تربية وتعليمسلايدر

المجتمع المدني بالمنطقة العربيَّة ودوره التربوي والتعليمي

إنَّ المجتمع المدني في دلالاته يقبل حمولات متعدّدة اعتبارًا لأداوره المتشعّبة، إلا أنّ معظم التنظيرات تاريخيًّا تتمسّك بقدرته على إحياء الحياة العامّة، خصوصًا أمام الشعور بالقلق والريبة العميقة في الدولة. وبعيدًا عن التنظيرات الفلسفيَّة المختلفة التي يصرُّ بعضها على وضع المجتمع المدني ضدّ الدولة ويحدُّ من غلواء تدخّل سلطتها، وبين من يعتبره مجتمعًا وسيطًا يفتح للناس العاديّين المجال للعمل من أجل جماعتهم لتحقيق مصالحهم المشتركة، وصولًا عند مشيل فوكو منظّر ميروفيزياء السلطة الذي يؤكِّد على أن المجتمع المدني معنيّ بممارسة قيادة مضادَّة وابتداع ذات جديدة لكونه أصبح نفسه أداة تمارس الدولة الرسميَّة سلطتها من خلاله.

وراء هذه المواقف يحضر المجتمع المدني كواقع بمهام واعدة بديلة، أصبح حضوره ونسبة مشاركته في رسم معالم البلدان قياسًا لمدى ديمقراطيّتها وتقدّمها وحرّيّتها. وإذا كانت التربية والتعليم هما العمود الفقري لأيّ بلد فمن الطبيعي أن نتساءل اليوم عن الدور التربوي والتعليمي لمؤسّسات المجتمع المدني بالمنطقة العربيَّة. بحيث يقتضي الأمر أولًا النظر في واقع المجتمع المدني بالمنطقة؟ ومدى حضوره وفعاليته؟ ثم اهتمامه بالشأن التربوي والتعليمي؟ وأي تربية وأي تعليم تريده مؤسّسات المجتمع المدني في ظلّ هيمنة وإشراف الدولة على قطاع التربية والتعليم تاريخيًّا؟ وما ميزة التربية والتعليم الذي يقدّمه المجتمع المدني بالمنطقة العربيّة عن تعليم الدولة الرسمي؟

إنّ العمليّة التربويَّة التعليميَّة نظرًا لأهمّيّتها، وحساسيّاتها، في تكوين أفراد المجتمع وصناعة أجيال المستقبل وفق أطر ومرجعيّات محدّدة، كانت دومًا عمليَّة رسميَّة تحت رعاية وإشراف الدولة. وهذا شأنها بالمنطقة العربيَّة، بحيث يتمّ تقديم تربية وتعليم رسميّين وفق توجّهات ومرجعيّات السلطة القائمة، عن طريق وزارتها أو أجهزتها المؤسّساتيّة الوصيَّة على القطاع. وبهذا يمكن القول إن نشاط المجتمع المدني بالمنطقة العربيَّة اتّخذ في البداية بعدًا حقوقيًّا، متتبّعًا الجوانب المظلمة الإنسانيّة التي لم تشملها ولا تمتدّ إليها يد الدولة أو مسّها حيف وظلم هذه الأخيرة. فكانت مؤسّسات المجتمع المدني بالمنطقة العربيَّة المصدر الوحيد للتربية الحقوقيَّة التي تشكّل وعيًا مضادًّا، أو بالأحرى مغايرًا لما تقدّمه الدولة لأفراد المجتمع. ومع تزايد الوعي لدى الفاعلين المدنيّين بالخلفيّة الاديولوجيّة وعدم حياد المضمون التربوي التعليمي الرسمي الذي تسهر عليه الدولة، وبعد الاعتراف الدولي بأهمّيّة المجتمع المدني ودوره في ترسيخ ديمقراطيّة حقيقيّة. سارعت الدول في المنطقة العربيّة إلى فتح المجال أمام مؤسّسات المجتمع المدني ودعمها وتوسيع مجالات اشتغالها وتقنين تحرّكاتها، بوضع ترسانة قانونيَّة واضحة تضبط علاقة المجمع المدني بالدولة والأفراد. ومع ذلك كانت مؤسّسة المجتمع المدني هي الفضاء الوحيد الذي يوفّر أكثر هامش من الحرّيّة، وشكّل ملاذ للفاعلين المدنيّين الذين لهم تطلعات تربويّة وتعليميّة تنويريّة مغايرة أو مخالفة لما هو رسمي. لكن العمليّة التربويّة التعليميّة بالمنطقة العربيّة ظلّت دائمًا الشيء الوحيد الذي لن تسمح الدولة بأن ينفلت من قبضتها وتخطيطها وتدبيرها وتقويمها، لأن كل القيم التي ينبني عليها أي مجتمع تكتسب وتزرع عبر مسيرة من التربية والتعليم.

رغم أن معظم الدول العربيَّة اليوم تدعم وتفتح الباب أمام مؤسّسات المجتمع المدني، إلا أن حضور هذا المجتمع في العملية التربويّة التعليميَّة يتَّخذ بعدًا تشاركيًّا يخضع لمراقبة الدولة، فمثلا في المملكة المغربيّة تشرف جمعيات المجتمع المدني تحت إشراف الدولة على قطاع التربية غير النظاميّة، الذي يهم محاربة الأمّيّة، وفتح الباب أمام الشباب الذين حرموا من التربية والتعليم لظروف قاهرة. ويحدث أن تسهر جمعيَّة مدنيَّة على مؤسّسة للتعليم الخاصّ التي تخضع بدورها لمراقبة الدولة وتخطيطها. كل هذا يصبّ في فكرة أن أغلب الدول العربيَّة سارعت إلى تقنين عمل مؤسّسات المجتمع المدني، ودفعت بها لتصبح طرفًا شريكًا في رسم الخريطة التربويَّة التعليميَّة ولكن بإشراف الدولة ومراقبتها. ولكن إذا حاولنا توسيع تصورنا وتعريفنا للتربية والتعليم بإدخال البعد السياسي والحقوقي والاقتصادي… يمكن أن نقول إنَّ مؤسَّسات المجتمع المدني بالمنطقة العربيَّة لم تتوقّف يومًا عن انتزاع مساحات حرَّة مختلفة للنشاط السياسي والحقوقي والاقتصادي … كيف ذلك؟

وفق التصوّر الأخير السياسي والحقوقي والاقتصادي للتربية والتعليم يمكن أن نجد مؤسّسات المجتمع المدني تقدّم تعليمًا وتربية سياسيَّة وحقوقيَّة واقتصاديَّة نوعيَّة مغايرة لما تقدّمه المؤسّسة الرسميَّة. بحيث تشكّل مؤسّسات المجتمع المدني من: أحزاب، ومنظّمات حقوقيَّة، وتعاونيّات اقتصاديَّة …الفضاء الوحيد الذي يتعلَّم ويتعرَّف الفرد من داخله على خطاب آخر مغاير أو مضادّ لما يقتات عليه في المدرسة وباقي المؤسّسات التربويَّة التعليميّة الرسميّة. على اعتبار أن “المجتمع المدني ميدان للفعل الحرّ الديمقراطي الذي يحدُّ من غلواء تدخّل سلطة الدولة”؛ كما يقول جون إهربرغ في كتابه “المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة”. الأمر الذي يعني أن المجتمع المدني يمكن أن يلعب دورًا رياديًّا في التربية والتعليم لكونه يحضر في التمثّل العامّ للأفراد بكونه مجالًا مستقلًّا، وحرًّا، وديمقراطيًّا، وتشاركيًّا يفتح الباب أمام كل الإرادات المجتمعيَّة الفاعلة. وهذا لن يتأتَّى إلا في ظلّ وجود مجتمع مدني يبتعد بنفسه على أن يصبح أداة من بين الأجهزة الأخرى التي تمارس الدولة الرسميّة سلطتها وتفرض إيديولوجيّاتها الوحيدة عبرها، وتمكين المجتمع المدني بالمنطقة العربيّة وإشراكه في العملية التربويّة التعليميّة مع الاحتفاظ له ببعده الحرّ، والمستقلّ حتى يساهم من جهته في تكوين مجتمع متنوِّر.

 


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة