يعتقد كثير من الناس أنَّ مفهوم “النقد” يتعارض – أو على الأقل لا ينسجم – مع مفهوم “الإيمان”، وبناءً على هذا الاعتقاد تحظر الثقافة العامَّة للمسلمين التساؤلات في مناطق بعينها باعتبارها “قدس أقداس العقيدة”، والمساس بها أو التشكيك فيها يمثِّلُ “هدمًا للدين” أو طعنًا في مصداقيَّته.
والحقُّ أنَّ هذا الاعتقاد ينطوي على فهم خاطئ لمفهوم “النقد”، بل وفهم خاطئ لمفهوم “الإيمان” كذلك. فهذا الاعتقاد يتعامل مع “الإيمان” بوصفه “التسليم المطلق لفكرة ما، دون الحاجة إلى فهمها أو تبريرها بطرق العقل”، وبهذا الشكل يتعامل هذا الفهم مع “الإيمان” بوصفه “دوغما” – أيّ الاعتقاد بفكرة غير قابلة للنقاش – ، وتحت مظلة هذه الدوغما يضع كل ما تعارفت ثقافة المسلمين عبر العصور على اعتباره أصلاً من أصول “العقيدة”، بدءًا بالحديث عن صفات الله وأسمائه، ومرورًا بالنبي وما ورد عنه، وانتهاءً بقداسة الصحابة في الحالة السُّنيَّة، أو الأئمَّة وآل البيت في الحالة الشيعيَّة. وبهذا الشكل يتوسَّع مفهوم “الإيمان” ليشمل التصديق المُلزِم لكل الأفكار السائدة في مجتمع المسلمين المعاصر دون مناقشة، وهو ما يمتدُّ على استقامة نفس الخطّ ليشمل بعد ذلك الشريعة والأحكام وأقوال المفسِّرين ومنقولات التراث وغير ذلك. وبهذه الطريقة يصبح الإيمان في مواجهة مباشرة مع “النقد”، “فالمؤمن” الجيِّد كما تطرحه الثقافة السائدة بهذا الشكل سيكون هو من “زاد تسليمه” و”قلَّت مناقشته”!
هذا الرأي نفسه، يتعامل مع “النقد” باعتباره مكافئًا “للتشكيك” أو الرفض الكلِّيّ المُسبَق للفكرة، أو محاولة هدمها، وهو كما أسلفت فهم خاطئ أشدّ الخطأ لماهيَّة النقد.
ماهيَّة الإيمان: “ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا “!
فالإيمان في الحقيقة ليس هو التسليم بفكرة جامدة وقبولها دون مناقشة بالطريقة التي يفرضها خطابنا الدينيّ اليوم، ولكن الإيمان في جوهره يحمل معنى الإخلاص الدائم للحقِّ، التوجُّه الدائم صوب الحقيقة المطلقة – التي هي الله وحده – فلا شيء مطلق سوى الله (مطلق المطلق)، وكُلّ ما دون الله فهو نسبيّ ومحدود.
“يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ” الانشقاق 6
فالإيمان بالله المطلق يعني في نفس الوقت التسليم بنسبيَّة ومحدوديَّة كل ما عداه، وتجريد كل ما هو دون الله وحده عن التقديس والإطلاق، وذلك هو المعنى الفعليّ الذي تتضمّنه شهادة التوحيد “لا إله إلا الله”. فالألوهيَّة، والتقديس، والإطلاق، لله وحده، وهي منفيَّة عن كل ما دونه، من أشخاص، أو أفعال، أو تاريخ، أو ثقافة، أو أيّ شيء؛ كل ما هو دون الله محدود ونسبيّ وخاضع للمساءلة.
“لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ” الأنبياء 23
والإيمان بالله بهذه الطريقة يحمينا من التسليم بمطلقيَّة أو قداسة أي شخص أو فكرة، مهما كانت عظمتها ومهما كان بريقها. فالإيمان بالله بهذا الشكل يحرِّرنا من كل أشكال العبوديَّة والانقياد الأعمى للأفكار أو الأشخاص، وهو كذلك بهذه الطريقة يحمي نُمُوّنا، ونضوجنا، النفسيّ، والروحيّ، من التوقُّف عند نقطة بعينها، أو عند مُسلَّمة بعينها، لأنَّهُ يحمينا من التعلُّق بكل ما هو دون الله المطلق وحده، وبالتالي يفتح الآفاق أمامنا لنتطلَّع إلى الله وإلى اقترابنا الدائم منه، كلما زدنا إخلاصًا للحقّ، واقترابًا من المطلق/الله، وكلَّما تجاوزنا النسبيَّات، والمحدودات، وآمنَّا وقبلنا بنسبيَّتها ومحدوديَّتها.
تصوّر لو أنك تصعد برجًا عاليًا يتكوَّن من مئات الأدوار، وأعلى هذا البرج تقبع جائزة ثمينة بانتظار من يصل إليها. ولأنك تعلم أنَّ بإمكانك الوصول إليها فأنت تتحرَّك على السلالم بحماسةٍ شديدة ونشاط. تخيَّل معي لو أنك وأثناء صعودك قابلت شخصًا عند الدور العشرين قادمًا من الأعلى، وأخبرك أنَّ السُّلَّم مغلق لدى الدور رقم 50، وأنَّهُ ليس بإمكانك تجاوز هذا الدور مهما حاولت! في هذه الحالة لن يكون لديك أيّ دافع حتى لصعود الثلاثين دورًا المتبقِّية لك لتتأكد بنفسك، فما دام الأفق مغلقا ولا أمل لك في التجاوز فلا داعي، إذن، لبذل الجهد، أليس كذلك؟ تصوَّر كذلك لو أنَّهُ أخبرك أنَّهُ هو الشخص الوحيد القادر على فتح هذا الباب المغلق، ولا أمل لك في العبور إلا عن طريقه؟ في هذه الحالة سيمتلك هذا الشخص تلقائيًّا سلطة كاملة عليك، حيث هو طريقك الوحيد إلى الجائزة، وستكون طاعته واجبة عليك دون مناقشة!
هذا بالضبط هو الفرق بين الإيمان، بالمعنى الذي نطرحه هنا، والإيمان كما يطرحه الخطاب الدينيّ التقليديّ باعتباره “دوغما”، أو فكرة جامدة، يجب قبولها كما هي، ولا يمكن تجاوزها، أو مناقشتها. فالمفهوم الجامد للإيمان يغلق أمامنا أفق الترقِّي، والنضج الروحيّ، ويُعرِّضنا لقبول الانقياد السلبيّ لسلطة المؤسَّسة الدينيَّة، أو رجل الدين الذي تفترض هذه الثقافة أنَّ بإمكانه أن يُخبِر عن الله، أو يخبرنا عن مراده، وأننا ليس بإمكاننا إقامة علاقة مباشرة مع الله، إلَّا عن طريقه!
بينما الإيمان بالله بالشكل الذي وضَّحناه آنفا يرفع السقف أمامنا للتطلُّع إلى علاقة مباشرة مع الله، يمكنها أن ترتقي وتتسامى بشكل مطرَّد، ويرفع الحواجز من الطريق، ويجعل كل ما بيننا وبين الله ليس إلَّا أدوات ووسائل تساعدنا على الوصول إليه، لكنها لا تحتكر الطريق إليه أبدًا، ولا تعمل كوسائط أو عوازل بيننا وبين الله، كما أنَّها ليست مقدَّسة في ذاتها، فنحن نتَّكِئ عليها لنعلو فوقها، نتجاوزها إلى ما بعدها.
وربَّما يقول قائل بأن كل هذه الرموز التي نقدِّسها من أشخاص وأفكار، هي ضروريَّة لأننا قد نَضِلّ من دونها، وليس هناك من يضمن لنا الوصول إلى الله بغيرها، وبالتالي يجب أن نقدِّسها كي نحميها! وربما يكون أمرًا صادمًا لهؤلاء أن نذكِّرهم بأنَّ هذا التبرير هو ذاته الذي دافَع به المشركون عن شركهم، فيقول عنهم القرآن:
“وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ” الزمر3
فلا شيء يبرِّر تقديس ما هو دون الله، مهما كانت الحجَّة، ومهما كان الدافع. وانظر إلى مطلع الآية نفسها وما تخبرنا عن نموذج الإيمان الذي يطلبه الله من عباده؛ فيقول القرآن الكريم في مطلع سورة الزمر:
“تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿١﴾إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّـهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴿٢﴾ أَلَا لِلَّـهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّـهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴿٣﴾” الزمر 1-3
فكما نرى، تضع هذه الآية الكريمة نموذَجَيْ الإيمان اللذين تحدَّثنا عنهما في مقارنة واضحة: النموذج الأوَّل الذي يقبل تقديس أشياء من دون الله، بحجَّة أنَّها الطريق المؤدِّي إلى الله، والثاني الذي يتحرَّر من تقديس أيّ شيء من دون الله، فيكون لله “الدين الخالص” كما تقول الآية الكريمة!
ماهيَّة النقد
إذن يصبح الإيمان بهذا المعنى عبارة عن تجاوز دائم للنسبيَّات، والمحدودات، والحفاظ على اتِّجاه دائم نحو المطلق: الحقيقة المطلقة، التي هي الله وحده لا شريك له من خلقه، وهذا التجاوز لا يتمُّ من دون عمليَّة المُساءلة لكلِّ الأفكار، والشخصيَّات، والاعتقادات، التي تقع كلها في مرتبة النسبيّ، لتجاوزها نحو حقيقة أعلى منها، ثمَّ ما هو أعلى منها، وهكذا، في اتِّجاه دائم وتراكميّ نحو حقيقة مطلقة لا يمكن امتلاكها بالكامل، لكن يجب الحفاظ على التوجُّه صوبها. وعدم القدرة على امتلاكها بالكامل في ظلِّ إمكانات البشر المحدودة هو ما يجعل الأفق مفتوحًا باستمرار، ورحلة الصعود مستمرَّة، وتَعِدُ بالمزيد كلَّما تحقَّق منها شوط، وهذا هو ما يجعل الإيمان عبارة عن عمليَّة نضج، وتطوّر، ونمُوّ وديناميَّة مستمرَّة.
وهنا يلتقي “الإيمان” مع “النقد”، فالإيمان بهذا الشكل يصبح عمليَّة “نقديَّة” مستمرَّة، تبتغي تجاوز الحقائق النسبيَّة المحدودة إلى حقائق أرقى، ليس من أجل هدمها إذن، ولكن من أجل الارتقاء بها إلى أفقٍ أعلى، وهكذا..
ولعلّ المتأمِّل في قصَّة إبراهيم – عليه السلام – في القرآن يلحظ دور طرح الأسئلة النقديَّة في تشكُّل إيمان إبراهيم، بدءًا بمساءلة ثقافة مجتمعه السائدة:
“وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” الأنعام 74
ومن ثم قادته الأسئلة النقديَّة إلى استكشاف الكون ومساءلته، باحثًا فيه عن “المطلق” الذي يروي ظمأ إيمانه:
“وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴿٧٥﴾ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَـٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴿٧٦﴾ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴿٧٧﴾ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴿٧٨﴾” الأنعام 75-78.
وهكذا أخذ إبراهيم تدريجيًّا في اكتشاف نسبيَّة، ومحدوديَّة، كلّ ما حوله، وبالتالي، فهم معنى “الإيمان بالمطلق”، وتجاوُز كل ما دونه:
“إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿٧٩﴾” الأنعام 79
وحتى عندما وصل إبراهيم إلى هذا المستوى من الإيمان، لم يتوقَّف عن طرح الأسئلة النقديَّة، ووصل بالأسئلة إلى حدِّها الأقصى:
“وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي” البقرة 260
فالنقد كما يتضح لنا من قصّة إبراهيم ليس إلَّا عمليَّة مستمرَّة من إثارة الأسئلة، والنظر في جوانب النقص ابتغاء تطويرها والبناء عليها، ابتغاء حقيقة أرقى، وليس ابتغاء عدميَّة كاملة، كما يظنّ التيَّار الثقافيّ التقليديّ.
الإيمان وهدم الأصنام
والإيمان بهذا الطرح النقديّ، لا يهدف فقط لتحرير النفس، والروح، من سقف يحدُّ من أفق تجاوزها إلى الله، ولكن الإيمان بهذا الشكل النقديّ كان هو المحرِّك الأساسيّ للتجديد الدينيّ عبر التاريخ؛ فكل الأديان تمرُّ بمرحلة أولى تعبِّرُ فيها عن روح إيمانيَّة نقديَّة خالصة، وبمرور الوقت تتحوَّل إلى بُنية سُلطويّة تؤسِّس للتقليد والمأسسة، في محاولة لتثبيت وتوظيف النتائج التي وصل إليها المؤمنون الأوائل، وبالتالي يتحوَّل الدين – الذي بدأ إيمانًا حُرًّا – إلى بُنية كهنوتيَّة جامدة تحتاج إلى التجديد، والإسلام ليس استثناءً من هذه القاعدة.
فكل “دين” في الحقيقة ظهر في بدايته “كثورة” نقديَّة وتصحيحيَّة لما قبله، ينتقد الأوضاع الاجتماعيَّة، والدينيَّة، والسياسيَّة، للواقع المحيط، ويخوض معها صراعًا، ثم إذا انتصر في معركته مع المجتمع، تحدُث مرحلة التحوُّل الاجتماعيّ، وتبدأ الجماهير في الانضمام إليه حتى يتحوَّل هو نفسه بعد حين ليصبح ثقافة سائدة، بعد أن بدأ ثائرًا على ثقافةٍ سائدة قبله!
وبمُضيّ الوقت – وبتراكم عوامل مقاومة التغيير – تعمل العديد من الآليَّات والتفاعلات الاجتماعيَّة على تهميش الجانب النقديّ من الإيمان، وتعزيز الجانب الدوغمائي فيه، في محاولة لإقامة بُنى اجتماعية ومؤسَّسات ثابتة ومستقرَّة، تسمح بخلق هياكل سلطة راسخة، وبالتالي تسعى الأجيال اللاحقة لتثبيت الإيمان في شكل قواعد صارمة غير قابلة للنقاش، وأيّ محاولة لمساءلتها تُعدُّ عندئذٍ “طعنًا في الدين” أو “هرطقة” أو “كفرًا”، ومن هنا، يبدأ النصف الثاني من دورة حياة الدين/التجديد الدينيّ، حيث يتحوَّل إلى بنية مؤسَّسيَّة تفترض لأفرادها سلطة معرفيَّة و/أو دينيَّة على أتباع الديانة، بحيث تنجح بذلك في “ترويض الإيمان” حتَّى لا يخرج خارج النطاق الذي تسمح به. محوِّلة بذلك الإيمان الذي بدأ كعمليَّة نقديَّة تسعى “للتجديد”، إلى “تقليد” جديد، وجمود جديد، يعطِّل حركة التسامي والنقد البنائيّ، فتحتاج هذه البُنية بذلك “إيمانا جديدا” يجدِّد أُسُسَها وهياكلها، لتُعَاد الدورة مرَّة أُخرى.
ولعل في حديث الرسول (ص) المشهور: “إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا” إشارة رائعة منه (ص) إلى هذه الدورة التاريخيَّة الطبيعيَّة للأديان بشكل عامّ، والتي ليس الإسلام استثناء منها كما أسلفنا (1).
أخلاق النقد
والنقد كأيّ نشاط إنسانيّ آخر، يحتاج إلى ضوابط أخلاقيَّة كي يؤدِّي دوره بفعاليَّة، ولا يخرج عن معناه البنائيّ الإيجابيّ الذي نتحدَّث عنه هنا، إلى معناه العدميّ السلبيّ الذي يخشاه الخطاب الدينيّ التقليديّ. ومن هذه الأخلاق اللازمة لممارسة النقد:
- الصبر على الأسئلة، وعدم تعجُّل الإجابات: فالأسئلة تدفع الإنسان إلى التجربة، وهذه التجربة تحتاج إلى بعض الوقت حتى تتعمَّق الخبرة المرجوَّة منها، وبالتالي تبدأ الإجابات في التشكُّل والوضوح. وبالعودة إلى قصة إبراهيم – عليه السلام – نجد ثناء القرآن عليه بقوله “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ”، فالحلم صفة ملازمة للنقد البنّاء، الذي يقود إلى الإنسان إلى الإيمان الصادق.
- قبول العجز البشري ومحدوديّته: فالتفكير النقديّ يقوم أساسًاعلى افتراض محدوديَّة كل ما ينتجه البشر، حتى ما ينتجه التفكير النقديّ نفسه، فلا توجد فكرة كاملة، ولا توجد فكرة صحيحة مائة بالمائة بحيث نتجاوز في النقاش حولها حدّ الحوار الهادئ. يقول القرآن الكريم في وصفه للمؤمنين: “وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا” الفرقان: 63. فالتواضع كذلك صفة ملازمة للنقد، وبغير التواضع يتحوَّل النقد إلى عكس معناه تمامًا.
- القدرة على نقد الذات: وهذه الصفة هي الاختبار الحقيقيّ للتفكير النقديّ، فالرغبة الصادقة والمخلصة في الوصول للحقيقة تقتضي أن يخضع الإنسان نفسه لمِجهر النقد والمساءلة، مثلما يخضع غيره، وأن تكون لديه القدرة على التقويم الذاتي، وإلا فَقَدَ التفكير النقدي غرضه الأساسي كوسيلة للنضح والبناء الذاتيّ المستمرّ. ويمكننا أن نلمس هذا المعنى في مفهوم “التوبة” في القرآن الكريم: “إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّـهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَـٰئِكَ يَتُوبُ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا” النساء: 17. فالتقويم الذاتيّ أيضًا ضرورة من ضرورات التفكير النقديّ الإيجابيّ.
- التوازن: فليس النقد سعيًا حثيثًا لتتبّع عورات الأفكار والطعن فيها، بل على العكس، هو محاولة هادئة، وصبورة، لتكوين رؤية أوسع، تتطلَّب من صاحبها عدم تعجُّل الرفض، واحتمال مساحة المجهول، والصبر عليها. يقول القرآن الكريم: “هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” آل عمران: 7.
وفي هذه الآية تحديدًا تتجلَّى كُلّ الصفات النموذجيَّة للإيمان النقديّ بالشكل الذي نحاول تعريفه هنا. فهو إيمان يقبل بمحدوديَّة العقل البشريّ ولا ينكرها، متواضع أمام مساحات الجهل وعدم الفهم، لا يسارع بالرفض بحجَّة عدم الفهم، وفي نفس الوقت لا يدين الأسئلة، ويسعى بهدوء الى بناء رؤية أوسع تتكوَّن بشكل تدريجيّ مع استمرار التجربة (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ)، فالحقيقة الكاملة في النهاية لا يعلمها إلا الله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ).
التعليم القائم على السؤال
وفي النهاية تجدر الإشارة إلى أنَّهُ قد تطوَّر في العقود الأخيرة العديد من المنهجيَّات التعليميَّة والتربويَّة الحديثة التي تقوم على تنمية الحسّ النقديّ لدى المتعلِّمين، وأحدها هو ما يسمى التعليم القائم على السؤال (Inquiry Based Learning)، وهي منهجيَّة تعليميَّة تعتمد على بناء الخبرة التعليميَّة انطلاقًا من الأسئلة النشطة للطالب، بدلًا من طرح المعلومات بشكل جامد ومعدّ مسبقًا. فهذه المنهجيَّة تركِّز أساسًا على توظيف الشغف المعرفيّ الفِطريّ للطالب، وبالتالي تساعده على بناء خبرته الذاتيَّة مع المعرفة، وهو ما يكسبه نضجًا ذاتيًّا أفضل، وقدرة أكبر على التعامل مع المعرفة بشكل فعَّال.
__________________________________
1: ومن الجدير بالذكر أيضًا أنه قد تحدَّث عن نماذج شبيهة بهذا النموذج الدائريّ عديد من المفكِّرين الكبار من أمثال د. فراس السواح، والمستشار عبد الجواد ياسين بصيغ تختلف في بعض التفاصيل لكن تتّفق في النهاية على الهيكل العام، وهو عمليَّة “المأسسة” التي تحدث للدين بعد ظهوره الأول، الذي يكون إيمانيًّا وثوريًّا بطبيعته، ثم يتحوّل بعد ذلك إلى تقعيد وتقليد جديد يحتاج هو نفسه إلى من يجدّده.