ما يهدمه النقد وما يبنيه
تخاف السلطة، أيا كانت، من إزدهار التفكير النقدي؛ ذلك أن التفكير النقدي يفكّك المسلّمات والوثوقيات، وبلا مسلّمات، ووثوقيّات، لا وجود لسيطرة مستمرَّة ولا وجود لسلطة ثابتة. في المقابل لا يمكن للبلدان أن تزدهر دون وجود حركة إنتاج وصناعة وتقدُّم علميّ. ولا وجود لتقدُّمٍ علميّ حقيقي دون تفكير نقدي.
خاف المشرق العربي طويلا من النقد، لأن النقد يقود إلى غير المتوقَّع ويحتاج شجاعة عظيمة ومؤسسات عامّة راشدة تمتصه دون أن تنهار فترثها الفوضى.
غير أن المشرق العربي وصل إلى الفوضى دون أن يمر بالنقد. وفي فوضاه هذه يعيش اليوم لحظة صدام كبرى بين قوَّتين متناقضتين تشدَّانه بإتجاهين مختلفين: الموروث والتحديث.
من جهة يجذبه الموروث الثقافي والديني إلى ما ألِف من تعريف لنفسه والعالم والحياة والمصير، وتدافع عن هذا المألوف بُنى تقليدية مثل القبيلة والمؤسَّسة الدينيَّة والسلطات السياسية. و هو متجذر في حاجة الإنسان الأصيلة إلى البقاء والمحافظة على الموجود وفي قوة الإعتياد.
ومن جهة ثانية تشد هذا المشرق قوة الدفع إلى التحديث وتغذيها طبيعة أصيلة أخرى لدى الإنسان هي شغفه بالاكتشاف والتجريب والحركة. وتعطي اللحظة الراهنة في المشرق العربي، زخمًا استثنائيًّا لقوَّة الدفع هذه، حيث لم تعد البنى التقليديَّة، التي تأتي قيمتها من ضمان الإستقرار، قادرة على المحافظة على دورها بسبب عواصف الحروب وموجة انهيار الدول وسقوط الحكومات، التي تلفّ المنطقة، ما يدفع هذه البنى التقليدية إلى التصلُّب والتخنّدق دفاعًا عن نفسها لتصبح جزءا من الأزمة.
كما تعزِّز الحريات الناتجة عن فوضى سقوط أنظمة استبدادية عاتية، مع الإنفتاح على العالم الحديث ومنجزاته عبر انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، قوَّة الدفع نحو التحديث بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ المنطقة، على الأقل المنظور منه.
ولذلك فإن الصدام على أشدَّه اليوم، يتجلى واضحًا في الانقسامات العموديَّة والأفقيَّة، والاستقطابات السياسية والثقافيّة والمذهبية الحادة التي تعاني منها المنطقة حتى صار المشرق العربي، المعروف لآلاف السنين بتنوّعه العرقيّ والدينيّ والمذهبيّ الفريد، طاردًا لأهله، مفزوعًا من الاختلاف.
غير أن بناء الحضارة فعل موازنة بين هذين الاحتياجين الأصيلين: الاحتياج إلى البقاء والاستقرار النسبيّ والمحافظة على الموجود، والاحتياج إلى الارتقاء والتجريب. كما أن بناء الحضارة هو فعل موازنة بين قيمتين أصيلتين مؤسّستين، الحرية والمسؤولية. واذ تنجب الحرية العلوم والاختراعات والاكتشافات، فإن المسؤوليَّة تضع الحدود والضوابط والقوانين فتحمي الحقوق وتحقق التراكم.
من هذا التوازن الصعب يأتي المأزق الحضاري للمشرق العربي، إذ تعمد السلطات التقليدية في تطويعها للناس وإرضاخهم لمقولاتها وهيمنته، الى التعكز على التخويف من عواقب المجازفة بالإستقرار وحلول الاضطراب نتيجة الانجرار وراء النقد وتفكيكه المستمر للبنى القائمة. بينما تحارب السلطات التقليدية النقد لأنه يتحدَّاها هي ويفككّ مقولاتها الجاهزة هي ويدفعها دفعًا للتغيير، ما يعرِّضها لمجازفة القبول بالتداول والتعدّدية وتبعاتهما.
بسبب النقد ومن أجله، تحمَّلت أوروبا، والغرب، إضطرابات عظيمة منذ عصر الأنوار حتى الحربين العالميتين منتصف القرن العشرين، قبل أن تستقرّ، نسبيًّا، على رماد الحرب الباردة، فيوفِّر ذلك الاستقرار مناخًا مناسبًا لإزدهار وإثمار المعارف والعلوم على جميع الأصعدة، بدءًا من الفضاء وليس انتهاءً بالعلوم الإنسانيَّة فائقة الأهمّيَّة لأيّ تقدُّم حضاري.
ورغم أن النقد تمكن من تقويض سلطة الكنيسة، وهدم سلطة الإقطاع، وسُلطة الملوك في أوروبا، لكنه وقف ضعيفا أمام سلطة الرأسمال.فرأس المال ما زال مراوغا وذكيا، يفسح ما يكفي من المساحة للنقد، ما يكفي فقط، لتشغيل المصانع وازدهار الجامعات ومراكز التفكير. لكنَّه يقف في وجه النقد بشراسة حين يحاول تفكيك سلطته. ومن هنا يعيش الغرب أيضًا مأزقه الخاص به. وبينما يعيش المشرق العربي مأزق ولادة نموذجه الحضاري، فإن الغرب يعيش مأزق النمو في نموذجه!
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.