسب لشخصيَّة المتعلّم وبيئته وظروفه، الحرّيّة من سيطرة رؤية واحدة وتوجّه واحد على المحتوى والعمليّة التعليميَّة، وحتى الحرّيّة في تحديد مدى حرّيّة المتعلِّم في توجيه مسار تعلّمه، كما أنه يضمن مناسبته لظروف بيئة عمل المجتمع المدني من حيث مراعاته لقلّة الموارد وسوء الجودة وغياب الإمكانيّات.
وعلى وضع المجتمع المدني الحالي فهو يمتلك من الأدوات والإمكانيّات التي تؤهّله للإسهام في تشكيل البيئة التعليميَّة بطرفيها الرسمي وغير الرسمي، فمنه المؤسّسات التي تقوم بتدريب المدرّسين وتطويرهم، والتي تعمل على مستوى مدارس بشكل شبه كامل من خلال الإطار التي تتيحه بعض الحكومات للمؤسّسات بإنشاء وتشغيل مدارس لتغطية المناطق المحرومة، وكذلك المؤسّسات التي تساعد الحكومات على وضع السياسات العامّة والخطط الإستراتيجيَّة لتطوير التعليم وإجراء اﻷبحاث.
ومنه الجهات التي تمكّنت من تخطي الميزة الرئيسيّة للتعليم الرسمي كونه المعتمد للتمكّن من العمل، عن طريق الاعتماد على الشهادات الدوليَّة، أو إمكانيَّة الحصول على الشهادات بإتمام الدورات الإلكترونيَّة، أو حتى الاستغناء عن مفهوم الاعتماد باستغلال الإنترنت الذي يتيح العمل لمن يمتلكون المهارات والقدرات.
ولا شكّ في أن التعليم الرسمي في الوقت الحالي يشهد انحدارًا وتخلّفًا كبيرًا، وأن التعليم غير النظامي يشهد اهتمامًا واسعًا وانتشارًا متناميًا، حتى إن صار له موجاته، فنرى فترة يغلب عليها الاهتمام بالتعليم بالأنشطة والمشروعات، ثم التعليم بإدخال عناصر اللعبة بما يسمَّى بـ”الجاميفيكيشن”، ثم التعليم باستخدام الدراما.. وهكذا.
لكن يحدّ من تأثير المجتمع المدني عدم التعاون بين أطرافه المختلفة، وغياب الاهتمام بالعمل على تكوين فلسفة للتعليم، وتحديد ما هي مخرجاته المرجوَّة في سياق طبيعة العصر الحالي وما يزخر به من أحداث وتطوّرات.