سنحاول في هذه الفقرة تحديد الآليات والوسائل التي يقترحها الإمام لقيادة التغيير انطلاقا من الوضعية الكارثية للتعليم وصولا إلى إنجاح مشروعه التعليمي كما حددناه في ما سبق، وذلك من خلال مجموعة من المداخل التي نراها أساسية:
النشء
أول الإشكالات التي تطرح أمام نجاح أي مشروع تعليمي هو النشء الفائض المتسكع المشاغب. يبشر الإمام هذه الأجيال المباركة بانتقال من التسيّب الفكري العقدي الأخلاقي إلى الالتزام بالكلمة الحق، والرسالة الصدق، يحملونها في أمتهم وفي العالمين نبراسا في مدلهمات الدخان الجاهل. ويؤكد رحمه الله على ضرورة تهييء ناشئة المسلمين بصلابة الايمان لتقاوم تيار الثقافة المادية العالمية الغازية. ثم يسأل أسئلة تفصيلية للوصول إلى هذا المبتغى، و يؤكد أن الجواب عليها في انتظار الدولة الإسلامية تجيء بمشروعها التغييري الشامل:
كيف نهيئ النشء المؤمن الواعي بمأساة البشرية الشاردة عن ربها؟
كيف نقيم في عقله وقلبه صارخا مناديا للإيمان يكون أقوى من ضجيج العامل التعليمي الإعلامي وهوسه؟
كيف ننفض أيدينا من التلفزيون المفتون الفاتن، ونعطي البديل الجميل الجذاب المربي؟
كيف نقطع حبال الموروث التقليدي الخامل من عادات، وذهنيات، و أنانيات، ساكنة في الأجيال العتيقة، عالقة بالمخضرمة، دون أن نقطع حبل الفطرة الواصل بين أجيال الإسلام عبر تربية الأب والأم والقريب والجار ومعلم الخير والمسجد؟
ثم يطرح مقترحات عملية لقيادة التغيير في هذا الورش:
ضرورة أن يكون العامل المغير الواعي المسؤول قد عاش التوبة الانقلابية، والتنشئة الفطرية حتى نعرف هل تغير هو في نفسه ونعلم قدرته على تغيير ما بأمته. التركيز على عضو الجماعة في نفسه وخلقه واستقلاله الفكري و السلوكي والعاطفي بدل الاهتمام بالهياكل والتنظيمات وتركيبات المجتمع المدني، وصل ناشئة المسلمين بالقرآن والسنة و إيقاظ العقل والقلب ليحب الناشئ والتائب الله ورسوله، مع التأكيد أن الوحي الذي يؤمن به وبمصدره الإلهي المسلمون لا يصح أن ننزله منزل ما اخترعه الإنسان وقننه وشرعه وأن النبوءة هي مكان العصمة. يقول الإمام: “ثم قبل القومة وأثناءها وبعدها، من ورائنا هذه الأجيال المتلاحقة المباركة، مهمتنا أن نعلمها أن الإسلام والإيمان، والمحبة، والعمل الصالح، والأخوة يجب أن نصلح جندا منظما منبثا في المدن والقرى، في المساجد والمدارس، في البيوت والطرق، في المعامل والاستراحات. يعلم، يبلغ، يحبب الإسلام والإيمان”.
تعميم المعارف الضرورية في الدين، ومحو الأمية في الدين تساير جهود محو الأمية الأبجدية، والأمية السياسية، و الأمية التقنية، وتساندها وتستند إليها. وهكذا يمكننا تعميم التعليم من إبراز النوابغ الموهوبين، واختيار الكفاءات العليا والوسطى.
تلقيح ناشئة المسلمين ضد الإسلام الحرفي الذي يعلم الجسارة والجرأة على “الاجتهاد”، تعاون التلامذة والطلبة مع رجال التعليم منذ فجر الحكم الإسلامي ليقاوموا الشغب والفوضى في مدارسنا، وليفرضوا الجدية والإقبال على طلب العلم والاحترام المتبادل.
المعلِّم
يؤكد الإمام على محورية المعلِّم في العملية التربوية التعليمية، فيقول “المعلِّم المربي القدوة هو الواسطة الحية في عملية التربية والتعليم. إن لم تكن هذه الواسطة على القدر الكبير من الكفاءة وعلو الباعث والكرامة والرخاء في المجتمع، فالعملية كلها تنفسخ، لاسيما في المجتمع الفتنوي المغزو الذي تنحل فيه الروابط الأسرية، وتضعف فيه الأم، ويضعف الأب عن تقويم الطفل، وتوجيه اليافع، ومساعدة الشاب” لكنه يشير أن الثغرة الأفدح في جدار المنظومة التعليمية هي قلة كفاءة المعلِّم، وانعدام الباعث القوي لدى المعلِّم، ووضعية المعلِّم مع سائر الناس في دوامة السائبة العامة، ووضعية المعلِّم الاجتماعية غير المريحة. كيف يتحول المعلِّم ليصبح محور نشاط الحي في المدينة والقرية، ومحطة إشعاع ثقافي، وعامل توعية سياسية، ومحرك تغيير؟
ثم يطرح الإمام أسئلة تفصيلية لهذا السؤال المحوري:
طفل من يمسك بيده، ويستلمه برفق وحب ومسؤولية أخلاقية، إن كان المعلِّم مجرد موظف أجير؟
يافع من يدربه ويعلمه، ويصقل قدراته العقلية ومهاراته ومواهبه، إن كان المعلِّم عديم الكفاءة ناقصها؟
من يتحكم بزمام السلوك العام في المجتمع القائم، والجيل الناشئ في فوضى التفتت والتميع واللامسؤولية، إن لم يكن المعلِّم بوقوفه النموذجي أول الماسكين؟
من خلال هذه الأسئلة يظهر لنا ثلاث واجهات لقيادة التغيير على مستوى المعلِّم:
– ذهنية الموظف الأجير.
– نقص الكفاءة و الخبرة و التجربة.
– سلوك المعلِّم وشخصيته.
ثم يطرح مقترحات عملية لقيادة التغيير في ورش جهاد التعليم، لكنه يشدد على أن هذه الإجراء ات لا يمكن تنزيلها إلا في سياق التغيير العام حين تكون المشاركة العامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشورى وحرية الرأي، وواجب النصح أخلاقا يفرضها على الضمير المسلم دينه:
– يجب أن يكون المعلِّم من خير الناس و تكون مروءته وعلو همته صفتين بارزتين يستوي عليهما دينه، أن يكون المعلِّم قرآنيا، مُنجمِع على الله هادف مجاهد.
– يجب أن نضمن للمعلِّم العيش الكريم و المكانة الاجتماعية.
– استعمال مبدأ التعديل والتجريح لاختيار المعلِّم، وإنه لآكد من عدلية الشاهد عند القاضي عدلية من نستأمنهم على فلذات أكبادنا وعلى مستقبل الأمة، تطهير مدارسنا من الاحتلال الأجنبي المشخص في أساتذة مفلسفين ملحدين.
اللغة
يؤكد الإمام على تعليم اللغة العربية للشعوب المسلمة عجمها وعربها لوصل الناشئة المؤمنة بالنبع و كشرط وفرض وضرورة تاريخية لتوحيد المسلمين. كما يشدد على جعل تعليم اللغة العربية في صدر الأولويات ييسر ذلك الثورة التواصلية. ورغم أنه يدعو لتصبح اللغة العربية لغة التعليم حين يقول: “سيبقى المسلمين لقطاء متطفلين في عالم العلوم والصنائع مادام تعليمهم لا يرتكز على لغة القرآن في المجالين التربوي القلبي والتعليمي الفكري، مسايرًا هذا لذلك، موصولا به مستقيًا من مبناه ولفظه ومعناه. مقدمة لا بد منها إن أردنا أن نطوّع عالم الأشياء لمقاصد الإسلام. صياغة للعلوم بلغة القرآن لا بد منها إن طمعنا في صياغة الإنسان والعالم، وطبعها بطابع القرآن وصياغته. تبليغ رسالة لا إكراها وبطشا”.
لكنه يؤكد على مجموعة من الملاحظات لقيادة التغيير والوصول إلى هذا الهدف الشريف:
– ضرورة التريث وخدمة اللغة العربية وتحميلها زينة الإفصاح عن المعارف الكونية قبل ذلك. يقول الإمام: “أما أن تكون اللغة العربية لغة التعليم عامة، فلا يزال على العرب المسلمين أن يتشرفوا بخدمة اللغة الشريفة، وتحميلها زينة الإفصاح عن المعارف الكونية كما هي مشرفة من قبل الحق من الوحي”.
– الاستفادة من تجارب الأقوام الأوروبية التي استقلت بهذه العلوم العصرية مع ضيق نطاقها وقلة أهلها، مع العلم أن العربية يتشرف بالنطق بها تلاوة في المصحف مئات الملايين.
– ضرورة ضبط لغة ولغات أجنبية لتكون وسيلتنا إلى العلوم الكونية و المسابقة والمنافسة واستراق السمع العلومي، حيث يقول الإمام: “تقول البديهة وتقول الحقائق الماثلة إنه لا طريق لنا إلى العلوم إلا عن طريق اللغات العالمة بالعلوم الكونية، لا يضيرنا جهلها المطبق بعلم الحق، ولا يعوقنا عن إتقانها وإجادتها والجد في نقل ما هو نافع عنها. ومعنا مصفاة القرآن ومعيار القرآن ومقاييس البيان النبوي، ثم لا يستغني أحد في العالم الحديث القريب التواصل المبني على المسابقة والمنافسة واستراق السمع العلومي عن إتقان لغة أو لغات أجنبية. وسيصبح بمثابة الأمي من لا يتقن إلا لغة قومه”.
– عدم تدريس أي لغة أجنبية في السنوات التسع الأولى إلا أن تكون دراسة باللغة الأجنبية مضمونها إسلامي تؤكد الباعث القرآني ولا تصادمه مع جعل برامج التعليم في هذه السنوات تندرج كلها في كنف القرآن، وتستشهد به، وتستند إليه. حيث يقول الإمام “في السنوات التسع الأولى من حياة الناشئ، وهي الفترة التي تتأسس فيها قواعد الشخصية ويتأصل فيها الفكر والشعور والولاء والباعث، نجنب أطفالنا التوغل في المياه الأجنبية، إلا أن تكون دراسة باللغة الأجنبية مضمونها إسلامي تؤكد الباعث القرآني ولا تصادمه. ينبغي النظر في برامج التعليم للسنوات التسع الأولى من حياة الأطفال لتندرج كلها في كنف القرآن، وتستشهد به، وتستند إليه”.
استقلال التعليم عن الدولة
يقترح الإمام رحمه الله استقلال التعليم عن الدولة لسببين أساسيين:
الأول: الاستفادة من تجارب الأمم الناجحة في هذا المجال، كبريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية، يقول الإمام: “فإن استفهمنا التاريخ عن سر تقدم الغرب في العلوم وجدنا، من بين ما نجد من أسباب، استقلال التعليم عن الدولة واحتضان مؤسسات خاصة للمعاهد التي صبغت النبوغ والتفوق. وإذا ذكرت كليات أكسفورد وكمبردج في بريطانيا العظمى، فقد ذكرت الكنيسة، ودعم الكنيسة، ومال الكنيسة، ومنح الكنيسة. وفي والولايات المتحدة الأمريكية يختص التعليم الحر، لا سيما التعليم الجامعي والعالي بنصيب الأسد”.
الثاني: الاستفادة من تاريخنا حيث نجد المسجد في عين دائرة التعليم. ونجد التطوع والأوقاف والإحسان إلى طالب العلم وكفالته وكفايته مؤونة العيش ولوازم الطلب من كتب تزخر بها خزانات المسجد. كما نجد كذلك العلماء يتقون الله عز وجل، يخافون أن يكتموا العلم عن الطالب وعن عامة الناس، فكان شغل يومهم وليلهم بث العلم. يقول الإمام: “ما كان التعليم والتعميم واصطفاء العلماء يوما شأنا من شؤون الدولة في الأصيل من تاريخنا … لم يكن التعليم قضية دولة، بل كان البذل والتطوع والمسارعة إلى الخيرات هي البواعث، وهي الفواعل”.
وهكذا يريد الإمام أن يكون التعليم في كنف الأمة وكسب العلوم والجهاد في تحصيلها قضية حياة أو موت في حقها. ثم ينبه أن تحويل التعليم من هيمنة الدولة، ومن لا مسؤولية التأميم، إلى تعليم يتكفل به ويرعاه التطوع والمسجد والمدرسة الحرة والجامعة والمعهد، هي عملية بطيئة تصحب التغيير الإسلامي العام وتتطلب عقودًا من الزمن.