أي مهمة للمعلِّم في التربية على التنوير؟
نشأت ثقافة سياسية ومواطنيّة في البلاد العربية باحثة عن التغيير العميق، وتصاعدت المطالب الاجتماعية نحو الإصلاح الشامل في كافة المجالات. ولما كانت التربية من بين الحقول الاستراتيجية في تكوين القيم الموجهة للمجتمع وللشباب خاصة، تطلب الأمر النظر في إصلاح النظم التربوية العربية بنظرة جديدة وتحديثية للمبادئ والمعايير والمداخل، مما يدعم نجاعتها ويُفعّل جدواها وجودتها. وككل نشاط مجتمعي وإنساني لا بد أن يخضع حقل التربية والتعليم لآلية التقييم لدوره في صياغة ملامح الأجيال وبلورة قيم الشبان وكفاياتهم بما أنهم عماد نهضة المجتمع وتطويره والمساهمة في تنميته. لا يشك بأن كل مكونات التربية تحتاج للنظر وإعادة الصياغة، ويعتبر مدار الإصلاح وقاطرته العامل البشري، ولذا يعد التفكير في المدرس بعدًا جوهريًّا في إصلاح منظومة التعليم وتطويرها. إذ ارتبط التعليم بالتنوير في الأذهان، والتصق المدرس بدور المصلح، فهو صوت التنوير وعنصر العقلنة، واعتبر دوره أشمل من كونه حاملًا للمعرفة وملقنًا للطلبة مبادئ المعرفة الرياضية والقراءة والكتابة، وإنما يسهم في فتح العقول وفتح الآفاق وحث الطموحات، وتحفيز الطلاب ورسم خطى المستقبل. هذا الدور الحضاري والتنويري تراجع في السنوات الماضية ليفسح المجال لظواهر “التعليم البنكي” بعبارة بول فيراري واختزال التعليم في المعرفة، وانكمشت مهام المدرسة وانفصلت عن محيطها وتحولت إلى “قلعة” مغلقة. كيف يعود المدرس إلى تأثيره كعامل تحفيز للتطور ولبناء الطالب/ الإنسان؟ ما هي النظرة الجديدة لمهامه داخل المدرسة؟ وما هو دور المعلِّم في عملية تنوير العقول وإصلاح القلوب؟ كيف يجمع دوره التربوي بين الثقافة الأصيلة والقيم الحديثة ومتطلبات القرن الواحد والعشرين؟
1- التنــوير غــايــــة الإصلاح التربوي
تحدد وزارات التربية والتعليم الأهداف وتبرز سُبُل إنجازها وتُقيّم بمعزل عن حيوية المجتمع مما يجعلها تنكمش في فضاء “الخبراء” فحسب، مما أفرز غياب المبادرة وسيطرة الاتكال على المذكرات الرسمية وانعدام التجديد التربوي وشيوع التبلد لدى الناشئة. وعندما يشيع الاغتراب السياسي في أطياف المجتمع فإن الاستجابة السلوكية تأخذ أسلوبين إما العنف أو التبلد بما هو الاكتراث بالقضايا الوطنية وعدم الرغبة في المشاركة والعزوف عن الاهتمام بالمصلحة العامة وتركيز المشاغل في بؤرة المصالح الشخصية وانتشار روح عدم الانتماء أو الانتماء إلى مرجعيات متعصبة. فضلاً عن أن الفعل التربوي يقع بين عنصرين متقابلين الأنسنة من جهة والجمعنة من جهة أخرى، بمعنى هل أن التربية موجهة إلى الفرد لكي يتشبث بعمق حريته الشخصية أم على العكس من ذلك لكي يعمل وفقا للمجتمع الذي ينتمي إليه؟
وهو ما لا يمكن اختراقه إلا بأن تعود الأمور التربوية تخطيطًا وتقييمًا وتجديدًا ومراجعات إلى مساحات الحوار والتصالح وجذرها المصالحة السياسية الشاملة، من هنا تبدو أهمية فكرة التقييم.
أ. مرجعيات تقييم الحقل التربوي
اتفق الخبراء على محوَرة التقييم حول ثلاثة مفاهيم محورية النجاعة والفاعلية والإنصاف (De Ketele ;1997)، فمعيار النجاعة يسمح بمدى تحقق أهداف التربية وأهداف التكوين، ويتفرع إلى نجاعة داخلية تهم المؤشرات العامة المعتمدة في قياس الأثر المنتظر مثل نسبة النجاح والرسوب والهدر ومستويات التملك والنتائج حسب المواد الدراسية. أما النجاعة الخارجية فهي تعبر عن أهداف المجتمع وحاجات سوق العمل والتطلعات الفردية. وتحيل إلى القيمة المضافة خصوصا مع انتشار قيم المواطنة والمسؤولية والتحقق الشخصي وانتشار قيم التنوير وإدماج معايير تثمن التنمية الشخصية للطلاب. أما معيار الإنصاف فيرتبط بالعدالة الاجتماعية، فالنظام التربوي منصف إذا تمكن من تقليص التفاوت بين الجهات والفئات وبين أداء الطلاب، وبين المجموعات المحظوظة وغير المحظوظة. أما معيار الفاعلية فهو نجاعة النظم التربوية في ارتباطها لتحقيق البرامج بالموارد المؤسسية والبشرية والمادية، بمعنى أن الفاعلية هي العلاقة بين مستوى النجاعة والموارد، وترتبط بمنطق البرامج (موارد – كلفة – تخطيط…) بما يجعلها تختلف عن النجاعة المرتبطة بالرؤية والأهداف.
توجد عدّة زوايا لتقييم المنظومة التربوية من مرجعية المداخل، زاوية تقنية تتكوّن من لجان قطاعية تعمل على تعديل المضامين الموكولة لها وفق توجّهات عامة، أو تستنبطها من التجارب الميدانية ومن المستجدّات في المجال. أو زاوية هيكلية تبحث في تطوير التنظيم الهيكلي للمؤسسة التعليمية أو الهيكل الإداري على الصعيد المركزي و الصعيد الجهوي أو المحلّي. وزاوية الجودة تعتمد مجموعة من الضوابط ويقضي بتوفر بيئة صحيّة وآمنة لجميع المتعلمين والإداريين والمدرّسين، وتحريك قوانين المنظومة التربوية نحو الأفقية وليس نحو العمودية، ونحو المرونة وليس نحو الصلابة، ونحو التشريك في اتخاذ القرار وليس نحو الفردية. وزاوية استراتيجية تضع خططًا عامة ومتكاملة للتربية والتعليم على مستوى الدولة لا الوزارة (المجتمع). أمّا الإدارة الاستراتيجية، فتتميّز مهامها بوضع الخطط الشاملة، وتحديد الأهداف العامة، وبناء الاستراتيجيات العملية ومتابعة تنفيذها. تتمثل أهم التوجّهات التي تقوم عليها الإدارة الاستراتيجية في إرساء العمل التعاوني مع المؤسسات المدرسية، وتطوير قاعدة للشراكة مع المنظمات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني وتعزيزها. ونستنتج أن الزاوية الاستراتيجية في تقييم إصلاحات المنظومة التربوية يكون أجدى وأنجع من المقاربات التنفيذية التي تختزل كل عمل إصلاحي في جوانبه القطاعية والتنفيذية. لذا فإن الانتباه لهذه التقييمات حيوي لإنجاز التعديلات اللازمة، والانطلاق من استنتاجاتها وخلاصاتها لتدقيق مرجعيات التقييم وتغذية استشراف الإصلاحات التربوية. إن معايير التقييم تتمحور حول “بناء الإنسان” والتنوير ليس إلا التفكير الحر وتحرير الطالب من أي خضوع أو استعباد. وهو ما أبرزته تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة، فمنذ تقريرَها الأول لسنة (2002) أكدت ثلاثة معوقات للتنمية الإنسانية العربية في العوائق التالية: اكتساب المعرفة – الحرية وجودة الحكم – تعزيز دور المرأة، وبين أن مجموع ما ترجمه العرب في تاريخهم منذ عهد الخليفة العباسي المأمون لا يتعدى ما يترجم إلى اللغة الإسبانية من كتب في سنة واحدة، وأن نسبة الأميّة في العالم العربي تتجاوز 37 % أي نحو 111 مليونًا.
ب. إصلاح منظومة التربية والتعليم
اقتصرت الإصلاحات التربوية التي شملت أغلب البلدان العربية وفي فترات متعاقبة على تغيير المناهج أو الطرائق البيداغوجية أو مواد الدراسة، فاهتمت بإصلاحات جزئية وقطاعية، جعلها تشتغل على الأبعاد المعرفية وتتجاهل الأبعاد القيمية، وتستعرض مقترحات الإصلاح والمشاريع دون أن تختزن رؤية تنويرية متكاملة للتصدي للتطرف و الانغلاق والتشدد الديني. إن السياسات التربوية لم تؤدي إلا إلى تفريخ الإرهاب والعمى الفكري والخواء الروحي، مع ما يلاحظ من ارتخاء علاقة الطلاب بالمعرفة وتبخيس للمدرسة وقدح في صورة المدرس، مما يثير مجموعة من الإشكالات، لماذا لم تعد المدرسة مصدر التغيير والتنوير؟ لماذا تعطلت الإصلاحات، وظلت دون المستوى المطلوب مع متطلبات العصر من تغيرات وما تحقق من عميق تحولات بنيوية في المجتمع؟ فالعالم يتبدل بنسق سريع يتطلب تنظيم حوارات ونقاشات حول أدوار المدرسة والسياسات التربوية العامة والاستراتيجيات التعليمية، لإعادة صهر غايات المدرسة وإخراجها من بوتقة “التسييس” وأن لا تكون مدار الصراعات السياسية والأيديولوجية. ما لوحظ أن كل إصلاح لمنظومة التعليم حتى وإن غيرت ترسانة التشريعات، تظل دون نجاعة ما لم يقحم المدرسين والطلبة والأولياء وكل المواطنين للانخراط في عملية الإصلاح وإلا بقي مجرد صرخة في واد.
إن مشكلات التعليم وأسئلته الأساسية هي “أسئلة الغايات”، إذ لا تختلف الآراء في أن وظيفة المدرسة نقل المعارف، إلا أنه لا ينبغي تجاهل أنها لم تعد المصدر الوحيد للثقافة وللمعرفة، فقد أحدثت الشبكة العنكبوتية ثورة كوبرنيكية، فلم تعد محور العالم، بل مجرد مجرة من بين المجرّات، وأن المعرفة متاحة على قارعة الحواسيب. لذا فإن من المهام الأساسية للمدرسة النظر في الظواهر الجديدة المحدقة بالشباب، وتأثره بأصوات التطرف وانسياقه في هذه الاتجاهات والانحرافات النظرية والسلوكية والقيمية، ويظل السؤال عاليًا: ماذا ينبغي أن يقدم للشباب؟ ما الذي يمكن أن توفر المدرسة للأجيال الجديدة؟ لا يشك أحد في أهمية المعرفة والتحصيل العلمي، ولكن ما الذي يراد من الشباب أن يكتسب داخل “أسوار” المدرسة؟ فالمدرسة التي لا تفيد، عبث، كمتحف بلا زوار. توجد العديد من الإصلاحات، إلا أن جلها يفكر في المدرسة فقط لا في من هو داخلها بمعنى الاهتمام الفعلي بالشبان والإجابة عن اهتماماتهم وتفكيك رغباتهم وإخراجهم من حالات التهميش والضياع الفكري والروحي.
اختزلت المؤسسة التعليمية في آلة توزيع شهادات النجاح وتصنيف الطلاب على حساب تكوين المواطن وتربيته وتنويره بمعنى أن يستعمل العقل وأن يكون العقل هو أداة الحكم والتمييز. ما زالت منظومة التعليم تعيش “انفصام نكد” بين التعليم والتربية وبين الكفايات والمعارف، شوش غايات المدرسة، واستبعد تنمية شخصية الطالب ونجاحه في الحياة. فالمناهج تنزاح نحو التجريد والشكلانية، فمادة الرياضيات تجريدية دون وضعيات واقعية،وتختزل المضامين المعرفية في مواد مصنفة دون إعطاء معنى للتعلمات. يربط جوهر الإصلاح بين المواد الدراسية “والحياة الحقيقية” والواقع، فالمدرسة تنير العقول وتعد للحياة وتدرّب على التفكير والحس النقدي والمقارنات، وإن مواد جديدة تربي الطالب على قيم التنوير مثل التربية البيئية والتربية الرقمية وفك رموز “الميديا” والاهتمام بالكفاءات الأفقية والمنهجية والتدريب على “إيقاظ الفكر” وإثارة الأسئلة بهدف اكتساب تقنيات الكشف والفهم والتحليل.
2- التربية على التنوير؛ المستقبل يبدأ الآن
انخرطت المدرسة كليُا في النموذج البيداغوجي التقليدي وما زالت تسهم إلى حد بعيد في إدامته، فالتنوير لا يحسب له حساب رغم تغير الأنماط البيداغوجية تحت تأثير التيارات الإنسية والتحليلية النفسية أو المؤسسية، فالممارسات داخل المؤسسة والصّف ما زالت محصورة في حدود اكتساب المعارف المجزأة واستمرار التقيد التام بفكرة الاختصاص رغم الحديث اليوم عن “تداخل الاختصاصات” (interdisciplinarity). أدى ذلك في المقابل إلى تعزيز البعد المدرسي المحض والتركيز المتزايد على مواد التدريس وتقانة التعلم والتقييم وتأكيد البعد الوسيلي في التكوين. ولا تزال المدرسة تهتم بالعالم الذي يندمج فيه الطفل والمراهق وأسرته إلا قليلاً، وقل أن تأخذ في الحسبان مختلف مكونات بيئته، وهي لا تدمج إلا نادرًا الأبعاد النفسية والتربوية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية في مشروعها. لهذا فإن غياب أو تغييب البعد النفسي التربوي بالمدرسة ترك المتعلمين – وحتى المعلمين – عزلاً أمام التقلبات العميقة للمجتمع المعاصر من عنف وانحرافات وانفصال العلاقة بين المدرسة ومحيطها وتقلصت الصلة بالمعرفة. كيف يتفاعل مع أطفال يعيشون واقعًا أسريًا متزايد التعقيد والتغيّر؟ كيف يدعم العمل التشاركي في المجتمع التربوي؟ كلها أسئلة لا تجد إجابات حقيقية، تدل على أن الأبعاد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية لم تدخل بعد المؤسسة المدرسية.
ومن السهل في هذا المقام ملاحظة أنه لئن بقيت المدرسة مكانا للعقلنة الوسيلية كما كنا بصدد بيانه وفضاء يجد فيه الفرد مكانه بصعوبة، فإنه من اللازم وفق بيداغوجيا التنوير “الدفاع عن الذات فلن تكون المدرسة مجرد تنظيم يحكمه المنطق المهني أو المالي أو الإداري بل سوف تركز أيضا على الطالب بالكيفية التي تجعل منه ليس فقط فردًا عليها أن تعلمه، بل أيضاً ذاتًا مشاركة وقادرة على أن تكون لها مشروعات واختيارات”. ويقوم التعليم بلا شك على مبدأ الإعداد لعالم الشغل ونقل الثقافة المدرسية، لكن سوف يكون عليه الاعتناء بشخصية كل متعلم وعقله، لقد آن الأوان لكي تصبح المدرسة مكانا للتعليم والتربية، هذان الهدفان المتكاملان اللذان لا ينفصلان سيردان إلى العمل البيداغوجي معناه وثراه. وإن كان ثمة مهمة تعد من المهمات الأساسية في هذا العالم فهي بلا شك تلك المتمثلة في “أن نجعل” من أطفالنا “راشدين” ومن هذا المنظور أن نصنع إنسانًا هو شيء مختلف تمامًا عن أن نصنع طفلاً.
وتتفق نتائج البحوث حول أهمية الذات والاعتبارات العرفانية والانفعالية في مسار التعلم والمعرفة، أي لا يتحدد فقط بالجوانب الدراسية المحضة بل بالجوانب الذاتية، وكشفت العلاقة الدالة بين المفهوم الإيجابي للذات والتحصيل المدرسي، وأكدت أن معرفة الذات ركن أساسي للنجاح في المدرسة وفي الحياة والاقتدار في سنوات الرشد. تعد إيجابية الذات بمثابة “حجر الزاوية” في الشخصية الإنسانية وهي أهم عناصر التوجيه النفسي والتربوي، تأثيرًا بالغًا بالغا في توافقه الشخصي والاجتماعي، وهي أيضا مفتاح الشخصية السوية وطريق الوصول إلى الإبداع والتفوق الدراسي. ويتضح أن مدركات الفرد المتصلة بذاته وما تتضمنه من أحكام تقييمية تعتبر موجهات أساسية لسلوكه وتكيفه، كما يعد مفهوم الذات من الأبعاد الهامة في حياة الأفراد حيث أنه يعبر عن اعتزازهم بأنفسهم وثقتهم بها ويرتبط بقدرتهم واستعداداتهم وإنجازاتهم، وتنمية هذا الجانب يفيد الأفراد ويفيد الجماعات أيضاً.
لهذا نعتقد أن التربية تنطوي على مبادئ ومنطلقات ومقاصد قابلة للتحقق في مساحات تنوير تشمل أنسنة المدرسة وتربية الطالب على الكفايات الشخصية والاجتماعية وتحقيق إيجابياته وتنمية شخصيته. وتسعى التربية على التنوير إلى استحضار المعنى الإنساني العام ونحت الذات الفردية الفاعلة والاشتغال على كافة أبعادها، بتغذية دافعية التعلم والنجاح المدرسي ومهارات التخطيط والامتداد في المستقبل وبلورة مشروع شخصي. وتقترب من ملامسة مشاغل المراهق واهتمامات الطفل (المتعلم)، وتكوين المتدخلين التربويين في علم نفس الطفل وعلم نفس المراهق، فالتنوير من منظور تربوي يفتح مجالات جديدة للنظر إلى الطالب من زوايا نفسية تفتقر إليها المدارس العربية.
وأمام تقاطع الواقع الاجتماعي-الاقتصادي غير المستقر والمتغير والذي هو في حالة تكوّن مستمر يكون هدفنا إعطاء المراهق قدرات تمكنه من التحليل الآني والمستقبلي للعناصر المكونة لذاته ولمكتسباته المحققة ولحدوده، وكذلك هيكلة العالم المحيط به بطرقه الملكية ومسالكه الملتوية وبفرصه السانحة وقيوده. بهذا المعنى لا يعد الفعل التربوي مجرد آلية تصنيفية وتوزيعية، وإنما تأطير ورعاية إرشادية تأخذ بالضرورة منحى نفسياً وتوجيهياً، فتأطير الطالب على معرفة الذات ومعرفة العالم ومرافقته في تطوير أدوات التحليل العقلي وأخذ قرارات تخص مستقبله، بناء على فكرة أن كل شخص/متعلم فاعل مستقل ومسؤول وقادر على التحرر من النظر “المُعلَّب”. لم تعد هناك إمكانية بناء مشاريع بعيدة المدى في عالم لا ينفك يتغير ويرى أنه من المحتم تعلم استراتيجيات قصيرة المدى والتصحيحات المتتالية والاستعداد بدون توتـر. ومن المـسـلم بـه أن مـعرفة الذات وتحقيقها ترتبط بالفرد وأن وضعيات التربية على التنوير يمكن أن تكون فرصة نوعية للارتقاء الشخصي وتحليل معالم معرفته بذاته وتقييمه لكفاءته الذاتية وتنميته للذات، فالتنوير داخل الحقل المدرسي يدرك ويخطط له ويُشرع له بيداغوجياً كتدريب على إدارة المسارات الفردية الدراسية والحياتية وتعلم مناهج مساعدة الأفراد في مواجهة “فوضى الميولات”.
صارت التربية على التنوير قناعة نظرية دون أن تتحول – في الوسط المدرسي – إلى ممارسة شاملة تمامًا ولم تدخل في المناخ التربوي كنشاط تربوي يمس معرفة المتعلم وقدراته. فالتنوير يمنح المتعلم الأدوات والوسائل على امتداد حياته تمكنه من إنجاز اختيارات واقعية ومكيفة، وكذلك مصاحبته في إنشاء شخصيته ومساعدته في بناء صورة إيجابية لذاته، وتمكنه من حسن معرفة أذواقه وترتيب اهتماماته. ونعلم أن مسألة الذات/المستقبل مركزية لدى المتعلم وأن تقدير الذات بعد أساسي في الهوية يسمح بالالتقاء بين ما هو شخصي وما هو اجتماعي وبين الذات والآخر. نعلم جيدا أن تطور أعداد الطلاب وارتفاع نسب التمدرس أحدث “انفجارًا” في النسيج الاجتماعي والثقافي، وفتَّت أنساق المرجعيات الاجتماعية وشجع الاحتماء في إجابات “منغلقة ” أو “متصلبة”. بات من أهداف المدرسة – عبر التنوير كمضامين في المناهج وكطرائق بيداغوجية – أن تعطى رسائل نافذة في الكرامة والحرية والتسامح، ورتق المفارقات بين إدارة الإنفاق المدرسي ومعرفة الذات وبين التعليم والمهارات وبين المعرفة والقيم، ومن الضروري تربية المتعلم على “التمكن من فكره في معناه الحالي وإيجاد طريق تحققه الخصوصي وأن تتم معرفة الذات ومساءلتها”، ويبقى الأهم التفكير في سبل تنميتها.
الملاحظة الأولى: تنزع التربية غالبا إلى عقلانية مدرسية عامة، بخضوعها إلى قرارات إدارية لا تعبر فقط إلا على النتائج المدرسية، بينما المنحى التنويري في التعليم يشتغل في سياق تبادلي بين المتعلم ومحيطه، وبين المعرفة والواقع، تكون فيه حلقة الوصل متينة بين العلم والقيم وبين التربية والعقل، مما يحول المؤسسة من مدرسة المعايير إلى مدرسة المشاريع.
الملاحظة الثانية: تؤكد الإصلاحات التربوية المتتالية محورية المتعلم، إلا أن الإشكال ليس في تحديد الأهداف وضبطها بل في امتداداتها التطبيقية وبعدها العملي في الصّف والأنشطة والأفعال والممارسات المدرسية اليومية. لا يستطيع المضمون التربوي التنويري أن يتجذر إلا بامتداده في الفرد الذي يعي بذاته وبأهدافه وبمشروعه، وانغراسه في أساليب رؤيته للقضايا وكيفيات مقارباته للإشكالات الذاتية أو المجتمعية، في الآن وفي الغدّ. كما يعيد الطالب هيكلة الأفق الزمني وطريقة تموقعه في الماضي والمستقبل وإدارة “أزمنته” بطرق مغايرة، وبإمكانه تنويع استراتيجياته حسب اللحظات الزمنية أو الانشداد إلى إحداها، وإرادة عيش الحاضر تمامًا أو الاحتماء في ذكريات الماضي وصوره النمطية أو الاستشراف بطريقة انفعالية أو عقلنة مستقبله.
3- أي دور تنويري للمعلِّم في الفضاء المدرسي؟
تعتبر أهمية الإصلاحات لا في نبل مضامينها وطرافة مقترحاتها وجودة مخرجاتها، وإنما في مدى تمثل الإصلاحـات واستدخالها من قبل المعلم لأنه في علاقة مباشرة مع المتعلم ومع الطلاب، لذا فإن الصورة المتعارف عليها في مقارنة المعلِّم بالطبيب صادقة إلى حد كبير، فكل منهما ينطلق من معرفة تتكيف مع طبيعة العلاقة “بالشخص” (المريض أو الطالب)، فالإصلاحات تحقق أهدافها من خلال اشتغال الصف ومناخه السائد، وهو ما أبرزته الدراسات التربوية والتقييمات الدولية مثل “بيتزا” من أن العلاقة الجيدة بين المعلِّم والمتعلم بغض النظر عن العلامات أو الأداء المدرسي، توفر مناخًا عرفانيًا ومشجعًا للتعلّم ومؤثرًا في النجاح ومحفّزًا للطالب لتثمين ذاته وإدراك قدراته وكفاءته.
من مهام المعلم التنويرية مقاومة خرافة الذكاء الفطري، وإرساء قواعد حب المعرفة، وصقل العقل، وتنمية المواهب، وصفاء الذهن وروح العمل الجماعي والتعاطي مع المعرفة بعيدًا عن روح التنافس الشرسة التي تم زرعها، وتكريس ايديولوجية الاستحقاق وأن أكون الأول والأفضل، مع سطوة المقارنات البينية. إنها عقلية تسيء للتعلمات وتزعج المناخ الودي وتعيق الفعل التربوي والتنويري، فالجميع يركض من صف إلى آخر. فما هي المساحات التي أتاحها المدرس لتعزيز ثقة الطلاب في أنفسهم وتجويد سلوكياتهم والارتقاء بحسهم الإنساني وتدريبهم للنزوع نحو الصالح العام والخدمة المجتمعية. بينت دراسات علوم التربية أن متغير “المعلِّم” أثره حاسم في الانخراط التعليمي والتربوي، وكشفت بحوث علم نفس الاجتماعي أساليب تحفيز المتعلمين وإثارة اهتمامهم وذلك بإنجاز حر لبعض الأنشطة، وتحرير البيداغوجيا من سلطة الخبراء والمناهج الرسمية وتشجيع المدرسين على البحث في البيداغوجيا وعلم النفس ومعنى التعليمات. لذا فإن تعزيز استقلالية الممارسة البيداغوجية للمدرسين ومنحهم مساحة من الحرية تمكنهم من التكيف مع التنوع الغزير لملامح الطلاب وخصائصهم، خصوصًا أن الأبحاث العديدة أبرزت أن نسبة هامة من طلاب البلدان العربية يشعرون بانعدام الثقة في أنفسهم منذ المرحلة الابتدائية وفي سن الخامسة عشر يخافون من الخطأ.
إن اختيار مهنة التدريس ليست وظيفة كغيرها من الوظائف، إنها وظيفة إنسانية في تنشئة الأجيال، ومن المسلمات أن قيمة المدرسة من الخصال المهنية والإنسانية للفاعلين فيها، ومن طبيعة تكوين المدرسين. تؤدي شخصية المعلِّم دورًا نوعيًا في المسار الدراسي للطالب، وتتطلب منه إدماج مهاراته المعرفية وتقنيات إدارة المجموعة ومراقبة علاقات المتعلمين، وعلاج الصعوبات وتأطيرهم وبعث أجواء تعلم إيجابية، وأن يكون صاحب مشروع تنويري، بمعنى تكوين المتعلم/ الإنسان. لم يعد عمل المدرس يقتصر داخل الصف وإنما يشمل المرافقة ومواكبة تحولات المتعلم بمعنى أن يؤمن أن كل الطلاب قادرين على التعلم وعلى النجاح، وأن يقود الطلاب نحو أعلى مستوى ممكن. إن المهمة التنويرية لا تتمثل في أن يعمل المعلِّم أكثر بل أن يعمل بصفة أفضل، وخاصة إعادة بناء العلاقة بالمعرفة وبالمدرسة وأن يصغي إلى طلابه لكي يتخلّوا عن الانسحاق والخنوع. وتثبت التجربة أن تأسيس الثقة في المدرسة وتمثل قيم التنوير لا تتعلق بالإجراءات الإدارية والمدرسية، بل يكون بإرساء الثقة من الأسفل من خلال عقد بين المدرس والطلاب، فالمعلِّم منارة التنوير وأداتها المباشرة.
لعل هذا ما شرع لنا لمساءلة دور المدرس، فأي دور وأية مهام للمدرس في شعاع تعاظم التشدد والانغلاق وتنامي مظاهر الإقصاء والعنف؟ أي مساحات وفرت المدرسة للتربية خارج سياج التعليمات والبرامج وبيداغوجيا الأهداف؟ في التقرير الأول “منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية” لسنة 2000 طرح سؤالاً لاثني عشر (12 بلدا) أوروبيا حول العشر كفايات (مفاتيح) يعتقد أنها أساسية لتطوير التعليم والحاجيات الأساسية للمتعلم، تم التذكير بأن التربية تتأسس على أربع ركائز: “تعلم كيف تعرف” و”تعلم كيف تفعل” و”تعلم كيف تعيش” و” تعلم كيف تكون”. وخلص التقرير أن الكفايات الثلاث الأولى ترجمت في صيغة إصلاحات تربوية ونصوص تشريعية بينما الركيزة الرابعة “تعلم كيف تكون” وهي المعبرة عن الجهد التنويري، تم التغافل عنها أو لم تستطع مجاراة بقية الكفايات. ورغم أنه منذ تقرير” تعلم كيف تكون” حدد بدقة أهمية تأكيد بعد الحياة التربوية المتضمنة التنمية الكاملة (التنوير) لكل فرد فكرًا وجسدًا ذكاء وإحساسًا ومعنى الجمال والمسؤولية الشخصية. ولم يقتصر التفكير في دور المعلم في تعليم الكفايات الأساسية، بل يفترض توسيع مهامه لتشمل الكفايات الأفقية، وهي تؤكد أهمية الوظيفة الأخلاقية والاجتماعية والمهارية للمدرس. ويثري مفهوم الأفقية نواحي جديدة في البرامج التعليمية-التعلمية، و”يعيد إنشاء وصياغة ما هو مشترك ما بين المواد ومقاربته ضمن طابع إدماجي”. وتمنح المدرس إطارًا مرنًا ليضفي طابعًا إنسانيًا على أنشطته ونوعية الخدمات التي يقدمها في سبيل نحت كفايات جديدة لدى الطالب.
بينت العديد من الدراسات أن هدف المعلِّم المساهمة في تنمية قدرات الطلاب الضرورية لجعلهم مواطنين واعين بحقوقهم وواجباتهم في مجتمعهم، فالمجتمعات الحديثة تتحدد بما هي “مجتمعات الأفراد” وبروز فكرة أن كل شخص مستقل ومسؤول وقادر على الاستقلالية في الوضعيات التي يوجد فيها. وترتبط ” مركزية الذات/ الفرد الحديث” بتطور المجتمعات الحديثة على عكس المجتمعات التقليدية “التي تمنح الأفراد نوعًا من الأمن الأنطولوجي نتاج العلاقات الأسرية ونسق القيم والهيكلة الدقيقة للزمن والفضاء وطقوس السلوكات الروتينية “. فالمدرس في العديد من الأنظمة التربوية (فرنسا وألمانيا وإنجلترا واليونان والبرتغال وبلجيكا …) يقوم بمرافقة المتعلمين وتأطيرهم، واعدادهم للحياة ، لذا من الممكن فتح نوافذ المشهد التربوي والمدرسي على أدوار تربوية للمعلم تتمحور حول التربية على التنوير والتوجيه نحو المستقبل، وتيسير التطور الشخصي للفرد، وتمكن كل متعلم من بناء عقلانيته والارتقاء بقيمه وإنشاء مشروعه.
ويمكن الإشارة إلى بعض المداخل التي تثري مهام المعلم التنويرية والتربوية:
1- إيلاء المدرس “الكفايات الأفقية” وعمليات التنوير الحيز الذي تستحقه في صناعة المحتويات والبرامج والوسائل وحتى سياقات التصرف والتسيير في المؤسسات التربوية، ودفع الإصلاحات التعليمية في اتجاه تمثلها واعتمادها، دون أن يعني ذلك بأي وجه من الوجوه انتقاصًا من المعارف بل استنادًا عليها وانطلاقًا منها.
2- تطبيق المعلِّم أسلوب التعليم والتعلم على فكرة “الوضعيات- المشكل” وتدريب الطلاب على حل المسائل في كافة المجالات بعيدًا عن التصنيف التراتبي للمواد الدراسية، واستثمار كافة الطرق التربوية في إثراء ملامح المتعلم بجعله قادرًا على تحليل وضعيات معقدة وعلى تأويل معطيات متشعبة ومتضاربة واستنباط الحلول، بمعنى الانتقال من “التعليم شبه البنكي” إلى “التعليم التفاعلي” وجعل المدرسة لا فقط معبرًا إلى الحياة بل تمارس فيها الحياة.
3- تدعيم المدرس الدافعية الداخلية للتعلم لدى المتعلمين بما يعيد المعنى الضائع للتعلم ويمتن علاقتهم بالمعرفة، وأن يسعى إلى استنبات الدافعية من خلال “الحوار البيداغوجي” مع المتعلمين.
4- استثمار المعلم الذكاء الانفعالي في الممارسات التربوية، والتعاطي مع الذكاءات المتعددة كما يرى(Gardner,1996)، فالانفعالات تشكل جزءًا أساسيًا في السلوك التربوي.
5- إرساء المدرس بيداغوجيا الحوار داخل مسار التنوير لتسهيلها الابتكار الجماعي والتجريب الاجتماعي في الحياة المدرسية ويُوسع حقل الممكنات ويتجاوز السلبية الاجتماعية، ولا يترجم التواصل هنا بنقل معلومات من باث إلى متقبل وإنما بإنتاج معرفة مشتركة توحد الرؤية.
6- بيداغوجيا المشروع(الأفق المستقبلي): يحرص المعلم على توجيه النظر لدى المتعلمين نحو أفق الغدّ وفكرة المستقبل، وأن يبرمج أنشطة تربوية في كيفية إدراكهم للزمن والتمكن الذهني منه، وتعد تربية الأفق الزمني والتحكم في الزمن عامل أساسي في بعث مناخ مساعد للنجاح والتخطيط المستقبلي وصياغة المشروع الشخصـي.
لا يمكن لفكرة المشروع الشخصي كفكرة تربوية أن تنشأ إلا بإعادة النظر في النموذج الهرمي للعلاقات الإنسانية داخل المؤسسات، وتهيئة السياق التربوي لبروز قيم التنوير في المدرسة لدى كل طالب وإقحام نوع من الدينامية لإضفاء المعنى على سلوكه.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.